العدد 3014 - الإثنين 06 ديسمبر 2010م الموافق 30 ذي الحجة 1431هـ

عبور الحدود

غيرشوم غورنبرغ - مراسل كبير في The Prospect وهو مؤلف كتاب «الامبراطورية بالصدفة: إسرائيل وميلاد الم 

06 ديسمبر 2010

جلست دلال باسترخاء في حضن والدها. ابتسمت ولكنها لم تنطق إلا بكلمة واحدة: «أنا». تلك الكلمة هي كامل قاموسها اللغوي وهي في الثالثة والنصف من عمرها. تحسس صديقي أليعازر بئيري قدميها بانتباه ومرر يده على ظهرها. «هل تستطيع أن تمسك بشيء؟» سأل بئيري.

«لقد بدأت تمسك الأشياء للتو بيدها اليمنى»، أجاب والدها أسامة رسرس: «هل تمرر الأشياء من يد ليد؟»

«كلا. اليد الأخرى لا تعمل».

استمر الفحص. هب نسيم مسائي بارد عبر شرفة فندق إفرست، وهو فندق صغير يقع على رأس تلة في ضواحي بلدة بيت جالا في الضفة الغربية. تقع بلدة بيت جالا نفسها في المنطقة (أ)، وهو الجزء من الضفة الغربية الواقع تحت حكم السلطة الفلسطينية بشكل كامل، ويُمنع دخول الإسرائيليين إليه بأمر عسكري إسرائيلي. يقع مستشفى ألين، وهو المستشفى التأهيلي الوحيد للأطفال في الشرق الأوسط، حيث يعمل بئيري رئيساً لأحد الأقسام، في مدينة القدس، التي لا يمكن للفلسطينيين من الضفة الغربية الوصول إليها إلا بتصريح إسرائيلي. حياتنا ممزقة إلى شظايا بسبب حدود لا تنتهي في مساحة غاية في الصغر.

إلا أن فندق إفرست يقع في المنطقة (ج) من الضفة الغربية، وهي تحت السيطرة الإسرائيلية، مما يعني أن بإمكان الإسرائيليين والفلسطينيين التلاقي هناك. إنها أرض حرام، أو بالأحرى أرض «حلال».

دلال مصابة بتلف دماغي أسبابه غير معروفة في هذه اللحظة. قد تكون حالة وراثية أو شللاً دماغياً ناتجاً عن نقص الأوكسجين قبل أو أثناء الولادة. قصة فحص دلال قصيرة، وأعترف أنها تضم عدداً كبيراً من الشخصيات، وتحمل في طياتها الأمل بنهاية سعيدة.

كان العامل المساعد هو الصحافي جدعون ليفي، الذي يكتب بتفانٍ غاضب استثنائي فردي حول ظلم الاحتلال وجوره، لصحيفة هآارتس اليومية العبرية. يتنازعني السؤال عما إذا كان بإمكان الصحافة تحويل أعداد كبيرة من الناس لصنع السلام، وما إذا كانت تستطيع تغيير الصورة الكبيرة. أود أن أعتقد أن باستطاعتها ذلك، ولكن حتى هذه اللحظة يصعب إثبات هذه النظرية. إلا أنه في هذه الأثناء أثبت جدعون ليفي أن باستطاعة مقالة أن تغير الصورة الصغيرة. وحتى مع استمرار الاحتلال يمكن للإسرائيليين والفلسطينيين هنا وهناك عبور الحدود والتخفيف من الظلم. أما أنا فأجد بعض العزاء في ذلك.

نشر جدعون ليفي في شهر سبتمبر/ أيلول الماضي مقالة حول أسرة رسرس. ولد أسامة في الضفة الغربية، أما زوجته سونيا فمن مدينة رفح بقطاع غزة. بعد زواجهما أقاما في مدينة دورا في جنوب الضفة الغربية، وعمل أسامة مع السلطة الفلسطينية. دلال هي طفلتهما الثانية. عندما بلغت الشهر الرابع من عمرها أدرك والداها أنها تعاني من مشاكل خطيرة في النمو. في أواخر العام 2007 أخذت سونيا دلال معها لزيارة والدها المريض في رفح. بينما كانا هناك علقا في الحصار الإسرائيلي لغزة. أخيراً ومع نهاية الغزو الإسرائيلي العام 2009 حصلت الطفلة وأمها على تصريح إنساني للعبور إلى مصر، وسافرتا من هناك إلى عمّان. ولكن إسرائيل تمنع الآن سكان غزة وبشكل صارم من دخول الضفة الغربية. كان أسامة يزورهما في عمان. عندما ولدت سونيا طفلهما الثالث أصيبت بقنوط ما بعد الولادة، فقرر أسامة المساعدة بإعادة دلال إلى الضفة الغربية، ولكن سونيا لم تستطع القدوم معه.

ركّز جدعون ليفي وهو يصف ذلك على جنون السياسة التي تفصل بين أفراد الأسر. ولكنه تأمّل كذلك في «العجائب التي يمكن أن تتم لصالح الطفلة... في مكان مثل مستشفى ألين للأطفال في القدس».

دلّني إليوت هورويتز، أستاذ التاريخ اليهودي المحافظ بجامعة بار إيلان على المقالة. وهورويتز أكثر من مجرد قارئ متفانٍ لكتابات جدعون ليفي، فهو يشعر بواجب ديني للتجاوب مع ما يقرأ، وقد دعاني عدة مرات للمساعدة. عندما قرأت القصة توقفت عيناي عند مستشفى ألين.

عندما يعود الأمر إلى الروابط الاجتماعية، تعتبر إسرائيل مجرد قرية صغيرة بدلاً من دولة.

بئيري، جاري السابق وزميلي في الدراسات التلمودية هو رئيس دائرة تأهيل الجهاز التنفسي بمستشفى ألين. لم يحتج الأمر لأكثر من ثلاثين ثانية من الشرح على الهاتف قبل أن يتبرع بفحص دلال. أخذته أنا وهورويتز بعد ذلك لمقابلة الفتاة ووالدها. ويقول بئيري إن السؤال الذي احتاج لإجابته هو ما إذا كانت الرعاية سوف تحسّن وضع الطفلة، فمستشفى ألين يقدم خدمات التأهيل وليس الرعاية التمريضية طويلة الأمد.

احتاجت عملية إعداد المكان والزمان فترة أطول. لم يسمح برنامج عمل بئيري له أن يغادر إلا بعد هبوط الظلام. السفر في الضفة الغربية هو جزء من عمل المراسِل الإخباري، إلا أنه كانت هناك مؤخراً عمليات إطلاق نار ليلية على سيارات إسرائيلية على طرق قرب الخليل وبيت لحم. لم أكن أرغب بالمجازفة مع رجل ينقذ حياة الأطفال، أو أن أضطر لأن أشرح لزوجته لماذا اعتقدت أن قيادة السيارة على هذه الطرق هي أمر منطقي. اقترح موسى أبو هشهش، الفلسطيني الذي يعمل في الميدان مع مجموعة «بتسليم» لحقوق الإنسان الإسرائيلية والذي أعلم جدعون ليفي أصلاً بمشكلة أسرة رسرس أن فندق إفرست يشكل مكاناً آمناً للقاء.

بينما كنا نشرب القهوة العربية المركّزة على الشرفة أخبر أبوهشهش هورويتز وبئيري وأخبرني النتائج الأخرى لكتابات جدعون ليفي: الأمر الأهم أن الإدارة المدنية للجيش أصدرت إذناً فوق العادة لسونيا رسرس لتعود إلى أسرتها في الضفة الغربية. «إنهم يخافون من جدعون ليفي» قال أبوهشهش. أرسل قارئ إسرائيلي أموالاً ولعباً لدلال. بدأ خبير العلاج البدني الحضور مرة في الأسبوع كمتطوع للعمل معها.

نطقت دلال بكلمات غير مفهومة وقالت «أنا»، وللحظات قليلة أمسكت أصبعها بيدها الجيدة. طرح بئيري بعض الأسئلة ودرس سجلات طبية أحضرها أسامة. قال بئيري في النهاية وبصوته الهادئ المتمرّس: «إنها فتاة طيبة ذكية» و»إنها تعاني من تخلّف شديد في النمو» وتستطيع بالتأكيد الاستفادة من الرعاية التي تحافظ على نوعية جيدة من الحياة وتسمح لها أن «تتطور لتصل حدود إمكاناتها، مهما كانت تلك الإمكانات». وهي بحاجة لرعاية طبيب عظام لأقدامها، وكرسي يصمم خصيصاً يساعدها على الجلوس بشكل صحيح. ويستطيع هو أن يحولها إلى مستشفى ألين للحصول على فحص متعدد التخصصات حيث سنعدّ لها «خطة طويلة الأمد» حسب قوله.

أضاف أبوهشهش، الذي جعله عمله في مجال حقوق الإنسان خبيراً في بيروقراطية الحدود، أنه بوجود التحويل إلى المستشفى سوف يتمكن أسامة ودلال من الحصول على تصاريح لدخول القدس. دفع التكاليف يشكل قضية أخرى. تموّل السلطة الفلسطينية أحياناً العلاج في إسرائيل غير المتوافر في المستشفيات الفلسطينية، ولكن الحصول على الموافقة أمر «صعب جداً». قررنا عبور ذلك الجسر عند حصولنا على التحويل إلى المستشفى. سوف تظهر الأموال بطريقة ما.

افترقنا. كانت لدي مشكلة إضافية أخرى تحتاج لحل لدى عودتي إلى القدس. رفض سائق التاكسي الذي أخذنا إلى فندق إفرست، وهو من القدس الشرقية أن يقبل أجرة. «ولكنك قضيت ثلاث ساعات معنا» قلت له: «سأعطيك مالاً، وتستطيع التبرع به لمن ترغب». وافق على ذلك.

أعرف أن ذلك لن يحقق السلام الإسرائيلي الفلسطيني، ولن يعطي دلال حتى حياة عادية، وإنما حياة أفضل بقليل.

إذا كان هناك من شيء تعلمته من بئيري في تلك الأمسية فهو أنك تفعل ما بوسعك، عندما يمكنك ذلك، ولك في ذلك السلوان.

العدد 3014 - الإثنين 06 ديسمبر 2010م الموافق 30 ذي الحجة 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً