بعد أن فجرت حركة «طالبان» الأفغانية القضية قبل عامين، بثت قناة «الجزيرة» أمس (الاثنين) صورا تظهر جنودا أميركيين يقومون بتوزيع نسخ من الإنجيل على السكان المحليين بالقرب من قاعدة باجرام العسكرية قرب كابول، وهو الأمر الذي يؤكد أن حملات التبشير لم تقتصر فقط على بعض المنظمات التي تعمل تحت ستار الإغاثة وإنما هي سياسة مقننة من قبل الاحتلال الأميركي.
والدليل على ذلك أنه بجانب الصور، بثت «الجزيرة» فيلما وثائقيا أنتجه الأميركي برايان هيوز وهو عسكري سابق بأفغانستان ويظهر بعض الضباط والجنود الأميركيون في جلسات دينية خاصة يتحدثون عن أهمية نشر تعاليم المسيحية في صفوف الأفغان.
وفي مشهد من الفيلم المذكور، يلقي أسقف بالجيش الأميركي أمام الجنود كلمة يؤكد فيها أهمية التبشير الذي يصل إلى مستوى العمليات القتالية بقوله: «الجنود يصطادون الرجال، ونحن علينا أن نصطاد الرجال من أجل دعوتهم إلى مملكة الرب عبر التبشير».
ويبدو أن حرية الأديان والتسامح الديني هي ذريعة الحكومة الأميركية لاختراق المجتمع الأفغاني المعروف بتمسكه الشديد بدينه الإسلامي، حيث كشفت وكالة «أسوشيتدبرس» في تقرير مؤخرا أن لجنة حكومية أميركية تسعى لإرساء دعائم النشاط التنصيري في أفغانستان مستغلة سقوط نظام «طالبان» وتوسع النفوذ الأميركي هناك، قائلة: «وبفعل قناعة المنصرين بصعوبة مهمتهم وسط مجتمع متمسك بدينه يشبه النشاط التنصيري الثعبان الذي يسعى للتسلل إلى داخل البيت الأفغاني على حد تعبير نعيم آخوند أحد أئمة قندهار».
وأضاف التقرير أن مساعي التنصير تلك تحتمي بشعارات مثل «حرية الأديان» و «التسامح الديني»، مذكرة في هذا الصدد باستقبال الرئيس الأميركي السابق جورج بوش المنصرتين الأميركيتين داينا كوري وهيثر ميرسر بعد إطلاق سراحهما في أفغانستان استقبال الأبطال، بينما اعترفت ميرسر بمحاولة تنصير بعض الأفغان على رغم أنها أنكرت ذلك خلال جلسات محاكمتها من قبل نظام «طالبان»، وفي استهتار واضح بمشاعر الأفغان، أضافت ميرسر أنها ترغب في العودة لتكرار ما قامت به دون ندم.
وأوضح أن حملات التنصير بدأت منذ الأيام الأولى للغزو في العام 2001، عندما بعثت اللجنة الحكومية الأميركية من أجل الحرية الدينية في العالم برسالة إلى وزير الخارجية آنذاك كولن باول حثته فيها على ضرورة استغلال الإدارة لنفوذها في أفغانستان من أجل «ترقية فكرة إقامة نظام حكم يطبق مبدأ التسامح الديني»، مشيرة إلى أن تلك اللجنة كانت عينت من قبل الكونغرس والرئيس بناء على قانون صادر في العام 1998 من أجل مراقبة الحريات الدينية عبر العالم.
وكشف التقرير أيضا أن مبادرات الإدارة الأميركية في مجال النشاط التنصيري تحظى بدعم المنظمات التنصيرية، حيث يقول الناطق باسم لجنة التنصير الدولية في مدينة ريتشموند بولاية فرجينيا وندي نورفيل: «إن الإنجيل يكلفنا بتقاسم إيماننا مع الآخرين»، كما نشر بن هومان وهو مدير منظمة مسيحية تنشط في مجال الإغاثة رسالة مفتوحة على الإنترنت عبر فيها عن أسفه لأنه لم يجد ولا كنيسة واحدة خلال زيارته لأفغانستان، قائلا: «يقف المجتمع الأفغاني على عتبة الموت من دون المسيح، إننا نحتاج إلى وقت أكثر لعرض حقيقة ابن الرب على المسلمين في العالم».
وانتهى إلى القول إن تصريحات نورفيل وهومان تسيطر على منظمات كثيرة خارج أميركا على غرار منظمة «ملجأ الآن» الألمانية التي توظف المنصرين الأميركيين كوري وميرسر حيث يقول رئيسها جواكيم جايجر إنه يتعين على كل بلد في العالم ضمان الحرية الدينية لمواطنيه وينفي في الوقت ذاته النشاط التنصيري عن منظمته رغم اعتراف ميرسر بمساعي موظفيها لرد المسلمين الأفغان عن دينهم.
وكانت «طالبان» أول من فجرت قضية التنصير في أفغانستان عندما قامت في 2007 باختطاف 23 شخصا من كوريا الجنوبية، متهمة إياهم بتنفيذ حملات تنصير في المناطق الفقيرة والنائية في أفغانستان.
هذا الحادث أشعل ثورة غضب داخل أفغانستان وحتى داخل كوريا الجنوبية نفسها، وخاصة أن «طالبان» اشترطت انسحاب القوات الكورية للإفراج عنهم، وهو ما تم بالفعل في أواخر 2007.
لقد ورط هؤلاء الأشخاص الدولة البوذية في مشكلات سياسية ودينية رغم أن المسيحيين فيها أقلية، واضطرت لإصدار قرار في 27 يوليو/ تموز 2007 يحظر سفر مواطنيها إلى كل من أفغانستان والعراق والصومال مع معاقبة كل مواطن كوري يدخل هذه الدول بدون إذن من الحكومة وضرورة أن يترك الكوريون الجنوبيون المقيمون هناك تلك الدول في أسرع وقت ممكن، وهو ما دعا كنيسة سايمول الواقعة في ضواحي سيئول والمسئولة عن إرسال المنصرين الرهائن لأفغانستان لسحب 42 مبشرا آخرين كانوا يعملون في أفغانستان.
أيضا دعت وسائل إعلام محلية الكنيستين الكاثوليكية والبروتستانتية في البلاد إلى إعادة النظر في سياستها الخاصة بإرسال البعثات التنصيرية إلى الخارج وخصوصا للدول الإسلامية وانتقدت سيطرة المسيحيين على سياسة الدولة الكورية وإظهار توجه مسيحي لها بعد إرسال 17 ألف مبشر مسيحي للدول الإسلامية ومنها العراق حيث خطف أيضا ثمانية منهم هناك، محذرة من أن تورط كوريين في أعمال التنصير أدى إلى تشويه صورة كوريا الجنوبية في أعين العالم الإسلامي وأضر بمصالحها الخارجية.
ويرى مراقبون أنه في دولة كأفغانستان يدين 100 في المئة من سكانها بالإسلام، فإن التزام حكومتها الصمت تجاه أنشطة التنصير من شأنه أن يؤجج الغضب الشعبي ويجلب لها المزيد من الاتهامات بالعمالة لأميركا، بل ويزيد شعبية «طالبان» أكثر وأكثر، وبالنسبة للاحتلال فإنه باستفزازه الصارخ لمعتقدات الأفغان عبر توزيع نسخ من الإنجيل باللغات المحلية (البشتو والداري) على السكان المحليين وحرق المصاحف وتدنيس المساجد، يكون قد رسم بنفسه نهاية مأساوية لقواته بأفغانستان وبعبارة أخرى يكون قد زرع بذور فنائه.
العدد 2433 - الإثنين 04 مايو 2009م الموافق 09 جمادى الأولى 1430هـ