العدد 1534 - الجمعة 17 نوفمبر 2006م الموافق 25 شوال 1427هـ

التفكير العلمي والخصوصية الثقافية

هناك خصائص مشتركة تميز الجنس البشري عن غيره من الكائنات. من أبسط الأمثلة على ذلك القدرة على الكلام والتصور والتفكير في الماضي والمستقبل واستخدام الأدوات. هذه الخصائص مرتبطة بحقائق بيولوجية، مثل حجم المخ الكبير نسبيا وتركيبه المعقد وكذلك القامة المنتصبة والمشي على الرجلين وترك اليدين طليقتين لحمل الأدوات واستخدامهما بدقة. وهناك من يقولون بوحدة نفسية توحد البشر، وهذا ما نادى به أدولف باستشيان وكارل يونج، إلا أنه في ظل هذه الوحدة النفسية توجد تفرعات وفروق تميز الحضارات والمجتمعات عن بعضها بعضا، بل الطبقات داخل المجتمع الواحد، خصوصا فيما يتعلق بالنظرة إلى الكون وتنظيم المعارف وتصنيف المدركات الحسية وتحديد العلاقات بينها. هذه الفروق جاءت نتيجة الاختلافات البيئية والاجتماعية وعلاقة الإنسان بالطبيعة والناس من حوله.

وطريقة تصنيف المدركات الحسية تقوم على اختيار بعض السمات المشتركة لضم الأشياء إلى بعضها بعضا في فصيلة واحدة أو عزلها في فصائل مختلفة. وتختلف عملية الاختيار هذه من ثقافة إلى أخرى. خذ مثلا طرق تصنيف الأقارب. نحن نميز مثلا بين العم والخال بينما الإنجليز لا يفعلون ذلك، ولا نميز بين الأخ الأصغر والأخ الأكبر بينما الأتراك يميزون بينهما. والعربي لا يعرف شيئا عن الفروق الدقيقة التي يدركها الإسكيمو بين مختلف حالات الثلج والجليد، لكن العربي مشهور بدقته في تصنيف الأنواء من سحب ورياح وكذلك الإبل حسب العمر واللون والسلالة، بينما نجد الأوروبي ليس لديه إلا كلمة واحدة يطلقها على جميع أنواع الإبل، حتى الناقة ليس لها اسم عنده ويسميها أنثى الجمل. وتختلف الحضارات في إدراكها الألوان، فهنالك بعض الحضارات البدائية التي لا تعرف من الفروق اللونية إلا أقل القليل لعدم حاجتها إلى ذلك فلا تميز إلا بين اللون الداكن واللون الفاتح، بينما نجد حضارات تميز بدقة بين أعداد لا تحصى من الألوان. ومن المعروف أن النساء في أي مجتمع أكثر قدرة من الرجال على إدراك الفروق اللونية.

هذا التصنيف هو الأساس الذي تقوم عليه المفاهيم. مهمة المفهوم أنه يحصر ما لا حد له من المدركات الحسية في اسم واحد، مثل شجرة، سيارة، رجل، إلى آخر ذلك من الأسماء التي نستخدمها للدلالة على جميع ما نشاهده من أشياء مختلفة تدخل في هذا الصنف أو ذاك بدلا من أن نعطي كلا منها اسما خاصا به. وعملية التصنيف عملية ذهنية في غاية الأهمية بواسطتها يستطيع الإنسان أن يفرض نوعا من النظام على الفوضى الحسية المحيطة به، فالأشياء التي تشترك في بعض الخصائص يمكن تصنيفها في فصيلة واحدة. والتصنيف نظام هرمي يقوم على الدمج والانقسام ويشبه شجرة النسب إلى حد كبير. فالقبيلة مثلا تشتمل على بطون والبطن على أفخاذ والفخذ على عشائر والعشيرة على حمائل، وهكذا حتى نصل إلى الفرد الواحد.

اختلاف الحضارات في تصنيف المدركات الحسية و إعطائها مفاهيم أو رموزا دلالية مبحث من أهم مباحث الأنثروبولوجيا الإدراكية، كما أن علم اجتماع المعرفة يركز على الفروق الطبقية في طريقة التفكير داخل المجتمع الواحد. لقد أصبح من المسلم به أن الحضارة أو المجتمع أو الطبقة التي ينتمي إليها الفرد سوف تشكل فكره وتترك آثارا واضحة على تركيبته الذهنية والنفسية، ناهيك عن الاختلافات الأيديولوجية والعقائدية التي ستؤثر حتما في توجيه الفكر وتحديد مساره. بعبارة أخرى، الإنسان حبيس المعطيات الحضارية ورهين الظروف الاجتماعية التي تملي عليه طريقة تفكيره دون وعي منه. الرموز الاجتماعية والحضارية لا تختلف عن الرموز اللغوية التي تحدد سلوك الإنسان وطريقته في التفكير والتي يؤدي اختلافها إلى تعثر الفهم. الواحد منا يحس بالارتياح لبني جلدته ويستطيع التفاهم معهم ليس فقط لأنهم يتكلمون اللغة نفسها وإنما أيضا لأنهم يشاركونه المشاعر والأفكار نفسها ويتعاملون بالرموز والمفاهيم نفسها ويتفقون معه في نظرتهم للحياة، لذا يستطيع كل منهم أن يتنبأ بسلوك الآخر ويفهم المقاصد التي يرمي إليها. والاختلاف بين الشعوب في هذه الأمور ينتج عنه سوء التفاهم وتعطيل قنوات الاتصال والصدمات الحضارية حينما ينتقل الشخص من مجتمع لآخر، وذلك لأن كلا منا يلبس منظار حضارته ويحكم على الآخرين بالقيم نفسها التي نشأ فيها والمفاهيم التي تعود عليها، وهذا ما يقودنا إلى العرقية والعنصرية.

وبطبيعة الحال فإن علماء الإنسان والفلاسفة يدركون هذه القضايا التي تتجلى أكثر فأكثر مع تقدم الدراسات الاجتماعية والأنثروبولوجية. لذا حاولوا جاهدين أن يتخطوا خصوصياتهم الحضارية التي تحجب بصيرتهم ويتجاوزوها إلى الأحكام العامة التي لا يحدها الزمان ولا المكان. ومن هنا جاء المنهج العلمي الذي بواسطته يتخلص الباحث من تمايزاته ومن أنماط التفكير التي يفرضها عليه مجتمعه الخاص ليسمو إلى الموضوعية والعلمية. والمنهج العلمي بخطواته المعروفة هو الحل المنطقي للتأكد من أن النتائج التي يتوصل إليها الباحث أقرب إلى الحقائق المطلقة منها إلى الانطباعات الشخصية.

لقد خطا المنهج العلمي خطوات لا تنكر نحو تحقيق أهدافه لكنه يبقى وليد الحضارة التي أفرزته ولم يستطع بعد أن ينزع لبوسها ويطرح إهابها. المنهج العلمي الغربي الذي كثيرا ما نحاول تطبيقه في دراساتنا وأبحاثنا لم يتخلص تماما من ترسبات العقلية الغربية، خصوصا في الدراسات الإنسانية والاجتماعية التي هي أقل عصمة من العلوم الطبيعية. والمنهج على أية حال ليس إلا وسيلة لإثبات الفرضيات والنظريات التي لا يمكن بأي حال من الأحوال فصلها عن المحيط الفكري والمناخ الحضاري والظروف الاجتماعية التي ولدتها. والغربيون أنفسهم مضطرون إلى تعديل مناهجهم ونظرياتهم لتصبح أقرب إلى الحقيقة وأكثر مواءمة للواقع، وبما أن المنهج الغربي وليد الحضارة الغربية درج في كنفها وتلون بفكرها وبما أن الغرب ليس لديه علم مسبق بالحضارات الأخرى إلا من خلال منظاره الحضاري، فكيف نعرف أن النتائج التي يتوصل إليها بمنهجه وبمنطقه عن المجتمعات الأخرى نتائج موضوعية وصائبة؟ نحن مثلا قلما نتفق معهم في النتائج التي يتوصلون إليها عن حضارتنا ومجتمعنا لكن ليس لدينا منهج بديل ينافس المنهج الغربي ويثبت خطأه. هذا لا يعني بالضرورة رفض المنهج الغربي على إطلاقه، لكن ينبغي التعامل مع هذا المنهج بحيطة وحذر ليس فقط خشية من الفكر الذي يحمله ولكن أيضاً لأنه لا يخلو من القصور وليس ملائما في كل الأحوال. والتحفظ على علاقة المنهج بالفكر لا يقصد منه أن وجود هذه العلاقة يحتم علينا رفض منهج الغرب العلمي جملة وتفصيلا والتخلي عنه. ولكن مع ذلك لا بد من الاعتراف بأن سيادة المنهج الغربي تعني دون شك سيادة الفكر الغربي والسيطرة الغربية. هذا الذي يدفعنا دائما إلى الحديث عن توطين المناهج وتأصيلها. الأمل المنشود هو أن تفرز كل حضارة منهجها الملائم لواقعها ثم تتفاعل هذه المناهج مع بعضها البعض دون أن تكون الغلبة لواحد منها على الآخر كي يتولد عن ذلك منهج عالمي يحمل بصمات الحضارات الإنسانية جميعها وليس واحدة من دون الأخرى

العدد 1534 - الجمعة 17 نوفمبر 2006م الموافق 25 شوال 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً