في مكتبه بسوق الذهب في الخرطوم يشرب محمد آدم وكيل مبيعات البنك المركزي كوباً من الشاي ويراقب الموظفين وهم ينقلون حزماً من النقود تساوي عشرات آلاف الدولارات من الخزانة إلى أربعة صناديق.
وستستخدم الحكومة هذه الحزم من الجنيهات السودانية لشراء الذهب الذي تنوي بيعه للحصول على الدولارات اللازمة لسداد ثمن واردات الغذاء وسلع أساسية أخرى.
وقال آدم: «نشتري كل الذهب من التجّار المحليين والباحثين عن الذهب». وخارج المكتب يبرم تجّار الذهب صفقاتهم في سوق مزدحمة بمبنى متهالك بوسط المدينة يتساقط طلاء جدرانه. ويتطلع السودان إلى توسعة مناجم الذهب وتعزيز إنتاج المعدن النفيس ليبقي اقتصاده صامداً. وكان النفط هو المصدر الرئيس للإيرادات العامة والدولار الأميركي الذي يستخدم لسداد ثمن الواردات لكن السودان فقد ثلاثة أرباع إنتاجه النفطي حين انفصل جنوب السودان العام الماضي (2011). ودفع نقص الدولارات معدل التضخم السنوي للارتفاع إلى 37.2 في المئة في يونيو/ حزيران؛ أي مثلي المستوى المسجّل في يونيو 2011 ويقول المسئولون إن الأسعار سترتفع أكثر من ذلك.
ويقبع السودان فوق ما قد تكون أكبر احتياطيات للذهب في إفريقيا وقد منحت الحكومة عقود تنقيب لأكثر من 600 شركة تعدين للبحث عن الذهب ومعادن أخرى. ويأمل السودان أن يحقق ما يصل إلى 3 مليارات دولار من صادرات الذهب هذا العام (2012)؛ أي مثلي الإيرادات المحققة في العام الماضي.
وقد بلغت الإيرادات 603 ملايين دولار بحلول مطلع أبريل/ نيسان بحسب أحدث البيانات الرسمية. ويأتي جزء كبير من الإنتاج حالياً من شركات تعدين صغيرة وأفراد تغريهم أسعار الذهب المرتفعة للتنقيب عن المعدن النفيس في أطراف نائية من البلاد.
ويشتري البنك المركزي حالياً ذهبهم الذي كان في الماضي يهرب إلى الخارج غالباً. وتقدّر الحكومة أن نحو 250 ألف سوداني يبحثون عن الذهب معظمهم في شمال البلاد؛ إذ كانت صحراء النوبة مصدراً للذهب منذ عهد المصريين الفراعنة. وقال تاجر الذهب جمعة سعيد الذي يسافر كل شهر إلى منطقة صحراوية على مسافة 300 كيلومتر شمالي الخرطوم: «أذهب دائماً وأشتري الذهب من السكّان ثم أبيعه إلى البنك المركزي». وقال سعيد (25 عاماً): «أحيانا أشتري بضعة غرامات وأحياناً 500 غرام وأحياناً أشتري كيلواً. أنا دائماً مشغول».
ويجلب سعيد الذهب إلى الخرطوم؛ إذ يتاجر مع البنك المركزي. ويتحقق الخبراء من نوعيته قبل أن ينتهي به المطاف فوق مكتب آدم. وقال آدم إن البنك المركزي عيّن ثلاثة وكلاء مبيعات في سوق الذهب يقومون بشراء المعدن النفيس بثمن أقل بقليل من السعر العالمي. لكن مسئولاً كبيراً في منظمة دولية قال إن الوكلاء يدفعون أحياناً أكثر من السعر العالمي لمنع التجار الآخرين من شراء الذهب وتهريبه إلى دبي وهي سوق كبيرة للذهب. وتابع المسئول الذي طلب عدم نشر اسمه قائلاً: «يدفع البنك المركزي أحياناً أكثر من أسعار السوق بكثير (...) هذا يرفع التضخم لكنهم يحتاجون الدولارات التي تأتي من صادرات الذهب». والمليارات الثلاثة التي يهدف السودان إلى تحقيقها من صادرات الذهب هذا العام أقل بكثير من إيراداته النفطية التي بلغت 5 مليارات دولار على الأقل في 2010. لكن الحكومة تأمل في إبقاء الاقتصاد صامداً بينما تتفاوض للتوصل إلى حل لمسألة رسوم تصدير النفط من جنوب السودان. وتواجه الخرطوم عجزاً في الموازنة قدره 6.5 مليارات جنيه (1.4 مليار دولار) بعد أن استقل جنوب السودان قبل عام في إطار اتفاقية السلام المبرمة العام 2005.
وكانت وزارة المالية تعوّل على رسوم تصدير بالدولار من الدولة الجديدة الحبيسة التي تحتاج إلى استخدام خطوط الأنابيب الشمالية وميناء بورسودان على ساحل البحر الأحمر لنقل نفطها الخام إلى الأسواق العالمية. لكن جوبا أغلقت كل آبار النفط في يناير/ كانون الثاني بعد فشل محادثات بشأن رسوم التصدير.
وأخذت الخرطوم بعض النفط لتعويض ما قالت إنها مستحقات لم تسدّد من استخدام الأنابيب. في غضون ذلك تحاول الحكومة اجتذاب مزيد من الاستثمارات مع تطلعها إلى تعزيز إنتاج الذهب الذي بلغ 33.7 طناً العام الماضي. وقطاع التعدين من القطاعات القليلة التي تنمو في الاقتصاد السوداني الذي يواجه أزمة بسبب نقص النقد الأجنبي. ومن أصل 600 رخصة منحها السودان للتنقيب عن المعادن ذهبت 88 رخصة إلى شركات كبيرة.
وقال المركز السوداني للخدمات الصحافية المرتبط بالدولة الأسبوع الماضي، إن مناجم جديدة ستفتح للاستثمار. وقال خبير التعدين المطلع على السودان والذي يعمل في كندا، تكر باري: «السودان يقترب من الصدارة في إفريقيا من حيث الإمكانات المعدنية». وأضاف «شمال شرق السودان في موقع متقدم للغاية على قائمة إفريقيا للتنقيب عن الذهب». وتجاهلت الشركات السودان لفترة طويلة في ظل حربه الأهلية وصراعاته العرقية لكنها تتجه إليه الآن كإحدى أكبر المناطق غير المستكشفة في إفريقيا.
وفي الأسبوع الماضي قالت شركة التعدين الكندية «لا مانشا ريسورسز» أكبر لاعب في السودان إنها وافقت على أن تشتريها شركة مملوكة إلى صاحب الأعمال المصري نجيب ساويرس. وقالت «لا مانشا»، إن الصفقة ستساعدها على تطوير منجم الحصاية أكبر منجم للذهب في السودان والذي تشغله شركة أرياب للتعدين التي تملك الحكومة السودانية أغلبية أسهمها بينما تملك الشركة الكندية 40 في المئة منها. وقال باري: «مع تدفق السيولة من ثري مصري ستكون الشركة في وضع جيد وستواصل التنقيب والتطوير»؛ غير أن الشركات الأجنبية تواجه عدداً من المعوّقات في التعامل مع حكومة تفتقر إلى الأموال. وتقول مصادر عليمة ببواطن هذا القطاع إن رسوم الامتياز التي يتعيّن على هذه الشركات دفعها أعلى مما في دول إفريقية أخرى مثل غانا أو إريتريا اللتين أصدرتا قوانين أكثر تشجيعاً للاستثمار. وقال وزير المالية السابق، عبدالرحيم حمدي: «تحت الضغط يعيدون النظر الآن في القوانين».
العدد 3613 - السبت 28 يوليو 2012م الموافق 09 رمضان 1433هـ