في كل عام، وحين يطل شهر رمضان المبارك، شهر اليمن والبركات، يفتح بعض الناس مجالسهم لتكون محطة لتلاوة القرآن، هذا الكتاب العظيم الذي قد ينساه البعض طوال العام في الأدراج، ونعود له مرة أخرى في شهر رمضان. تعود الجميع أن تناقش المجالس الرمضانية شئون وشجون السياسة والمجتمع والثقافة والفكر، بل إن الكثير من الخفايا يماط اللثام عنها من خلال نقاشات هذه المجالس، أحدهم قال لي: إذا أردت أن تعرف الكثير فعليك أن تقصد المجالس الرمضانية... فهل يا ترى ماتزال جميع مجالسنا الرمضانية تضطلع بمثل هذه المهمة الحاج أحمد منصور من جزيرة سترة يقول: "لم تعد المجالس الرمضانية كما كانت في السابق، لقد كان القرآن يقرأ طوال العام، وكان بعض الوجهاء أو المؤمنين يفتحون مجالسهم لتلاوة القرآن، وبعد أن ينتهي القارئ من التلاوة، يتناقش الحضور في معاني الآيات القرآنية بعكس اليوم، فما ان ينتهي القارئ يكثر الهرج والمرج وكأن شيئا لم يكن".
كتاب الله... هل حولنا قراءته إلى موضة؟
ويكمل "والأدهى من ذلك، والأمر، أن بعض المجالس لم تعد مجالس للذكر بتاتا، فاحترام كتاب الله هو الإنصات والتمعن في الآيات الكريمة كما جاء في كتاب الله، ولكن ما يحدث هذه الأيام أن قارئ القرآن في واد، والمستمعين في واد آخر، بل وقد يترك القارئ التلاوة أحيانا حين يستهويه موضوع معين، ويترك الكتاب ويعود له بعد أن يخوض مع الخائضين". ويضيف أن هذا التحول يعد تحولا خطيرا، فنحن المسلمين لدينا كتاب واحد مصدق حماه الله من التلفيق وكرمنا به، وعندما نأتي ونخالف الأوامر الإلهية ونحول مجالس الذكر والتلاوة إلى مجالس هريج وغيبة ونميمة "وما أزعجني أنه في مرة من المرات، وبينما كنت في أحد المجالس، كان القارئ يتلو القرآن، والجلوس في دنيا أخرى، ضحك ومزاح، بعضهم يضحك ويلهو جهرا وآخرون همسا. كان بعض الحضور يغتابون أحد الأشخاص، ومصادفة مر القارئ على الآية القرآنية التي تنهى عن الغيبة والنميمة، حينها، طأطأ المغتاب رأسه واسترجع واستغفر، وما أن اجتاز القارئ هذه الآية عاد إلى ما اعتاد عليه وكأن شيئا لم يكن". ويقول الحاج منصور: "ولعل أكثر السوالف التي تتخلل مجالس الذكر هي سوالف التجارة وسوالف الغيبة والنكت أحيانا. وحين يصل مجتمعنا إلى هذا المستوى فعلى الدنيا السلام. فأي دين هذا، وأي احترام لنبينا "ص"، وأي احترام لربنا عز وجل، وأي احترام لكتابنا المجيد. ومن يرجع إلى السيرة النبوية الشريفة يرى أن احترام القرآن سنة سواء في الإنصات أو التلاوة وحتى طريقة الجلوس، ولكن من يدخل بعض المجالس يرى أن تطبيق هذه الأمور غائب تماما، وأنا أجزم هنا بأن بعض رجال الدين ممن شهدتهم شخصيا لا يلتزمون بهذه الأمور فما بالنا بالناس العاديين، فهل يعقل أن يرى الشباب الشيخ الجليل يتحدث وسط مجالس الذكر ويتعلموا الصمت، والغريب أن هذا الشيخ حين أعطي المجال للقراءة غضب وخرج من المجلس حين سمع السوالف هنا وهناك وهو يقول: ما هذه المجالس، ولكن ألا يعلم هذا الشيخ بأن الموعظة لا تؤثر إلا من المتعظين أنفسهم".
مجالس رمضانية تتباهى بأفخر المأكولات
الحاج صالح جمعة ينقلنا معه إلى قضايا أخرى بقوله: "أين نحن من الروحانيات، أين نحن من شهر رمضان، نحن نجوع بطوننا ونتعب أجسادنا وفي الواقع أننا لا نعرف من الصوم شيئا، مساكين نحن، نمسك من الفجر ونحن لا نعلم بأن صيامنا كالخشبة البالية التي تكسر ببساطة... ولعل المجالس الرمضانية خير دليل على ما نقول، فشهر رمضان هو شهر يربي الإنسان على الصدق وعلى الطاعة المطلقة، فالصيام لا يعني الامتناع عن الطعام والشراب فقط، بل هو صيام الجوارح كلها، ولكنك تستغرب حين تدخل المجالس وتسمع الآيات القرآنية تتلى والناس في فلك عظيم، هذا يتحدث عن أيام الدراسة، وذاك يتحدث عن ما حدث له في السوق، وهذا يسرد مغامراته، وكأن هذه الأحاديث لا تفتح إلا حين يقرأ القرآن". يستطرد "وما يندى له الجبين أنك ترى المجالس الرمضانية التي يتلى فيها القرآن تتباهى بصناعة المأكولات الفاخرة، وتتنافس لجذب المستمعين إليها، ويزداد الإسراف والتباهي والتفاخر والتنافس في ختمات القرآن سواء في ليلة النصف أو في نهاية الشهر كما هو معتاد. وحين ترى هذه الأمور تدرك بأن شهر رمضان بعيد عنا كل البعد، كما أننا بعيدون عنه كل البعد. حتى أن المستمعين الذين يترددون على المجلس الفلاني - الذي يقدم أغذية فاخرة - لا يأتون للاستماع إلى القرآن، بل إنهم ينتظرون انتهاء المجلس الرمضاني بفارغ الصبر ولذلك يحاولون تمضية الوقت بسرعة من خلال الهرج والمرج والأحاديث الجانبية!". ويواصل "وكثرت في الآونة الأخيرة البرامج الترفيهية في القرى والمدن في شهر رمضان المبارك، ففي تلكم القرية تتركز الدورة الرمضانية في كرة القدم، وهنا في كرة اليد وهناك في الطائرة. لماذا لا تحلو الدورات إلا في شهر رمضان. نحن لا نقول إننا يجب أن نحبس شبابنا في المساجد، ولكن لا يعني ذلك تركهم تائهين في ملذات الحياة".
الخيام الرمضانية تحل محل مجالس الذكر
أم سالم تبدي رأيها في الموضوع، فتشير إلى قضية أخرى تراها خطيرة للغاية، وهي انتشار الخيام الرمضانية التابعة للفنادق وتلك المنتشرة في الأسواق، والأسوأ من ذلك أن بعض الخيام خصصت للعنصر النسائي، وهو ما فاقم الوضع وزاده خطورة. فبدل قراءة القرآن وعبادة الرحمن، انتشرت الشيشة والطرب واللهو، واستبدلت بمجالس الذكر، وهذه ظاهرة خطيرة ستفقد شبابنا ما بقي في داخلهم من مظاهر الإسلام. وتواصل "هذا إلى جانب مقاهي الشيشة التي تنتشر في مختلف القرى والمدن، فما أن يهل شهر رمضان حتى تزداد عروض المقاهي وتفترش الشوارع بالكراسي ويزداد عدد المترددين من الشباب والشابات". هل تغير شهر رمضان المبارك وتغيرت فروضه؟ أم نحن من تغير... لماذا تحولت مجالس الذكر وتلاوة القرآن الكريم إلى مجالس يتخللها الهرج والمرج؟ وهل صحيح أن المجالس تحولت إلى مطاعم تتنافس تقديم أفخر أنواع المأكولات والمشروبات؟ ولماذا ابتعد شبابنا عن روحانية هذا الشهر الفضيل وتفرغوا إلى الدورات والخيم الرمضانية؟ هل نسينا ما لنا وما علينا في هذا الشهر، أم إننا اخترعنا أشياء جديدة جعلتنا بعيدين كل البعد عن شهر الله وجعلت شهر الله بعيدا عنا... يا ترى ما الأسباب؟ هل هو التقصير من مؤسسات المجتمع المدني؟ أم التقصير من أنفسنا
العدد 1129 - السبت 08 أكتوبر 2005م الموافق 05 رمضان 1426هـ