ألمانيا في صيف العام غير. الحياة الألمانية ليست كذلك أبدا. طريق صغير يؤدي إلى شاشة كبيرة تعرض مباراة تجري بين منتخب الولايات المتحدة والتشيك. لكن على المقاعد اسم ألمانيا وعلى الجدران تنتشر يافطات ألمانيا. كرة القدم حديث الناس وفجأة أصبح الكل يعرفون أسرار اللعبة. على نوافذ البيوت إما يرى المرء علم ألمانيا أو يافطة تحمل اسم ألمانيا. كيف يعرف المرء إذا صاحب البيت أجنبي؟ إذا كان ينتمي إلى دولة يتبارى منتخبها في مسابقة كأس العالم فإن عدوى الوطنية تكون قد أصابته أيضاً فألمانيا تعيش صيف الوطنية، شعور باتحاد الأمة الألمانية، ربما الشعور نفسه الذي عرفته ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية وربما نفسه بعد الحرب والآن تعبد رياضة كرة القدم الطريق أمام تعبير الألمان عن وطنيتهم. شعور حرموا منه بعد الحرب. من يملك حق أن يشعر بالوطنية لبلد تسبب في ويلات كثيرة على أوروبا وعلى نفسه؟
كرة القدم تحكم في ألمانيا منذ التاسع من يونيو/حزيران الجاري مع انطلاقة مسابقة كأس العالم. عرفت ألمانيا حفلة مماثلة لم تدم طويلا، في التاسع من نوفمبر/ تشرين الثاني العام حين سقط جدار برلين. في ذلك الوقت احتفل الألمان بأنفسهم لكن هذه المرة يحتفل الألمان مع أنفسهم، ومع العالم. حين تغلبت ألمانيا /صفر على بولندا في استاد مدينة دورتموند بدأت ساعة الصفر. دبت الوطنية بالألمان. صارع اللاعبون حتى سجلوا هدف الفوز في الدقائق الأخيرة من المباراة. على المنصة الرئيسية راحت المستشارة أنغيلا ميركل تصرخ عند كل فرصة ضائعة للفريق الألماني وعند كل محاولة بولندية للقضاء على آمال الألمان بالفوز على بولندا. البلد الجار الذي كان اجتياحه من قبل الجيش النازي بداية انفجار نار الحرب العالمية الثانية. بعد هدف الفوز الذي سجله لاعب سويسري يحمل أيضاً الجنسية الألمانية، صرخت ألمانيا أعلى صرخة صدرت عن هذه الأمة في تاريخها.
لم يجر التعبير بالرقص والهتاف والاحتفال حتى الفجر بهذا الفوز في ولاية شمال الراين ووستفاليا التي كانت مسرحا لهذه المباراة، بل نصف ألمانيا تحولت خلال دقيقة هي وقت المباراة إلى حفلة ألمانية. نصف مليون إنسان احتشدوا في شارع السابع عشر من يونيو يتابعون فصول المباراة على شاشات كبيرة، إنه شارع المشجعين هذه الأيام. عشرة آلاف مشجع شاهدوا المباراة على شاشة خارج استاد دورتموند بينما شهد الواقعة في الداخل ألف مشجع من الألمان وعشرة آلاف من البولنديين. في مدينة شتوتغارت تابع المباراة ألف متفرج قبالة القصر الجديد اذ السلطات المحلية تسمح عادة بعدد لا يزيد على ألف متفرج. في مدينة هامبورغ عطلت الاحتفالات السيارة حركة السير. الشيء نفسه حصل في سائر المدن الكبيرة. وغصت ملاعب الكرة بأعداد الناس الذين قرروا عدم متابعة مباريات المنتخب الألماني عبر أجهزة التلفزيون في بيوتهم، بحضور الأهل والأصدقاء، وأرادوا العيش في الشارع الشعور الذي يسيطر منذ ذلك الحين على ألمانيا. إنه الشعور بالانتماء للأمة الألمانية. تقريباً لم يعد في الأسواق أعلام ألمانيا مصنوعة في الصين. كما استفادت شركة (اديداس) من بيع ملايين قمصان المنتخب الألماني. في بطولة العالم السابقة لم يكن هناك أعلام ولا يافطات ألمانية ولم تزد مبيعات الشركة المذكورة عن ربع مليون قميص للمنتخب الألماني. هذه المرة ألمانيا كلها ترتدي ألوان العلم الألماني: الأسود والأحمر والذهبي. تعيش ألمانيا حمى كأس العالم بما في الكلمة من معنى. من يسير بين البيوت يسمع التعليقات من جميع محطات التلفزة عن حال المنتخب الألماني. لم يسبق وأن حملت ألمانيا هذه الألوان من قبل. فجأة خطفت ألمانيا من الأمم المتحدة استعراض أعلام الدول المشاركة في المسابقة. خلال عرض مباراة ألمانيا أمام كوستاريكا حمل لبنانيون أعلاما لبنانية وفلسطينيون أعلاما فلسطينية في شوارع برلين. تحت شعار«العالم ضيف عند أصدقاء» يريد الألمان أن يلعبوا دور المضيف الجيد. في هامبورغ فتح الألمان بيوتهم لمشجعين من السويد ومن ترينيداد توباغو. وفي محطات القطارات رافق مشجعون ألمان زوار بلدهم من غانا إلى الملاعب. ولم تسجل دوائر الشرطة اعتداء واحدا على أحد المواطنين الأجانب. أصبحت ألمانيا بلدا ودودا ونسي العالم أن في هذا البلد مناطق محظور على الأجانب دخولها أو في بعض مدنها تم قتل وحرق مواطنين فقط لأن بشرة لون وجوههم داكنة.ألمانيا في صيف العام اكتشفت نفسها وتقدم نفسها للعالم كبلد منفتح على العالم. هذه المرة يشرب غالبية الشباب الألمان المياه المعدنية بدلا من الجعة. غالبية الشباب قالوا إنهم لا يشاركون بحفلات الرقص في الشوارع لأنهم مولعون بلعبة كرة القدم، بل بسبب الجو ويريدون أن يشاركوا في الحفلات المفتوحة. برلين أصبحت تشبه منتزه هايدبارك في لندن، وهامبورغ أصبحت تشبه أمستردام ولايبسيغ أصبحت مدينة كبيرة تنبض بالحياة بعد غزو المشجعين الهولنديين.
عرفت ألمانيا تغيرات كثيرة في تاريخها بحكم الحوادث السياسية والحروب. بعد الحرب العالمية تقسمت إلى شطرين ودام الانقسام سنة ثم حصل ما لم يكن في حساب أحد في التاسع من نوفمبر العام حين سقط جدار برلين وتلته وحدة شطري البلاد. كان الألماني يجيب ردا على سؤال: هل تشعر بالفخر لأنك ألماني بعبارة: لا. منذ انتشار شعور الوطنية عند الألمان أصبح هؤلاء يفخرون ببلدهم. ليس لأن المستشارة ميركل قالت للألمان: ارفعوا رؤوسكم عاليا. بل بسبب انتصارات المنتخب الألماني لكرة القدم. ولأن عيون العالم مسلطة على المسابقة الكروية في ألمانيا، نشأ شعور(نحن) كما لم ينشأ من قبل. لعل السؤال البديهي هل يتواصل هذا الشعور كما تقدم المنتخب الألماني وكلما مضى في طريقه للفوز بالكأس عندها ستبلغ الوطنية قمتها، أم أن كل شيء ينحسر في مكانه إذا خرج الألمان من المسابقة؟ ثم هل يتغير الألمان ويحصلون على ثقة أكبر بالنفس أم تتبخر هذه المشاعر ويعود كل شيء إلى ما كان عليه قبل بدء المسابقة؟
السياسيون اكتشفوا الجلوس على المنصة الرئيسية والظهور أمام الكاميرا. المستشارة ميركل ألغت مواعيدها لتكون موجودة في الملاعب، تشد على أيدي رؤساء حكومات الدول التي خسرت منتخباتها أمام ألمانيا اكتشفت أهمية الوجود في الملاعب عندما يلعب المنتخب الألماني. وأمرت جميع وزرائها بحضور المباريات وملاطفة ضيوف الدولة باستثناء نائب الرئيس الإيراني الذي لاطفه القيصر فرانز بيكنباور الذي رفض أن يكون أداة بيد السياسة. خارج الملاعب حيث لعب منتخب إيران تظاهر يهود ألمان. قل عددهم بعد كل مباراة. مباريات المنتخب الإيراني كانت من الناحية الأمنية سليمة. اليوم الذي يلعب فيه المنتخب الألماني يشعر المرء أنه عطلة رسمية في ألمانيا. بالنسبة لحكومة ميركل فإن مسابقة كأس العالم أتت في وقت مناسب جدا. فقد أقرت حكومتها الائتلافية بعض القوانين التي لم تكون لتمر لولا انهماك الشعب الألماني بالمعمعة الكروية أبرز القوانين الجديدة زيادة الضريبة المضافة TAV إلى في المئة مع بدء العام الجديد. وكان من الممكن مضاعفة هذه النسبة لعدم اهتمام أحد بما يجري على الساحة السياسية. كما أن الناطق الرسمي للحكومة وممثلي الوزارات ينهون المؤتمرات الصحافية السريعة مبكرا لمتابعة مباريات البطولة. وحين افتتحت المستشارة ميركل جلسة مجلس الوزراء يوم الأربعاء الماضي استهلت الحديث عن رونالدو (السمين) الذي شاهدته في مباراة البرازيل الأولى أمام كرواتيا. في المرتبة الثانية بدأ الحديث عن القضايا السياسية الملحة. المؤتمرات الصحافية لممثلي الحكومة والوزارات تجري في مكان قريب من قاعة معارض برلين إذ يجري مدرب المنتخب الألماني يورجن كلينسمان مؤتمراته الصحافية (التلفزيون الألماني ينقلها مباشرة على الهواء)، إذ يقال خلالها ما يهز ألمانيا أكثر من السياسة. ما يقوله كلينسمان هذه الأيام أهم مما تقوله ميركل أو أحد وزرائها. كليسنمان هو رجل ألمانيا الجديدة، ألمانيا الوطنية. قبل المباراة أمام بولندا قال كلينسمان الذي اختار العيش بعيدا عن ألمانيا بعد زواجه من أميركية: أعرف من تجربة العيش في كاليفورنيا أن الأميركيين يحملون أعلام بلادهم يوم الاستقلال تاريخ الرابع من يوليو/ تموز. بعد ساعات امتلأت ألمانيا بالأعلام. لم يكن هذا الشيء الأميركي الوحيد في تجربة كلينسمان. فقد دفع بالاتحاد الألماني لكرة القدم (دي أف بي) للتعاقد مع ثلاثة مدربين أميركيين على اللياقة البدنية وقال مدرب المنتخب الألماني lhawsuA bfd إن أندية الرياضة الأميركية تستعين بمدربي اللياقة لإعداد اللاعبين بشكل أفضل. في البداية ضحك الناس على كلينسمان ثم اكتشفوا أن اللياقة البدنية عون كبير للكرة الألمانية. هذه المرة يلعب الألمان ليفوزوا مع كل فوز تكبر ثقتهم بأنفسهم وكما هي العادة فإن الفوز قد يتحقق للألمان في آخر ثانية من المباراة. كما قال مهاجم إنجلترا السابق جاري لينيكر حين سئل لماذا الألمان يفوزون دائما فأجاب: كرة القدم عبارة عن فريقين يتبارزان وفي النهاية يفوز الألمان.
في مطلع يوليو المقبل تتسلم ألمانيا رئاسة الاتحاد الأوروبي. ألمانيا التي فقدت دورها القيادي في أوروبا مصممة على العودة والأفضل أن تكون فازت بكأس العالم لكرة القدم. لن تكون أول مرة تسهم فيها اللعبة الأكثر شعبية بمعجزة سياسية ففي العام وصلت ألمانيا إلى نهائي كأس العالم أمام المجر. قليلون هم الذين منحوا ألمانيا فرصة بالفوز لكن معجزة (بيرن) حصلت وفازت ألمانيا. هكذا مهد الفوز بعودة ألمانيا للحظيرة الدولية وكانت تنفض عن نفسها ركام الحرب العالمية الثانية. في العام شاهد العالم أول فريق ألماني متكامل بعد سقوط جدار برلين. وفي العام ألمانيا الوطنية. لاعب ألمانيا الدولي كريستوف متسلدر المولود العام قال: لن تساعدنا مشاعر الوطنية بنسيان ويلات الحقبة النازية لأنها تبقى عالقة في الأذهان. لكن أبناء الجيل الجديد سيصبح بوسعهم العيش من
العدد 1389 - الأحد 25 يونيو 2006م الموافق 28 جمادى الأولى 1427هـ