العدد 1532 - الأربعاء 15 نوفمبر 2006م الموافق 23 شوال 1427هـ

الصورة والتلفزيون... بناء المعنى وصناعة المضمون

الحيدري في أهم صرعاته الإعلامية

السنابس - محمد عبدالله محمد 

15 نوفمبر 2006

عندما يقال إن السؤالَ هو الُكوّة التي تُفضيك إلى المعرفة، فيجب أن تُصنّفَ الصورةُ إذاً على أنها الصانع الرئيسي للمفاهيم الناتجة عن التلقّي، والقادرة على اجتراح المُتخيّل، وبالتالي امتلاك التعريف البدائي للأشياء ثم تقديمه بخاتمة نظيفة قابلة للنمو والتراكم.

وأيضاً عندما تكون المساحة الهلامية لما وراء البصر هي الرافد الأهم لتفتيت أية لغة اصطفاتية غامضة، فإن الحقيقة المقابلة هي أن الصورةَ تُشكّل الانعكاس المباشر لغير المحسوس والجهة القادرة للملمة المُكوّنات الأساسية للإبداع من إشراقات وإيحاءات وإحالات، لذلك فإنها تبقى المخزون الصلب لما كان البصر يعجز عن فكّ طلسمه وتقديمه من دون المساس بأصل التكوين المعرفي المُستَحصَل لدى العقل البشري، وتبقى النظرية القائلة إن هناك علاقة نفسية بين الصورة وموضوعها حقيقة قائمة.

في كتابه “الصورة والتلفزيون... بناء المعنى وصناعة المضمون” يرى أستاذ الإعلام بجامعة البحرين عبدالله الزين الحيدري أن موضوع الصورة مُعقّد، ولا يخلو من التركيب لأنه مُتعلّق بصناعة تُحدثها وسائط تقوم بإخراجها من طبيعتها الفيزيائية إلى ما يُناسب قدرتها على التعبير والدلالة على المعاني، وان ما يُناسب ذلك راجع بالأساس إلى وجود روح اجتماعية في صلبها لا يُمكن فصلها عمّا تركّبت منه في أثناء تشكّلها تقنياً، بل وإن أصل الروح فيها لا يعود لكونها مُستَنسِخة للواقع الاجتماعي وناقلة لما ظهر واستتر من حوادثه وتغيّراته بل لكون أمر التنقّل والاستنساخ في الصورة ذاتها يتمّ بالقصد لا بالمصادفة فهو من قبيل فعل الذهن. لقد تبيّن جلياً أن عمل الوسائط في الصورة يقوم على نحو يكون فيه الإطار المرجعي مُحدداً لمقاييس الاختيار والضبط ذلك أنه جامع لإدراكات الإنسان الحسية والعقلية.

إن الربط الذي يذهب إليه الحيدري ما بين الصورة ووسائطها ناشئ من اعتقاده أن الأصل في الصورة يعود إلى الذهن الذي يُمثّل موطن تشكّلها وإن ما تفيده من معان ومقاصد لا ينتسب مباشرة إلى ما للأشياء والموجودات من دلالات؛ وإنما تحدّه صورة الأشياء في الذهن التي تختلف باختلاف المرجعيات، وهو ما يُحيلنا مباشرة إلى تثبيت أن التقاطع القائم هو ما بين الوسائط التقنية والوسائط الرمزية، وبالتالي فإن الكتابة بالصورة وإلى الصورة إنما هو التحكّم في إدارة العلائق العضوية بين النظامين لبلوغ القصد الاتصالي.

في البُعد الاجتماعي سنلحظ أن الأدوات التحليلية والتفكيكية للرسائل التي تتضمّنها الصورة يتم نفيها مبدئياً لاستقرار ذلك في مدار الإدراك الحِسّي والانطباع، وبالتالي فإن الإقرار بأن الصورة “بصرية مُجرّدة” يُوحي بالمشاهدة العابرة ويستثني ضرورة كسب الأدوات الأساسية لفك الرموز. يقول الحيدري في دراسته بشأن اجتماعيات الصورة إنها مدلول بسيط يُدركه الفرد بحسّه، ويبدو هذا المدلول بعيداً عن التعقيد إذ لا يتطلب كسب معرفة مُسبقة لفهم حقيقته، وعليه فإن عملية الإدراك تنحصر في مستوى تعيين الأشياء التي تحدث بسرعة فائقة لدى الفرد الاجتماعي لأن طبيعة النظام البصري تسمح بمسح المشَاهِد البارزة والأشكال الواضحة في مدّة زمنية وجيزة تُمكّن الناظر من حصر شكل من الأشكال وتعيينه بحسب المخزون المتوافر في الإطار المرجعي.

في النظرة إلى الواقع السوسيولوجي للصورة يذهب الحيدري إلى أن بحوث المنهج الوصفي وطريقة تحليل المضمون والدراسات المتعلقة بمضامين وسائل الإعلام قد أسهمت في توجيه حركة التغيّر الاجتماعي في الكثير من المجتمعات بفضل توصّلها إلى إثبات حقائق غائبة عن الفكر الجماعي السائد أو تفسيرها لظواهر اجتماعية مُركّبة لا يتسنى للفرد العادي إدراكه، وقد ساعد ذلك على الوصول إلى مرئيات علمية لكيفية التخطيط لنظم الاتصال وعلى رسم الملامح المُرتبطة بشبكات البرامج. وقد أسّس الحيدري نظرته تلك من خلال اهتمامه بالصورة الذهنية لكونها المُحرّك الأساس لفعل التصوير، مُستعرضاً إياها من خلال حضورها في وسائل الاتصال الجماهيري وفي الفلسفة اليونانية والغربية وأيضاً اهتمامه بالصورة البلاغية على اعتبار الفصل القائم بين وظائف النظام البصري ووظائف الجملة العصبيّة.

يُشخّص الحيدري موضوعة التلفزيون ونظام الصور من خلال إدراك مواد الصناعة الأوليّة وهي: الصور الكامنة، الصور الظرفية والصور الافتراضية، لينتهي الأمر بتركيب أجزاء الصورة التفصيلية البرامجية (الكلاسيكية) بشكل متمازج ومُعقّد يُراوح بين الكامن والظرفي وبين الظرفي والافتراضي مع اعتباره التلفزيون أنه نظام سيبرنيطيقي يقوم على طبقات وسائطية هي الأصل في تماسك وظائفه وإدارتها. ويخلص الحيدري إلى أن برامج التعليم في الحقل الإعلامي يجب أن تُركّز على نظريات الإعلام والاتصال وعلى سيمولوجيا الصورة وعلم النفس الاجتماعي ومناهج البحث.

حين يتحدث الحيدري عن بناء المعاني في الفضاء التلفزيوني، يذهب أولاً إلى توضيح مفاهيم أساسية كالخبر وارتباطه بالحدث والرسالة وجدلية القيمة المركزية في المعادلة، ثم الفضاء التلفزيوني للخبر ونظامه القائم على المصادر المُؤسّسية المتخصصة والمصادر المؤسّسيّة الأساسية والمصادر الميدانية والمصادر الكامنة والعلائق القائمة فيما بينها، ثم الكتابة للصورة وإليها، وهو في ذلك ينتهي إلى الآلية الإجرائية للعمل التلفزيوني ومدى قدرته على المواءمة بين المتطلبات المهنية والفنية والسياسية وبين القناعات الخاصة الحاكمة للفرد أو الجماعة. نعم لقد استقرت الصيغ الإخبارية في مدار جديد يُؤدي فيه كاتب السيناريو دوراً أكثر أهمية من دور الصحافي المُخبر، وتحولت فضاءات الأخبار إلى مسارح تحتضن وضع السيناريوهات، فيجد هذا الواقع الموصوف بواقع الحقائق المُمشهَدة تفسيره في انحراف القيم داخل المُجتمع الذي تحوّل من الحداثة إلى ما بعد الحداثة وتصدّع الكثير من المشروعات المشتركة. إن انهيار الحداثة برصيدها الفائق من القيم المُؤسّسة على مفاهيم عقلانية للمجتمع أفضى إلى ظهور مجتمع تسوده قيم تميّز المستويات الانفعالية والعاطفية، حلّت محل القيم العقلانية وهو سُمّي بمجتمع ما بعد الحداثة، وبالتالي فقد احتضن التلفزيون هذا الواقع وأصبح بدوره يُعرف بتلفزيون ما بعد الحداثة.

وفي ذلك السياق العمودي لم يغفل الحيدري ذلك الإشكال المتعلّق بأمن الثقافات المُهدّدة تحت تأثير القيم المُنمذَجة وبالتالي إعادة إنتاج مفهوم “المحلية” بوصفه فضاءً جغرافياً محدوداً يحتضن علاقات ومصالح وتقاليد مُشتركة وأهدافاً ذات خصوصية خاصة يقوم عليها تماسك النظام الاجتماعي، لينتهي لاحقاً إلى قناعة تفضح تلك النظرة لأن ما يهم نظام الحياة في إقليم معيّن أو في بلد ما لا ينحدر بالضرورة من المكان ذاته ولا يتشكّل أساساً في حدوده، فقد يجوز أن تكون له مصادر أخرى لا علاقة لها جغرافياً أو ثقافياً بذلك المكان، وعليه فإن المحلية هي بُعد زمني تتداخله تفاعلات مُتحرّرة من قيود المكان.

الحيدري وفي معرض حديثه عن المشترك ما بين التقني والفني والثقافي يحاول اجتراح تأصيل مهم يتعلق بمفهوم التلفزيون الجديد رابطاً في ذلك بين الاستخدام المستقل والاستخدام المنمذمج لوسائل الإعلام، مع التأكيد أن صيرورة التلفزيون الجديدة كانت حصيلة تراكمات تقنية متسلسلة من قبيل الوسائط المعلوماتية وثورة الترابط والاتصالات والتلفزيون المركزي. لقد ولّد التلفزيون الجديد توسّعاً مكانياً مفتوحاً مع انحسار موضوع الاحتكار وظهور الخصخصة، إلاّ أن النموذج اللافت في هذا المجال هو النموذج الأميركي الذي جلب إلى دائرته غالبية الفئات الاجتماعية في العالم لا لجودته التقنية وإنما لكونه أنموذجاً نجح في رسم مسالك التوزيع والترويج أيضاً، فتسويق الإنتاج أهم بكثير من الإنتاج في حدّ ذاته بحسب المفهوم الأميركي، أما الحال في العالم العربي فإن المشكل الحقيقي كامن في الإنتاج في حد ذاته ولم يبلغ بعد مُستوى التسويق باستثناء عدد قليل من البلدان التي لها تقاليد في الكتابة إلى التلفزيون، فالعوامل المحيطة بالإنتاج الإعلامي مُركّبة ومُعقّدة إلى درجة جعلت موضوع التسويق مسألة فرعية، وقد لعبت عوامل كثير في صوغ ذلك الإشكال أهمها هيمنة الدولة على القطاع الإعلامي الأمر الذي أفضى إلى التحكّم الكلّي في طبيعة الإنتاج الذي يأخذ في الاعتبار ما يُعرف بالأهداف السامية للدولة، وأيضاً ظهور ما نُسمّيه بالمُبدع المُؤسسي الحكومي الذي حلّ محل المبدع الحقيقي في مستوى التلفزيون خصوصاً ما أدى إلى اندثار مقاييس الإبداع. لقد أدى استمرار القطيعة بين البحث العلمي والإنتاج الإعلامي إلى ضمور الإبداع والإنتاج النوعي بالإضافة ضعف الثقافات المحلية التي تراجع نموّها بفضل موجة التعرية الكُليّة، والتداخل والزحاف الذي حدث فيما بينها.

إن هذا التأسيس العلمي لماهية الصورة ولدور التلفزيون في تكوين مُحصلة معرفية يفتح الباب أما نقاش غير منتهي لدور وسائل الإعلام العربية في لعب دور لصوغ الأفهام والعقول، ومدى ارتهانها لعدد هائل من الإسقاطات الواردة من العالم المتقدم

العدد 1532 - الأربعاء 15 نوفمبر 2006م الموافق 23 شوال 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً