العدد 1442 - الخميس 17 أغسطس 2006م الموافق 22 رجب 1427هـ

... وأعطيته نصف دينار لعشائه

حاولت عدة مرات أن اكتشف سر عدم احترامي للآسيويين فلم أوفق. أنا على يقين بأنني لا أكرههم فطرياً، فهم بشر حالهم كحال الآخرين، ولكني على يقين أيضاً بأنهم دون الآخرين في استحقاق احترامي. حين أذهب للمحل القريب من البيت، ينتابني أحساس بالإرتياح حين آمر الآسيوي بجلب بضاعة ما حتى وإن كانت قريبة من متناول يدي. تعجبني فكرة أن آمر أحدهم. وأشعر أن بمقدوري أن أطلب منهم ما أريد وعليهم التنفيذ فقط. أحياناً، أطلب منه أن يعطيني ثلاثة أشياء مرةً واحدة وأتصنع أنني في عجلة من أمري وأريدهم ثلاثتهم الآن، نعم الآن من دون أي تأخير. حين يتأخر قليلاً، وهو طبعاً لا يقدر على غير ذلك وهو ما أريده، أوبخه بكلمات جارحة وأرفع صوتي عالياً وخصوصاً حين يكون المحل مليئاً بالمشترين. لم أضرب أحدهم بيدي، ليس لعدم قدرتي وإنما لعدم رغبتي في ملامسة ثيابهم المبللة غالباً بالعرق ورائحة زيت الشعر التي لا أدري كيف تنتشر في كل أنحاء أجسادهم. كنت أتوقع في البداية أن شعوري هذا يتعلق بأصحاب المهن المتدنية فقط من الآسيويين، ولكني بعد فترة عرفت أنني أكرههم جميعاً من دون استثناء حتى من كان منهم في منصب عال أو مركز مرموق أو وظيفة متميزة. زرت مرةً إحدى دول الخليج، وكرهت الآسيويين هناك أيضاً، وحينها اكتشفت أن الأمر لا علاقة له بالبحرين وغيرها وإنما هو نتاج حال نفسية تجاههم لا أدري ما مصدرها. بصراحة، أشعر أنهم أقل مني شأناً. أنا بحريني، خليجي، عربي وهم غير ذلك. أحاول أن أتقبل المسلمين منهم على الأقل ولكني لا أقدر. أعلم أننا في الإسلام سواسية وخيرنا الأكثر تقوى ولكني مع ذلك لا أقدر على أن أساويهم بنفسي. في عيني، كبارهم كصغارهم، لا يدركون الأشياء كما ندرك، ولا يتعاملون مع الحياة كما نتعامل. أشكالهم، تصرفاتهم، لغتهم، أسلوب كلامهم، حركتهم، بيوتهم، أحياؤهم، كل ذلك لا يعجبني، ولكني على رغم ذلك أتمنى أن يدوم بقاؤهم معنا لأصرخ في وجه هذا وأوبخ ذاك، لأجمعهم جميعاً ثم آمرهم بالانصراف بإيماءة عين. وجودهم حاجة لي، من دونهم لا أشعر بتميزي وقدرتي على الأمر والنهي. كم أنا محظوظ، رشحني مسئولي في العمل لحضور ورشة عمل في لندن ستدوم لمدة أسبوعين. سأرى لندن، سأرى الغرب، سأرى التحضر والتطور والإنسانية المتقدمة. يبدو أن مسئولي يعلم بتميزي وقدرتي على التعامل مع الغربيين. الغربيون أرقى شعوب الأرض، احترمهم كثيراً، أميل دائماً لأفكارهم، افتخر أني أتقن التخاطب معهم لغتهم نفسها. في لندن، سأسكن في فندق راق، سأتحدث دائماً وأنا ابتسم، سألبس أفخر الثياب وأحلق ذقني كل يوم. طلبت من العامل الآسيوي في مطار البحرين أن يحمل حقيبتي ويمشي خلفي. لم تكن ثقيلة ولكني أحببت أن أمشي أمام عامل آسيوي قبل مغادرة البحرين وصعودي لطائرة يحلم هو برؤيتها من الداخل. لم استطع النوم في الطائرة. صرت أفكر في لندن وكيف ستكون. رأيتها كثيراً على شاشات التلفزيون والسينما وفي صفحات المجلات والصحف، ولكني لم أرها رأي العين. وصلت مطار هيثرو وأنا تعب. أذهلني حجم المطار وكثرة الناس فيه، وأزعجني وجود الآسيويين فيه أيضاً. لا أدري كيف يقدرون الوصول لأي مكان يريدون. لا يهم، لن أفكر فيهم مادمت هنا في لندن عاصمة الحضارة. تحاشيت رؤيتهم، ورحت أمعن النظر من بعيد في اللافتات التي يرفعها الواقفون أمامي من بعيد، أبحث عن اسمي، من يحمل اسمي سيكون من جاء يستقبلني ليأخذني إلى الفندق ويكون زميلي طيلة فترة مكوثي هنا. يبدو أنني قد وصلت مبكراً أو أنه قد تأخر. الإنجليز لا يتأخرون، بالتأكيد أنا الذي وصلت قبل وقتي المطلوب. يعجبني النظام والالتزام بالوقت عند الإنجليز، ليتني أصبح مثلهم دائماً. بعد أن مللت الانتظار، جاءني شخص ضخم الجثة وسألني عن اسمي، حين أجبته تبسم ابتسامة مصطنعة واعتذر عن تأخره. يعجبني الإنجليز دائماً يبتسمون حتى لو لم تكن الابتسامة في بالهم، ودائماً يعتذرون حتى لو كانت الأسباب طارئة. ليتني أصبح مثلهم على الدوام. من المطار وحتى الوصول إلى الفندق لم ينطق بكلمة واحدة، كان متسمراً، ينظر من النافذة لأي شيء خارج السيارة وكأنه يرى لندن لأول مرة، مثلي. يعجبني صمت الإنجليز، صمت وتأمل وتفكير في المستقبل. بعد أسبوع من بقائي في لندن، بدأت أشعر بالضيق من استمرار تأخر واعتذار وصمت هذا الرجل. لا أراه يتأخر عن بعض الزملاء الآخرين، ولا أراه يصمت معهم كما يصمت معي. حين يتحدثون عنه يذكرون بعض نكاته ومدى ظرافته التي لم ألحظها أبداً. لا أدري لماذا لا يعاملني كما يعامل زملائي، هل لأنني العربي الوحيد وسط مجموعة من الأوروبيين؟ شيئاً فشيئاً بدأت أكره رؤيته، أحس أنه يحتقرني أحياناً. ما الفرق بيني وبينه؟ هل لأنه من الغرب وأنا من الشرق؟ ألا يعلم أن الحضارة يجب أن تتحلى بالأخلاق؟ ما قيمة المدنية إن كانت تميز بين البشر على أساس لونهم أو عرقهم؟ لم استطع النوم في الطائرة هذه المرة أيضاً. مضى أسبوعان على فراق البحرين، كم أحن إليها الآن. رحت أفكر في أشياء كثيرة، قناعات تموت وأخرى تحيى، والجميل أن كل قناعة جديدة تتبعها ابتسامة أحسها. وصلت مطار البحرين ورأيت العامل الآسيوي الذي حمل حقيبتي في سفري للندن، أشرت إليه بيدي فجاء ليحمل حقيبتي ولكني منعته. ابتسمت في وجهه وشكرته على رغبته في خدمتي وأعطيته نصف دينار لعشائه

العدد 1442 - الخميس 17 أغسطس 2006م الموافق 22 رجب 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً