العدد 1532 - الأربعاء 15 نوفمبر 2006م الموافق 23 شوال 1427هـ

من أزمة المثقفين إلى تكرار الإعلاميين

أصبح من البدهي ومن تكرار القول إننا نعيش في عصر الصورة على حساب المعنى وإن وسائل الإعلام أحدثت تغييرات جذرية على مستوى الممارسات الثقافية للمجموعات والأفراد على حدٍّ سواء. ولم تنجُ من هذه التأثيرات لا المجتمعات المنغلقة ولا المفتوحة التي تشهد حراكاً دؤوباًَ على المستويات السوسيولوجية، والثقافية والانتربولوجية... وهو ما يَطرحُ الكثير من الأسئلة بشأن نوعية وعمق واتجاه هذه التطورات داخل الثقافات وامتزاجها، وإن كانت هذه الوسائل الإعلامية لا تعبّر بالضرورة عن أشكال من التفاعل الحقيقي بين المضامين التي تمرّرها والمجتمعات والثقافات التي اخترقتها هذه الوسائل سواء أانفتحت عليها طوعاً أم كرهاً.

فالعلاقة الجدلية دائمة بين قطبي الثقافة والإعلام اللذين لا ينفصلان عن بعضهما، ولطالما طالعنا النقادّ بمقالات، تنتقد وسائل الاتصال والإعلام ودورها السلبي أو الايجابي وتأثيرها على المضامين الثقافية، متهمينها بابتلاع أشكال الثقافة وتأثيرها المباشر في تدمير البنى الثقافية والممارسات على حد سواء.

ولكن إذا دققنا في هذا الصراع الدائر فسنجد أنه يرتبط بمفهوم يتمحور، حول علاقة الثقافة بالإعلام، وطبيعة السؤال المطروح عنهما، فهل نطرح السؤال بالشكل الآتي: ماذا تفعل وسائل الإعلام والاتصال بالثقافة؟ أم ماذا تفعل الثقافة في وسائل الإعلام؟

وغالباً ما يُعرب حرّاس «الهوية» عن قلقهم وخوفهم من وسائل الإعلام والفضائيات، وأنها تعمل على تخريب الثقافة الراديكالية أو التي ترتبط بالتراث بشكل مباشر.

هذا التيار يَطرح الارتباط بين وسائل الاتصال الإعلامية منها وغير الإعلامية والثقافة عادةً بطريقة إشكال منفصل، وكأنّ كلّ واحد منهما في مواجهة الآخر ومنفصل عنه، في حين أن مراجعة التاريخ أركولوجياً، تظهر أن اكتشاف وسائل الاتصال أحدث هزات ثقافية، وبناءً عليه فإن جدلية العلاقة بينهما قديمة قِدمَ التحوّلات التي شهدتها وسائل الاتصال.

فالعلاقة بين الثقافة والإعلام علاقة متحركة، والفصل بينهما ولو شكليّاً يُعد خطأ منهجياً بنيوياً ويعوق عملية فهم تلك الحركة المتبادلة الدائرة بينهما.

فالإعلام كما العادات كما التقاليد كما الدين كسائر مفردات التركيبة الانتربولوجية للمجتمعات تتقاطع مع بعضها بعضاً، ولا يمكن فهم واحدة منها بمعزل عن الأخرى. وعندما يحصل تنافر بين ثقافة الشاشة والثقافة المحلية أو الشعبية، فإننا نكون أمام انفصام ثقافي، وليس أمام حرب بين الثقافة والإعلام.

فعملية الفصل بين الثقافة والاتصال هي عملية واهمة فوسائل الاتصال والإعلام تنخرط في جملة القيم التي تُنْتِجُها الثقافة.

فالانفصام الثقافي من الممكن أن يحصل بين أي مكونيْن، ذو مضامين متناقضة من مكونات الثقافة الواحدة.

فعلى سبيل المثال يتعارض بعض الشعائر الدينية مع بعض التقاليد الشعبية ضمن مفردات الثقافة الواحدة، وهو ما يحصل أيضا بين ثقافة النخبة وثقافة الشاشة، فوسائل الإعلام ينبغي أن تستمد مضامينها من اتساق الحياة اليومية، بطريقة تتمّ فيها المزاوجة بين وظائفها الرئيسية وهي الإخبار والتثقيف والترفيه علاوةً على مواجهة التحديات الخارجية والداخلية، والمنافسة الشديدة وهو ما يتطلّب اعتمادها على كل مقومات الثقافة من دون استثناء.

ولعل من أهم خواص الرموز الثقافية، اللا مادية والانتقال السريع، كما أنها تتميز بإمكان إخضاعها إلى «الأدلجة» لدرجة مبالغة فيها؛ لأن من أبرز مقوماتها اللغة، والفكر بجميع مستوياته، والعلم والمعرفة، بالإضافة إلى العقائد والديانات والقيم والأعراف الثقافية.

لذلك فإنها تتميز بقدرة عالية على شحن الطاقات، وهنا يبرز دور وسائل الإعلام ولاسيما الوسائط المرئية وهو دور مزدوج فإما أن تتحول الشاشة إلى أداة فاعلة في الحوار بين الثقافات، وإما تتحول إلى أداة تفتيت مدمرة تغذي العصبيات المذهبية والعرقية ضمن الشعب الواحد وتسهم في إنتاج مجتمع مشحون يتحول إلى أرض خصبة للحروب الأهلية، وتصبح شاشة القمامة أداة تسويق لثقافة طاعة الايديولوجيات المتصارعة.

أمام كل ذلك فإنه من الأهمية بمكان تحديد الإجابة عن أسئلة مهمة بدقة مفادها: أي منتج فكري تريد وسائل الإعلام أن تقدم؟ وهل هذه الوسائل منتجة لعقليات منفتحة مبدعة قادرة على خلق فرص التعايش والمشاركة في البناء السوسيولوجي والعمل السياسي؟ وهل تسهم مساهمةً فاعلةً في تطوير وتنمية الفكر النقدي والتفاعل الحضاري وطرح القضايا بشكلها العقلاني؟

وانطلاقاً من ذلك كله، فإن المسئولية لا تقع فقط على وسائل الإعلام، بل على مفردات التركيبة المجتمعية كافة، فتتحول عندها إلى أداة للابتكار والإبداع والخلق لا أداةً للتضليل، بالإضافة إلى أداء وظيفتها في مناخ تسوده حرية الرأي والتعبير، وتشارك فيه كل الكفاءات القادرة على الإبداع والتجديد والتواصل مع الآخر، وهو ما يوفّر فرَصَ انخراطٍ متوازنٍ فيما يصطلح عليه بـ «مجتمع المعلومات».

بناءً على ما تقدم يُطرَحُ إشكال آخر هو علاقة المثقف النخبوي بالإعلام وضرورة انخراطه فيه، إذ يظهر الآن التباين الصارخ بين منتج المثقف النخبوي الفكري والمنتج الميديائي الإعلامي، فالإعلامي اليوم يمارس دوراً نخبوياً مارسه قبله المثقف في عصر الصحافة المكتوبة.

وتطل علينا الفضائيات العربية يوميّاً بنقاشات وحوارات تعالج ما تسميه القضايا السياسية والفكرية والثقافية وغيرها، توصَف بالسَّاخنة، غير الساخنة، وأصبحت لهذه البرامج رموز ونجوم (متفق عليها)، تنافس إدارة البرامج في استقطابها واجتذابها، أما من حيث الضيوف فتتكرر استضافة الشخص الواحد منها في أكثر من فضائية خلال فترة وجيزة، وأما من حيث مقدمي هذه البرامج، فقد أصبح البرنامج مرتبطاً بمقدمه أكثر من ارتباطه بالفضائية نفسها، لذلك تنهال على بعض مقدمي البرامج العروض المالية المغرية كعامل جذب بين فضائية وأخرى، إذ تَعدَّتْ مهمتهم التقديم إلى تقييم المواقف وإطلاق الأحكام، فأصبح الإعلامي يتدخل في كل شاردة وواردة ، لذلك وقعت معظم الفضائيات في التكرار والمشابهة في لحظتنا الثقافية، في ظل شيوع نمط الإعلامي الجاهز المتورط في إعادة إنتاج ظاهرة الموضوعات المكررة، وأمسى الإعلامي - وخصوصاً في الفضائيات العربية - يمارس عقلاً مركزيّاً تكرست عوامله الوجودية والإجرائية بفعل انحسار عوامل ثقافة النهضة على حساب ثقافة الشك في الآخر.

وهذا ما يجعلنا نعيد السؤال ولمرات متكررة عن ضرورة تأهيل البرامج الثقافية لتكون فاعلة، واعتقد أن إنقاذ الثقافي من أزمته والإعلامي من تكراره سيكون هو الأساس في إنقاذ السياسي من خرابه الايديولوجي، وبالتالي تهيئة العوامل الموضوعية للحديث عن تنمية ثقافية فاعلة.

ولعل إعادة النظر في طبيعة علاقة المثقفين بوسائل الإعلام من الأهمية بمكان ليس من حيث كونهم يُصنّفُونَ افتراضياً ضمن جمهورها، بل باعتبارهم مدعوين إلى تعزيز فرق الإنتاج والتجديد والابتكار داخل مؤسسات الإعلام التي تخوض حالياً حرب البقاء وكسب معركة المنافسة التي يفترضها الإعلام المُعَوْلَمُ.

مروة كريدية

باحثة انثروبولوجية لبنانية

العدد 1532 - الأربعاء 15 نوفمبر 2006م الموافق 23 شوال 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً