العدد 3461 - الإثنين 27 فبراير 2012م الموافق 05 ربيع الثاني 1433هـ

إصدار جديد للحيدري... «الإعلام الجديد: النظام والفوضى»

صدر عن دار سحر للنشر بتونس مؤلّف جديد لعبدالله الحيدري تحت عنوان: «الإعلام الجديد النظام والفوضى». كتاب ورد في ثلاثة فصول، درست وناقشت جميعها موضوع الإعلام الجديد في أبعاده النظريّة والسّوسيولوجيّة.

السّمة البارزة في هذا الكتاب تتمثّل في مقاربة الظّاهرة الإعلاميّة من منطلقات مختلفة، تُراوح بين المقاربة الفيزيائيّة والمقاربة الفلسفيّة، والمقاربة الأخلاقيّة، لتقيم الدليل على أنّ الظواهر الإعلاميّة عموماً، إنّما يتسنّى فهمها ودراستها بالعودة إلى استثمار ما في الحقول المعرفيّة الأخرى من مبادئ كليّة.

الإعلام الجديد نظام تسكنه الفوضى

يرى الحيدري أنّ هذا العالم الجديد، على مافيه من حفريّات تكنولوجيّة عميقة بدأت تغيّر من القيم والسّلوك، فهو لا يخلو من وجود حالة فوضى مزدوجة: فوضى في السماء يجسّدها الحضور المتنامي لأقمار الاتصالات، والأقمار المتحرّكة وأقمار المراقبة والرّصد، وفوضى على الأرض تتلوها الفضائيات ويغذّي أطوارها الفضاء اللامتناهي لشبكة الإنترنت. والأخطر من ذلك كلّه، فوضى المفاهيم والمصطلحات المتزاحمة مع فيضان من التدني اللّغوي أدّى إلى تراجع مقاييس الجودة والإبداع، ولا يستثني الحيدري من كلّ هذا فوضى المؤتمرات والبحوث العلميّة في العديد من المؤسّسات العربيّة خصوصاً، التعليمية والبحثيّة والتدريبيّة، التي بات يحكمها الفاعلون في المجال السّياسي والإداري؛ ما حوّل رصيدها الفكري والبحثي إلى تراث لا يمكن استثماره معرفيّاً، ولا يصنع مستقبلاً علميّاً، بقدر ما يمثّل استجابة لظروف موسميّة ومؤسّسيّة خصوصيّة.

إنّ الفوضى المقصودة في هذا المضمار لا تعني مجرّد الاضطراب الطارىء على الظّاهرة الإعلاميّة والاتصاليّة، أو التشويش العارض الذي يترتب عنه إرباك لبعض الوظائف في ديناميكيّة النظام؛ إذ يحدث أن يعتلّ النظام الإعلامي والاتصالي بسبب من الأسباب، أو تصيبه ضوضاء معيّنة تربك انتظامه. هذه حالات غير مولّدة للفوضى بالمعنى الرّياضي والفيزيائي للكلمة لاعتبارها حالات قابلة للقياس، ويتم احتواؤها بتعديل النظام لذاته.

إنّ الفوضى المقصودة في منظور الحيدري، هيّ التي تعرّض إلى ملاحظتها الرّياضي إدوارد لورانز (Lorenz 1961) عندما كان يجري سلسلة من العمليات الحسابيّة المعقّدة قصد التكهّن بالتقلّبات المناخيّة، وكان أن اكتشف سلوكاً فوضويّاً لنظام لا خطّي، يحول دون حصر دقيق للتنبّؤات الجويّة.

لقد استعار الحيدري مفهوم الفوضى من لورنز ليوظّفه في مجال العلوم الإنسانيّة توظيفاً يبيّن إلى حدّ مّا، أنّ ما يحدث من تفاعلات متقلّبة في مجال الإعلام والاتصال الحديث، لا يختلف كثيرا عمّا يحدث في مجالات أخرى كمجال الرّصد الجوي مثلاً، لاعتبار المجالين نظامين ديناميين يسكنهما الاظطراب والفوضى.

فالبيئة الجديدة المسمّاة اليوم بالإعلام الجديد، مهيّأة لحدوث الفوضى لاعتبارها نظاماً ديناميّاً معقّداً تحدث داخلها سلوكيات غير منتظمة وغير مستقرّة؛ بل إنّ عناصرها الماديّة والرّمزيّة مولّدة لمثل هذه السلوكيات. فالفوضى حينئذ تظلّ خاصيّة من خصائص هذه البيئة الحتميّة اللاّخطيّة، التي أصبح من العسير التحكّم في ديناميكيتها والتنبّؤ بحالاتها المستقبليّة. ولنتبصّر أبرز مكوّنات هذه البيئة لنفهم الانحرافات الكبيرة التي تخترقها.

الإعلام الجديد، والثورات العربيّة

يفكّك الحيدري منظومة الإعلام الجديد ليضعها على محكّ الأحداث التي شهدتها بعض المواقع في المنطقة العربيّة. يرى الحيدري أنّ ثورة تونس، كما هوّ حال الثورات التي تلتها، انبثقت من وعي الأفراد بواقعهم أوّلا، ثمّ تشكلت مفاصلها في فضاء الويب، واشتدت بالتفاعل والتكرار والتداول، والتغلغل السريع للأفكار والمعلومات في الأوساط الاجتماعيّة المختلفة، على نحو يشبه إلى حدّ مّا، ما يُعرف في الرّياضيات بهندسة شجرة الاختيار (Selection tree) ، ولكن بشكل غير خطّي؛ ما يجعل تطوّر الأحداث أمراً في غاية التركيب والتعقيد، يصعب التكهّن بنتائجه والتحكّم حتى في مساره.

إنّها الفوضى. ووجه الفوضى، أنّ إنتاج المعلومات وتناقلها وتبادلها بما يسمّيه الحيدري «سرعة الإبحار الخاطفة»، ما إن يستمرّ في الزمن بالسّرعة تلك، يأخذ حجمه منحى النمو المتزايد، بوتيرة غير قابلة للحساب تحمل في طبقاتها موجات من المعاني والمستويات البلاغية التي لا حصر لها، مفرزة، في الآن ذاته، المُحتمَل وغير المُحتمَل في نطاق ما يعرف بالحساسيّة للشروط الأولى (Sensitivity to initial conditions).

إنّه تأثير الفراشة في نظريّة الفوضى التي بنى أسسها العديد من الرّياضيين والفيزيائيين مثل هنري بوانكاري (Henri Poincare) وإدوارد لورنز (Edward Lorenz) ونوربرت فينير (Norbert Wiener).

فهذه إذن ظاهرة من الظواهر التي يؤكّد الحيدري أنّها تشبه تماماً الظّواهر الطبيعيّة في الكون المؤلّفة من جمل لاخطيّة، وهي التي جعلت لورنز (Lorenz) يصرّح باستحالة توقّع الطقس بدقّة، وإقرار عدم اليقين وحقيقة الفوضى في الأنظمة الديناميّة اللاخطيّة. فنظام التواصل عبر الإنترنت نظام دينامي لاخطّي، ويظلّ من المستحيل في فضائه تحديد العناصر الصّغرى الجزئيّة المثيرة لسلوك مّا أو لحدث غير متوقّع. كيف يمكن على سبيل المثال توقّع ردود فعل عدد كبير غير معروف لمستخدمي الإنترنت في العالم إزاء رسالة إن لم نقل إزاء كمّ هائل من المعلومات والرّسائل المتبادلة. وكيف يمكن رصد جميع تفاعلاتهم في لحظة من اللّحظات. وكيف يمكن حصر الانحراف أو الانحرافات الضئيلة في عمليات التواصل المستمرّ عبر بنى تحتيّة تقنيّة، متطوّرة، مندمجة، انحرافات قد يترتب عنها سلوك خارق للعادة.

تلك هيّ حينئذ حال الإعلام الجديد كما يراها الحيدري، فلا مجال فيها للضبط والسيطرة، ولا مجال كذلك لليقين (La certitude) بالمعنى الرّياضي للكلمة طالما أنّ القيمة الأنتروبيّة (Valeur Entropique) للمعلوات على مستوى الشبكة تظلّ منخفضة فكلّما ارتفعت هذه القيمة، انخفضت قيمة المعلومات وبلغت درجة اليقين، والعكس صحيح (Shannon, Weaver 1949).

فالإعلام الجديد بتضاريسه الحاليّة، يظلّ بعيدا عن السيطرة، ويبقى من الصّعب التنبّؤ بتغيّراته واتجاهاته، ولا يمكن إلا أن يشكّل نظاماً ديناميّاً مركّباً تسكنه الفوضى (systeme chaotique)

العدد 3461 - الإثنين 27 فبراير 2012م الموافق 05 ربيع الثاني 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً