أسابيع مضت مذ بدأت شوارع البحرين ترتدي أجمل حللها وتظهر في أبهى صورها. وأيام مرت مذ شرعت مؤسسات الدولة في إقامة مختلف الفعاليات والأنشطة احتفالاً بعيد البحرين الوطني الذي يقام هذا العام تحت شعار المحبة والولاء. صور الاحتفالات الجميلة كثيرة ومتنوعة تنتشر في كل أرجاء البحرين، تأتي هذا العام مصحوبة بعدد من التصريحات الطموحة جاء أحدها على لسان وزير التربية والتعليم ماجد النعيمي الذي صرح قبل أيام مؤكداً شعار المحبة أعلاه، أنه «لم يعد من الممكن أن يكون التعليم بمعزل عن تربية المواطنة في بعدها الشمولي العام الذي يتضمن تمثيل حضارة الوطن والاعتزاز بتراثه وإنجازاته بين الأمم» مشيراً إلى قيام وزارته «ولأول مرة في تاريخ التعليم النظامي في البحرين بإعداد أول منهج متكامل لتربية المواطنة يجمع بين المفاهيم والمهارات والممارسات الحياتية». كلام الوزير الذي تردد على لسان عدد من مسئولي وزارته، يعبر عن رؤية ناضجة تحمل في طياتها طموحات عالية وآمالاً كبيرة بغد أفضل للأجيال القادمة من أبناء هذا الوطن. مستقبل يعي فيه كثيرون معنى أن تصبح «مواطناً بحرينيًّا» مواطناً قد لا يتغنى، كما فعلت أجيال سابقة، بجمال نخيلات البحرين وعذوبة مياه ينابيعها، وحمرة علم بلادها، خصوصاً ان قاموسه الوطني قد لا يحوي النخلات ولا المياه العذبة. مواطن، إن تحققت الطموحات وتحولت الأحلام إلى واقع، سيكون على درجة عالية من الوعي والثقافة بما له من حقوق على الوطن، وبما للوطن من حقوق عليه. درجات الشعور بالانتماء لديه عالية، لا لنخيلات البحرين ولا لعيونها الجافة المؤودة، بل للبحرين الرمز، وللأرض البحرينية بكل ما تجسده من معان، وبكل ما توفره لأبنائها من عطاء وحنان وأمان و... كرامة إنسانية. هي المواطنة إذاً، وهو الولاء للوطن، الطموح والأمل في آن واحد، الطموح إلى غد أفضل، والأمل في الخروج من نفق كثير التشعبات يحاول البعض تضليل أبناء البحرين بكل أطيافهم الدينية والعرقية، في مغاوره. وهو الحديث عنها والإلحاح على ذكرها في كل النقاشات والسجالات الوطنية هو ما يدفعنا اليوم لبدء هذه السلسلة التي تناقش ما يعنيه هذا المفهوم، وحقيقة ما يروّج له البعض من تعارضه مع أي أنواع الولاء التي تحملها مختلف الجهات، وما تستتبعه الدعوة إليه من مسئوليات وواجبات على الجميع حكام ومحكومين.
المواطنة والولاء... طريق ذو مسارين
حوارنا الأول كان مع رئيس جمعية العمل الوطني الديمقراطي (وعد) ابراهيم شريف الذي أطلق ضحكة متألمة عند توجيه السؤال إليه عن حقيقة مفهوم المواطنة الذي ينبغي التعاون معاً على ترسيخه، بدأ بقوله «المواطنة والوطن ومواطنوه كلهم مساكين». وحين تعجبنا رده، أجاب وأصداء الضحكة المرة ذاتها لايزال يتردد في كلماته «المواطنة هي طريق ذو مسارين، ولاء الوطن للمواطن، وولاء المواطن للوطن، فلا يمكن بأي حال من الأحوال توقع ولاء المواطن للوطن، إذا لم يحصل على ولاء مشابه من وطنه». ويوضح «إذا تخلى الوطن عن أبنائه فستظهر الهويات الفرعية، كالطائفية والمذهبية والعرقية، لتأخذ السيادة محل الوطن. دور الوطن هو لمّ شمل الجميع وضمان حقوقهم، فإن عجز عن ذلك اتجه كل طرف إلى الجهة التي تضمن حقوقه وتحميها، لتظهر الهويات الفرعية التي قد تغلب الولاء للوطن حينها». والحديث عن الهويات الفرعية لا يعني إلغاءها، فالولاءات العائلية والقبلية والدينية والمذهبية «موجودة دائماً، ولسنا بحاجة إلى فقد هوياتنا لنحقق مجتمع المواطنة» بل إن المطلوب هو «أن تكون ولاءاتنا للبحرين أولاً ثم تأتي الولاءات الفرعية، وليس ذلك فحسب بل يجب ألا تتضارب هذه الولاءات مع الولاء إلى الوطن، وإذا حدث ذلك فيجب تقديم مصلحة الوطن قبل كل شيء». على رغم ذلك يدعو شريف إلى ما يسمى بمجتمع الانصهار «فهناك دائماً وطن واحد على رغم كل الاختلافات والكل يعمل من أجله ويتعاون لتحقيق مصالحه». وفي الوقت الذي يتفق فيه الأكاديمي باقر النجار مع رؤية شريف، فإنه يؤكد أن الانصهار الكامل من أجل الوصول الى مجتمع المواطنة هو أمر«لا يمكن تحقيقه في أي مجتمع، إذ تبقى الجماعات والإثنيات لها خصوصيتها وفرعيتها، وهي خصوصيات تشكل رافداً من روافد التعميق والإثراء في أي مجتمع، لكنها يجب أن تصب في الثقافة العامة للمجتمع».
مواطنة أم موالاة؟،
النجار يرسم خطاً فاصلاً بين المواطنة والموالاة إذ يقصد بالأولى الشعور بالانتماء الى وطن ما، وما يستوجبه ذلك من حقوق وواجبات وهي مسألة ذات قناتين تصب الأولى من الدولة للمجتمع والثانية من المجتمع للدولة. أما الموالاة، فهي ما أنتجت تجاذبات واتهامات وجهت إلى بعض أطراف المجتمع ربطتها بأطراف خارجية، وهي تراشقات يرى النجار أنها «جزء من ثقافة سياسية قائمة بين مختلف الاطراف، وهو ما لن يكون في صالح المجتمع، إذ لا يمكن لأي طرف أن يوجه إلى أي طرف آخر مكون للمجتمع وله دور أساسي اتهامات بعدم الولاء أو مناصرة أطراف خارجية. هذه النزعات التي يجدها النجار جزءاً من طبيعة الصراعات التي تأتي في مرحلة التحول هي نزعات قد تطول وقد تقصر ولذلك «يجب ألا تأخذنا بعيداً، بل يجب على الأطراف المعنية ان تعمل على اثبات انتمائها الى المجموعة. إذ إن ما يقال هو مسألة تتعلق بخطاب سياسي أكثر من كونه متعلقاً بالانتماء السياسي». هنا كان لا بد من التعريج على المرجعية الدينية التي يستدل بها البعض لتوجيه الاتهام إلى أبناء الشيعة تارة وإلى أبناء السنة تارة أخرى بالولاء إلى جهات خارجية. هذه المرجعية التي «لا تنفى ولاء الشيعة في أي مجتمع ينتمون اليه والقول بالمقابل بالنسبة إلى مرجعية جماعات سنية إلى مرجعية واضحة في الأزهر وهو ما لا ينفي انتماء هؤلاء الى هذا المجتمع. لذلك أعتقد أن ما يقال هو جزء من ثقافة التراشق السياسي أكثر من كونه انعكاساً لحقيقة قائمة على أرض الواقع». إضافة الى ذلك يرى النجار ان جزءاً من هذا التراشق ومن الانحيازات المذهبية الموجودة هو نتاج «تأثير أطراف اقليمية، فالحال العراقية تصب في الوضع القائم في البحرين، كما هي الحال الايرانية، كما الحالات الأخرى في باقي قطاع العالم العربي والاسلامي». ويستدل بحادثة التراشق الشهيرة التي حدثت في المجلس النيابي بشأن مسألة الفلوجة إذ اعتبرها «انعكاساً للحال العراقية وهي حال لن تستمر بشكلها الحالي إذ لا بد أن تستقر بعد برهة من الزمن عند حال معينة».
الطائفية ... تفجر الهويات وتقوض المواطنة
بعيداً عن الولاءات المذهبية والمرجعيات الدينية التي لا تتعارض بأي حال مع المواطنة، يلقي شريف اللوم الأكبر في عرقلة ترسيخ المواطنة على «سياسات الدولة أو سياسات بعض قوى المجتمع التي قد تأخذ أشكالاً من التمييز الطائفي أو الطبقي أو العرقي أو المذهبي»، التي تلغي «كل امكانات الحديث عن المواطن الملتزم بمصالح الدولة العليا مادامت الدولة غير ملتزمة بمصالحه وحقوقه». وليس ذلك فحسب، بل إن النجار يرى أن هذا التمييز يلغي أحد الأسس التي يقوم عليها مجتمع المواطنة وهو الذي «يشعر جميع أفراده بالمساواة في الحقوق والواجبات». وهو كما يضيف شريف «يؤدي الى تفجر الهويات الفرعية غير الجامعة، وهي هويات ظهرت منذ منتصف سبعينات القرن الماضي. هذه الهويات لم تكن موجودة في الخمسينات أو الستينات وهي الفترة التي انصهرت فيها القبيلة مع أبناء غير القبائل وحدث فيها تقارب كبير بين السنة والشيعة، كما قامت خلالها حركة سياسية ذات أسس وطنية». ويسترسل «لكن مع منتصف السبعينات ظهرت حركات اجتماعية انتهت الى كونها حركات سياسية ذات أسس مذهبية، وهكذا وصلنا اليوم الى الحال التي أصبحت فيه كل الحركات الموجودة في البحرين ذات أسس طائفية». بالنسبة إلى رئيس جمعية المنتدى عادل فخرو، فإن «الخطر الأكبر على المواطنة يأتي من تعزيز الطائفية وانتشارها» وهي التي عادت إلى الظهور بعد أن كان هناك توجه قوي للقضاء عليها في 03 04 سنة الماضية، «أما الآن فان فخرو قلق جداً لظهور الطائفية التي وصلت حتى لمؤسسات المجتمع المدني التي أصبحت كثير من الأمور فيها تدار بشكل طائفي كما أصبحت تعج بالتحالفات القائمة على أسس طائفية، حتى وصل الأمر للانتخابات في بعض الشركات والنوادي والجمعيات». وفي حين يلقي فخرو جزءاً من اللوم على بعض «أعضاء المجالس المنتخبة الممثلة لشعب البحرين، الذين ينتخبون ليمثلوا منطقة ما، لكنهم في الواقع يركزون على تمثيل فئة معينة، ويعطون أنفسهم الحق إطلاق تصريحات مؤذية ومثيرة للطرف الآخر فقط من أجل مكاسب انتخابية»، فان النجار يفضل ألا يخص أي طرف باللوم من دون الآخر إذ يرى «أن الرأي الذي يجب أن يطرح يجب ألا يدور حول فشل الاندماج وقيام مجتمع المواطنة، فنحن أمام مفترق طرق، والطريق الذي يجب أن يتشكل في إطاره مجتمع جديد وهو مجتمع المواطنة واضح وآليات تشكيله واضحة ومعروفة لكل الأطراف الأهلية والرسمية».
تمييز طائفي أم طبقي
هو التمييز إذاً ما وصل بالحال الى ما هو عليه، لكن عن أي تمييز نتحدث، أهو تمييز ذو أسس مذهبية طائفية، كما تؤكد كثير من التصريحات والشواهد، ام انه كما يرى شريف تمييز له أسس أخرى يتم التغافل عنها أو تجاهلها لحسابات عدة. تمييز سببه عزلة الدولة لدينا عن المجتمع وعدم تمثيلها لكل قواه، وهي كما يؤكد شريف «ليست بحاجة الى أي دعم مجتمعي لتستمر في وجودها. فهي دولة قوية بسبب نفوذها المالي، إذ إنها لا تمول نفسها من خلال نظام ضرائب مثلاً لتحتاج لدعم شعبي، لكنها تعتمد النفط مصدراً لثروتها». ولذلك فإنها «تراعي مصالحها أولاً ومن ثم توزع عطاياها على المقربين لها. وما يحدث لدينا هو أن معظم تلك العطايا توزع على المناطق الموالية وهي المناطق الجنوبية التي يحصل أفرادها على كل العطايا والوظائف». بعدها، والحديث لايزال لشريف «ينتقل ما تبقى من العطايا الى المجموعات الأقل موالاة، لتحصل
العدد 1203 - الأربعاء 21 ديسمبر 2005م الموافق 20 ذي القعدة 1426هـ