طلب مني الآخ الفاضل الشاب المؤمن عبدالأمير العريبي ابن الفقيد الغالي أن أكتب عن والده المرحوم نبذة عن حياته بصفة أني كنت معاصراً له في السنوات الأخيرة من وجوده في النجف الأشرف وملازماً له وشديد التعلق به، فاستجبت له في الحال ووعدني بنشره قريباً في كتاب يصدر عنه... ولكن بعد مرور أكثر من عام على وفاة فقيدنا الغالي تفاجأت بطبع كتيب صغير يحتوي على سطور قليلة، أصدرته عائلة الفقيد يتحدث عن عام ولادته ونشأته العلمية وهجرته إلي عاصمة العلم الحيدرية وصور لمراسم التشييع والتعازي. والحق انه لم يف حتى بشيء بسيط. فمهما كتبنا عن سماحته نبقى مقصرين، انه من باب أداء بعض حقوقه. فلقد عرفناه عالماً فذاً من علماء هذا البلد المعطاء وهذه الأرض الخيرة... أرض البحرين التي قدمت الكثير من العلماء الأعلام. كان شيخنا الأجل عالماً فاضلاً جليلاً زاهداً في حب الدنيا مشتغلاً بالعلم والعبادة وهو على ما كان عليه من العلم والفضل لم يزاحم أحداً في منصبه ولم يتفاخر عليه بعلمه بل كان يتحلى بروح التواضع والخلق الكريم والنفس الهادئة المطمئنة وهذه هي سمات صاحب القلب الطاهر، فإنه إذا صفا القلب من الشوائب وتخلص من الادران العالقة زكى وتجلت فيه الأنوار وانكشفت له الحقائق المبهمة وأنارت له مصابيح العلم حتى ليكاد أنه يعلم الغيب وأصبحت لديه الفراسة كما ورد في الحديث «احذروا فراسة المؤمن فإنه يكاد أن يعلم الغيب».
إن شيخنا الأجل كان من هذا الصنف. وطبعاً وبحسب العادة المألوفة قديماً في البحرين فقد بدأ الشيخ دراسته هنا في بلده في الكتاتيب وأخذ بعد ذلك في دراسة المقدمات وتقدم في الكثير منها. ثم بعد ذلك عقد العزم على الرحيل إلى جامعة العلم الكبرى النجف الأشرف ليغرف من منا بعها العلوية وينهل من مناهلها المرتضوية. فالنجف الأشرف وهي منذ أن وضع حجر أساس العلم فيها أبوجعفر محمد بن الحسن الطوسي شيخ الطائفة نورالله مرقده سنة 449هـ في السنة التي حدثت فيها الفتنة في بغداد وأحرقت داره بالكرخ وذهب ما فيها من المجلدات الكثيرة والنفائس الفريدة انتقل إلى الغري وأقام في وادي السلام مجاوراً للحضرة المقدسة الشريفة ومنذ ذلك الحين وعلى مدى أكثر من ألف عام وهي تخرج المئات من جهابذة العلماء وأساطين العلم ويصدر عن مطابعها الألوف من الكتب والمجلدات في مختلف العلوم. بما ملأ فراغاً كبيراً في المكتبة الإسلامية في العالم.
فالنجف الأشرف لغز محير كما ورد بقلم الشيخ محمد جواد مغنية في كتابه «من هنا وهناك» تحت عنوان «النجف الأشرف» قال رحمه الله ما نصه بالحرف الواحد: «النجف لغز محير، يدخلها واحد من الناس لا يعرف له أصل ولا فرع. لا مال له ولا كفيل من إنسان أو نظام ولا شغل في تجارة أو مهمة أو غير ذلك لا شيء على الاطلاق إلا لقصد طلب العلم ثم تمضي الأيام وإذا بهذا النكرة المعدم علم بين الأعلام... أليس هذا في ظاهره خارقاً للمعتاد؟». نعم، على هذه الأرض المقدسة سر من الأسرار الإلهية. فالعالم في النجف الأشرف موسوعة عامة في الفقه والحديث والتفسير والحكمة والفلسفة. وهكذا كان شيخنا الفاضل العريبي... لقد كنا نتحلق حوله في الصحن الشريف عند المساء وكان يفيض علينا من علمه، كنت أنا في منتصف الستينات في أول مراحل الدراسة الحوزوية احضر دروساً في المقدمات وهي مما يتعارف عليه بالسطوح، الشرائع في الفقه والقطر والألفية في النحو والحاشية في المنطق والمعالم في الأصول. أما أستاذنا الشيخ فقد أنهى البحث الخارج وحصل على أعلى الشهادات. كان أسلوبه في محاورة أقرانه ونظرائه من أهل العلم أشبه بالفيلسوف الناقد المتمكن، فهو يعطي الفرصة للمتباحثين ويتجاهل الاذلة فما يلبث حتى يحوط عليهم بحجته الدافعة بما استنبطه من الكتاب والسنة ويسد عليهم المنافذ. وهذا هو المتبحر في علم صناعة الأحكام. فهو أشبه بعالم طبقات الأرض يدرس مادة الخام ويستخرج منها المشتقات. وهكذا الفقيه الجامع لشرائط الفتوى، يعرض إلى الأدلة من مصادرها (الكتاب والسنة). ويستخرج منهما الكنوز والأسرار وكان فقيدنا الراحل قوياً في البحث عن الجزئيات وإرجاعها إلى كلياتها.
رحم الله شيخنا الفقيد الراحل وأسكنه فسيح جنانه.
الشيخ علي حبيب مبارك
العدد 1289 - الجمعة 17 مارس 2006م الموافق 16 صفر 1427هـ