تستقبلك عند مدخل ضاحية نوي كولن في برلين رائحة الكباب التركي (دونر) ثم سرعان ما تختلط برائحة الكنافة النابلسية والفلافل والفول ورائحة التبغ (المعسل). ولو قام شخص بعملية جرد لعدد المواطنين الألمان في هذا المكان لكانت الحصيلة متواضعة جدا. غالبية السكان في هذه المنطقة من الأجانب، غالبيتهم أتراك وعرب. يسمي الألمان المنطقة (الغيتو التركي العربي).
طبعاً ليس هناك تسمية أخرى لأن السياسة التي اتبعتها الحكومة المحلية لمدينة برلين أدت إلى نشوء هذا الغيتو. وخلافا لكل ما يجري من نقاش عن تعايش سلمي أو وجود مجتمع متعدد الثقافات فإن ضاحية نوي كولن تعكس فشل بناء مجتمع متعدد الثقافات لأن أهم عنصر في هذا المجتمع المنشود يجب أن يكون الألمان طرفا فيه، لكن منذ سنوات انخفض عددهم في هذه المنطقة بصورة ملفتة للنظر. في الفترة من يناير/ كانون الثاني إلى نوفمبر/ تشرين الثاني العام 2003 سجلت شرطة برلين أكبر عدد من الجنح التي وقعت في الشطر الشمالي من نوي كولن وتتراوح ما بين اعتداء بالضرب أو السرقة أو الاتجار بالمخدرات. منذ سنوات تم ختم المنطقة بأنها منطقة خطرة على حياة رجال الشرطة.
كما حكمت عليها الصحف البرلينية بأنها أسوأ مناطق برلين وهكذا حلت مكان ضاحية كرويتسبيرغ التي كانت حتى منتصف التسعينات تثير قلق أجهزة الأمن المحلية على الأكثر. وفقا لبيانات شرطة برلين في المنطقة عصابات تركية وعربية (غالبيتها لبنانية) كما أن هناك عائلات تركية ولبنانية كبيرة بسطت نفوذها في المنطقة وتتنازع فيما بينها كما تقاوم الشرطة المحلية. إلى جانب تصدر نوي كولن قائمة المناطق التي سجلت أكبر عدد للجنح فإن غالبية السكان فيها من دون وظائف عمل ويعيشون على المساعدات التي تقدمها لهم الدولة.في بحر الأسبوع الماضي جلس أساتذة ومعلمات في مدرسة(روتلي) بضاحية نوي كولن يعدون صيغة رسالة إلى حكومة ولاية برلين سرعان ما خرجت إلى الرأي العام الذي حكم عليها أنها صرخة ونداء استغاثة أخير من طاقم التدريس في هذه المدرسة التي غالبية طلابها من أبناء المهاجرين الأتراك والعرب. أراد أساتذة ومعلمات مدرسة(روتلي) القول: لقد طفح الكيل وتحولت المدرسة إلى جحيم والطريق الوحيد لوقف هذه المعاناة هو إغلاق أبواب المدرسة. ليست شكوى بقدر ما هي عملية استسلام فالعنف داخل المجتمع وفي المدرسة من المسائل التي تشغل وسائل الإعلام المحلية والمربين الاجتماعيين منذ وقت ولكن السياسة لم تعر ظاهرة العنف الأهمية التي تستحقها. وجاء في الرسالة التي نشرتها غالبية الصحف اليومية: غرقت مدرسة (روتلي) في نوي كولن بالعنف. كثير من الطلبة يطرقون أبواب الصفوف بأنعالهم ويتجاهلون أساتذتهم ومعلماتهم ويتطاولون عليهم ويهددونهم أحيانا. بعض الأساتذة والمعلمات يدخلون الصفوف وبيدهم هاتف نقال لطلب النجدة متى ما تطلب الأمر. كما يفجر الطلبة ألعاباً نارية خلال الحصص. من أبرز نتائج هذه الشكوى انفجار مناقشات في ألمانيا بشأن ظاهرة العنف في المدارس علما أن مؤثرات كثيرة ساعدت في استفحالها منها على سبيل المثال أفلام العنف التي تتدفق على أوروبا والعالم من استديوهات هوليوود وأصبحت اليوم تصل إلى أجهزة الهاتف النقال التي يقبل عليها طلبة المدارس. بالإضافة إلى أفلام العنف الحقيقية والجنس التي تصل عبر الهاتف النقال إلى طلبة المدارس وتغض شركات الهاتف النظر عنها. ليست هذه أول مرة تتسلط فيها المناقشات على برلين ليس كعاصمة لألمانيا الجديدة وإنما كبؤرة نزاعات اجتماعية. قبل فترة زمنية وجيزة ثارت الجالية التركية في برلين على مديرة مدرسة بضاحية (نوي كولن) لأن الأخيرة طلبت من جميع طلبة مدرستها التحدث فقط باللغة الألمانية وعدم التحدث باللغات الأم علما أن أكثر من 90 في المئة من طلبة مدارس هذه المنطقة من برلين هم أجانب، غالبيتهم أتراك وعرب. يذكر أن نحو 2,4 مليون تركي يعيشون في ألمانيا. في الغضون يعيش أبناء الجيل التركي الثالث في هذا البلد. ففي الستينات حين كانت ألمانيا تشهد حملة إعادة تعمير استنجد الألمان بمئات الآلاف من العمال الضيوف كما أسموهم وتعاقدوا بالخصوص مع حكومات إيطاليا وإسبانيا ويوغسلافيا واليونان والبرتغال وتركيا والمغرب وتونس كما جاء في هذه الفترة مهاجرون من دول عربية. غير أنه لم يكن في بال الألمان أن هؤلاء العمال خصوصاً الأتراك سيبقون في بلدهم. ويدعم المهاجرون الأتراك في ألمانيا اقتصاد بلدهم بعدة مليارات في العام.
كما يدعمون صندوق التقاعد وصندوق الضمانات الاجتماعية الألمانية. لكن مع استفحال أزمة البطالة ووجود نحو خمسة ملايين عاطل عن العمل في ألمانيا فإن نسبة عالية من العاطلين عن العمل هم أجانب أتراك وعرب. كما أن الغزو العربي إلى برلين بدأ في منتصف السبعينات عقب اندلاع الحرب الأهلية في لبنان فجاء فلسطينيون ولبنانيون وأكراد عبر مطار برلين الشرقية إذ وزعتهم السلطات المختصة على ضاحية (نوي كولن) التي راحت ملامحها الألمانية تختفي تدريجيا إلى أن تحولت إلى غيتو بعد رحيل عائلات ألمانية كثيرة عنها. ويرى خبراء ومربون اجتماعيون أن ظهور الغيتو من ضمن أسباب انتشار العنف بين أبناء المهاجرين. لكن المشكلة الأخرى هي عدم قدرة بعض المهاجرين على الاندماج في ألمانيا.
منذ بحر الأسبوع الماضي أصبحت مدرسة (روتلي) في نوي كولن عنوانا لشغب المدارس ودليلا على فشل الجاليتين التركية والعربية في برلين في الاندماج وفشل سياسات الحكومة البرلينية بإدماج أتراكها وعربها. طفح الكيل بعد أن راح الطلبة يهددون معلميهم بالسكاكين. في الأشهر الستة الماضية زاد عدد المعلمين الذين تغيبوا عن المدرسة بسبب المرض عن عدد الطلبة. كما زار عددهم أطباء نفسانيين. إلا أن إدارة المدارس التابعة لحكومة برلين المحلية رفضت طلب المعلمين بإغلاق مدرسة (روتلي) وبموافقة وزير الداخلية المحلي عهد إلى الشرطة البرلينية حراسة المدرسة لردع الطلبة المشاغبين ومصادرة السلاح الأبيض منهم. يذكر أن برلين في مقدمة المدن الألمانية التي فيها تردي اجتماعي ويسود مدارسها أعمال عنف علاوة على أن مناطق الغيتو التي نشأت نتيجة أخطاء سياسية في السابق تشهد باستمرار أعمال عنف وسرقة وقتل وحروب بين العصابات التركية والعربية والعائلات الكبيرة. في نهاية العام الماضي ألقت الشرطة القبض على كردي كان يدير عصابة كبيرة تعمل في بيع المخدرات وتجارة الدعارة يدعى (الرئيس) وتم الزج به وبرجاله في السجن. ويرى الناطق باسم شرطة برلين برنهارد شدروفسكي تعليقا على قيام الشرطة لحراسة مدرسة أن هذا بالتأكيد ليس الحل الأسلم لهذا النوع من المشكلات. ويرى عضو البرلمان فولفجانغ بوزباخ الذي ينتمي للاتحاد المسيحي الديمقراطي الحاكم أن العنف في المدارس الألمانية مسألة عادية خصوصاً في المدارس التي غالبية طلبتها من أبناء المهاجرين وما شهدناه يوضح عدم اهتمام بعض المهاجرين بالاندماج كما أننا لم نفلح في وضع سياسة ناجعة لتشجيعهم على الاندماج. أما بالنسبة لهاينز بوشكوفسكي مختار ضاحية (نوي كولن) فإن ما جرى ليس مفاجأة بالنسبة إليه. إذ سبق وأن حذر مرارا في السابق من خطر استفحال العنف ونبه المسئولين إلى المشكلات الاجتماعية المختفية وراء جدران مدرسة(روتلي) كما تحدث عن وجود اختلاف في المبادئ الحضارية لدى الطلبة. فالطلبة العرب على سبيل المثال والقول لمختار (نوي كولن) يعيشون حياة بعيدة عن الحياة السائدة في المجتمع الألماني وهم يعيرون أهمية أكبر لتقاليد الأسرة من الاهتمام بمبادئ المجتمع الألماني وبالنظم الاجتماعية. علاوة على ذلك فهم يرون أن البلد الذي ولدوا فيه لا يعاملهم كأبنائه بقدر ما يعاملهم كأبناء مهاجرين إذ لا تتوافر لهم فرص واقعية بعد نهاية الدراسة بالحصول مثل أقرانهم الطلبة الألمان على فرص التدرب المهني أو الحصول على وظيفة عمل. كما من أبرز أسباب فشل الاندماج الصعوبات التي يواجهها المهاجرون أو ربما عدم اهتمامهم، بتعلم اللغة الألمانية ليسهل عليهم الاندماج كما يتقوقعون على أنفسهم ويقيموا مناطق خاصة بهم كما يتبين لمن يزور ضاحية (نوي كولن) أو ضاحية (فيدينغ). الخاسرون في هذه القضية هم الأولاد الذين يعبرون من خلال العنف عن يأسهم من حياة بلا مستقبل، وذلك في بلد يقع بوسط أوروبا
العدد 1314 - الثلثاء 11 أبريل 2006م الموافق 12 ربيع الاول 1427هـ