العدد 1392 - الأربعاء 28 يونيو 2006م الموافق 01 جمادى الآخرة 1427هـ

الدولة والحرب والأعداء المحتملون

بناء الدولة وصنع البحريني المنضبط ()

يذكر خالد البسام أن البحرين بدأت استعداداتها لمواجهة تداعيات الحرب العالمية الأولى من خلال تحديد أسعار المواد الغذائية، وجاء في أغسطس/ آب العام تحديد المواد كالآتي: «الرز روبية للكيس، قمح روبية للكيس، طحين روبية للكيس، قهوة روبية للمن، سكر روبية للكيس، الدهن البصري روبية» (حكايات من البحرين، ص). وتكررت ذاتها الإجراءات في الحرب العالمية الثانية إذ صدر في ديسمبر/ كانون الأول العام إعلان من حكومة البحرين بتوقيع المستشار بشأن قانون المؤونة.

وينظم هذا القانون «عملية التموين في احتياجات الناس الغذائية الضرورية كالرز والسكر والطحين والشاي وغيرها» (تلك الأيام، ص). كما صدرت إعلانات تحظر الاستماع إلى إذاعات برلين وطوكيو وإيطاليا، وفرضت قيوداً على استخدام الراديو، وفي مايو صدر إعلان حكومي يلزم جميع من يستعمل أجهزة الراديو في البحرين أن يستحصل «من دائرة الشرطة إجازة سنوية» (البحرين - ، ص- ، وحكايات من البحرين، ص). كما أصدر «باليوز دولة بريطانيا في البحرين» أمراً يضع الكثير من القيود والضوابط على جميع أنواع المراسلات البريدية بما في ذلك الطرود والحوالات المالية.

استمرار الإجراءات والقوانين

كل هذه الإجراءات والقوانين والضوابط معهودة في الحروب، لكن لماذا يستمر هذا التحديد والضبط والتقنين للمواد الغذائية وللبشر ولكل شيء يقع ضمن حدود الدولة حتى بعد الحرب؟ هل تعيش الدولة في حال حرب دائمة ليدوم ضبط البشر وتسكين حركتهم وتحديد ما يسمعون وما يشاهدون، وليستمر كذلك ضبط حركة أسعار السلع ومراقبة المراسلات البريدية والطرود والحوالات المالية؟ هل بين الدولة والحرب علاقة وثيقة إلى هذا الحد؟ هناك من قال «إن الدولة تصنع الحرب، والحرب تصنع الدولة»، وهي مقولة صائبة إلى أبلغ الحدود، بل إن العنف هو الذي صنع نظام الدولة الحديثة، ولهذا كان استئصاله واحتكاره أهم وظيفة لهذه الدولة. وبحسب فوكو فإنه بقدر ما كانت تكنولوجيا الحروب توجه الحروب نحو مرحلة الدمار الشامل، بقدر ما كانت تضمن بقاء الدولة وتعزز حضورها، وذلك وفق «مبدأ: إمكان القتل لإمكان العيش» (إرادة المعرفة، ص).

تحت هاجس الخوف

ولدت الدولة إذاً تحت هاجس الخوف من التدمير المحتمل لكيانها، ومن أجل كبح هذا التدمير جرى وضع كل شيء في حدود الدولة تحت المراقبة، وجرى تقنين كل شيء، وضبط كل شيء من البشر إلى الشجر والحجر. فكل دولة تعيش تحت هاجس الرعب الدائم والتوجس خيفة من اندلاع الحرب وانبعاث العنف واضطراب الأرض والبشر بكوارث طبيعية أو من خلال الانتفاضات والثورات. وبحسب بندكت إندرسون فإن الدولة الحديثة توهمت أعداءها الداخليين كنذير شؤم تنبأت به تنبؤاً جيداً «قبل أن يظهر هؤلاء الأعداء ظهوراً تاريخياً» (الجماعات المتخيلة، ص). وبالنسبة إلى البحرين فقد حدد الكابتن نوكس أشكال الخطر المحتملة على الدولة، وذلك إبان الإصلاحات الإدارية في العام حين تحدث عن وعد الحكومة البريطانية بمساعدة «الشيخ حمد في كل النواحي القانونية ضد كل من الاعتداء الداخلي على بلاده أو الفتن الداخلية» (البحرين: مشكلات التغيير السياسي والاجتماعي، ص).

والحق أنه لا يبرر هذا الانتشار الواسع لأجهزة الضبط والمراقبة الدقيقة والصارمة لكل شيء إلا هذا التنبؤ الجيد بظهور الأعداء، وبانبعاث القوى التي تسعى إلى تدمير الدولة واضطراب النظام فيها سواء بالاعتداء الخارجي أو بالفتن الداخلية. وبحسب فوكو فإن المطلوب الأول من الانضباطات هو «تحييد المخاطر، وتثبيت جماهير غير مفيدة أو مضطربة، وتفادي مساوئ التجمعات الكبيرة العدد» (المراقبة والمعاقبة، ص). ومن هنا فلا يمكن تصور دولة بلا أجهزة ضبط وانضباط وأدوات مراقبة ومعاقبة، إلا أن تكون هذه الدولة من القوة أو الاستهتار وعدم الاكتراث بحيث لا ترهب أية قوة مدمرة مهما كانت. وقليلة هي أمثال هذه الدول، بل تكاد تكون منعدمة الوجود.

احتكار فعل التحدي

لا تقوم الدولة إذاً إلا بعد تأمين كيانها من أخطار الأعداء المحتملين، وهذا لا يتأتى إلا بظهور أجهزة واسعة الانتشار وتقوم بدور المراقبة وتحتكر فعل التحدي. أن تحتكر الرؤية وتستأثر وحدك بالتحديق يعني أن تكون وحدك في موقع القوة. وهذه حقيقة تعرفها كل الدول اليوم. والحق أن الدولة - أية دولة - إنما تضمن قوتها الاستثنائية من خلال التحديق في كل شيء يقع تحت حدودها بحيث تنفتح العيون على آخرها، ويتم تشديد النظر وإدارة حدقة العين في كل اتجاه؛ ليتأتى للدولة وأجهزتها الإحاطة بكل شيء. وهكذا كما لو أننا أمام نموذج مثالي من الدولة الأورويلية - نسبة للروائي البريطاني المعروف جورج أورويل -، فهي إذاً «الأخ الأكبر»، وهي «الإله الخفي» الذي يعلم كل شيء في حدود بلاده، ويراقب كل مجالات الحياة على أرضه، ويبتلع المجتمع وينتهك خصوصية أفراده. وبحسب ميشيل فوكو فإن نجاح السلطة الانضباطية يعود إلى استعمال أدوات بسيطة منها: النظرة التراتبية التي تسمح لجهاز الانضباط أن يتمتع بقدرة نافذة على رؤية الجميع ومراقبتهم بحيث يكون الجميع مرئيين ومكشوفين أمام جهاز خفي لا يرى إلا أنه يمكن أن يرى كل شيء بنظرة واحدة، و«من نقطة مركزية تشكل مصدر ضوء يضيء كل الأشياء، ومكان تلاق لكل ما يجب أن يعرف: عين كاملة، لا يفوتها شيء ومركز تتجه نحوه كل الأنظار» (المراقبة والمعاقبة، ص). ولا تترك هذه العين - الدولة وأجهزتها - أية منطقة ظل، بل كل شيء ينبغي أن يكون مضاء ليكون مكشوفاً بدرجة كافية تسمح بالرؤية والتحديق.

عرض مسرحي لبلغريف

وجسد بلغريف هذا الحلم بالدولة التي ترى كل شيء ولا ترى من خلال عرض مسرحي أعده وقدمه على الساحة المفتوحة أمام قلعة المنامة أثناء زيارة الملك عبدالعزيز بن سعود للبحرين في العام . ويتذكر بلغريف جيداً أن الميجر ديلي شرح له الوضع السياسي المعقد في البحرين إبان وصوله العام ، وهو الوضع الذي وصفه بلغريف بأنه «خليط من الميلودراما المسرحية» (مذكرات بلغريف، ص)، وكان على بلغريف أن يحول هذا الخليط المتداخل إلى عرض مسرحي متكامل ومتناسق ومتناغم، والأهم من هذا، مضاء بصورة مكثفة. وهذا ما فعله فعلاً في العرض المسرحي في العام . وقد أجاد بلجريف في تصميم هذا العرض الأليغوري للدولة من خلال الحضور الغامر والمبالغ فيه للإضاءة والمصابيح والفوانيس التي تضيء كل شيء في قرية بحرينية صارت، بفعل الديكور الذي صممه بلغريف نفسه، تحت المجهر وتنتظر الزحف التاريخي والمظفر للدولة ومواطنيها الضابطين والمنضبطين من رجال الشرطة وحرس المدن بالإضافة إلى عدة مئات من تلاميذ المدارس. واشتمل «المشهد الأول على مسيرة زحف للجنود حمل خلالها الرجال والأولاد المصابيح اليدوية والفوانيس المربعة المختلفة الألوان على أعمدة خشبية. أما المشهد الثاني فكان أكثر طموحاً استخدمت فيه الإضاءة الغامرة الاصطناعية أول مرة في تاريخ البحرين لإنارة مساحة واسعة على نحو متناسق». وبفضل هذه الإنارة المكثفة تمكن الجميع من مشاهدة «قرية بحرينية كاملة بدكاكينها ومسجدها وأشجار النخيل الكثيفة. بالإضافة إلى بئر تملأ النساء الماء من داخله» (مذكرات بلغريف، ص - ). صارت القرية - وهي هنا رمز يجسد الوطن بكليته - مكشوفة ومضاءة بأنوار الدولة الغامرة وفوانيس رجالها الضابطين والمنضبطين.

دولة الأخ الأكبر

من هذه الأنوار والأضواء التي تسمح بالتحديق، ظهرت دولة «الأخ الأكبر» و«الإله الخفي» و«الجهاز الذي يرى ولا يرى». وبظهورها تحول كل شيء، وجرى تجميع كل متفرق، ومركزة كل مبعثر ومنتشر من البشر والأرض. واللافت حقاً أن تصاعد وتيرة بناء الدولة كجهاز انضباطي ضخم قد ارتبطت بالحرب بشكل أو بآخر، والجميع يتذكر أن بلدية المنامة قد تأسست بعد الحرب العالمية الأولى العام ، وكانت أول شكل من أشكال الحكم الإداري المحلي، وتقوم بتصريف أمور كثيرة من شئون حكومة البحرين آنذاك مثل الصحة العامة، النظافة والنقل والمواصلات والكهرباء والماء وحفظ الأمن من خلال فرقة صغيرة من الحرس البلدي. وفي العام ذاته أنشئت مدرسة الهداية الخليفية كأول مدرسة نظامية في البحرين. أما أهم تأسيس معتبر للدولة الانضباطية فقد جرى أثناء الحرب العالمية الثانية، ففي العام أسس الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة حكومة مستقرة ومعها جاءت الدوائر الحكومية المتعددة

العدد 1392 - الأربعاء 28 يونيو 2006م الموافق 01 جمادى الآخرة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً