في مجموعته القصصية "دخان الورد"، الصادرة عن "فراديس للنشر والتوزيع العام ٢٠١٤، في 94 صفحة، للقاص أحمد الحجيري، تبدأ المجموعة بنبوءة النمل وتنتهي بزحفه على البيوت والنخل. في عوالم شبه كابوسية تذهب لغة الحجيري، تتقصّى التفاصيل. تفاصيل تبرز فيه الشخوص متأهبة. القارئ موعود بما يشبه الصعقة، وتلك درجة تتجاوز المفاجأة بمراحل.
علاقة ارتقاء النخل بفقدان الفحولة. هكذا يحضر جانب من الحوار في "المبشرة" التي يفتتح بها الحجيري المجموعة: "إذا لم يرتقِ النخلة... فإن ذلك يعني أن عبدالنبي (البنّور) قد فقد فحولته، وإنه لن يقوى على مباشرة زوجته بعد الآن. هكذا يذهب المخيال (أول مَن تطرَّق إلى المخيال، هو أرسطو، معبِّرًا عنه بكلمة phantasma) في التلازم ذاك. النخلة بما بها من قوة حضور وسطوة وتأثير، وأحياناً تحدّد شيئاً من مصائر الناس الذين صاروا جزءاً منها وصارت جزءاً منهم. في المخيال نفسه نعرف أن إضراب نخلة عن الإثمار، يشخّصه مزارعون محترفون بأنها "حرْدانة" لاقتلاع نخلة كانت إلى جانبها.
المرض الذي اجتاح القرية يجعل من الفنتازيا حاضرة بشكل أكثر عمقاً لدرجة تتحول مع مرور الوقت، وامتداد ذلك المرض، إلى أخت للحقيقة التي تقرُّ.
"قال بعضهم إنه الطاعون... وقال بعضهم الآخر إنه غضب من الله... ويروي من عاصر تلك الحقبة بأن الناس كانوا يتداعون وهم يدفنون موتاهم... ولم يكن الناس يملكون أكفاناً... فدفن الناس بخرقهم... تحجّرت الدموع في المئاقي...".
حضور معمّرة القرية التي تظل أول الرجوع وآخره، تلك التي خبرت سنوات تصرَّمت، له حضوره البالغ كيف لا ومعمّرة تحلف؟! "حلفت المعمّرة أم إبراهيم بآبائها وأجدادها بأن عبدالنبي البنّور لم يأتِ أحد قبله ولن يأتي أحد بعده... وإنها لم ترَ فلّاحاً مثله يتسلّق نخلة وكأنه أحد كَرَبها ... كما أقسمت بأنه كان قمراً متربّعاً في عليائه...".
ترقُّبُ اليوم الذي سيأتي فيه البنّور ليرتقي النخلة كما يرتقي سُلّماً ألِفَه وهو مغمض العينين... "القلوب ستتواثب... وستهطل السماء بلحاً مسحوراً يتدافع الجمع المندغم لالتقاطه... ثم يتلاقف الرجال عبدالنبي في محبة غامرة".
يقل السرد في "المبشرة" تستعاض لغة الراوي التي لا تتورط في الاسترسال، وإن حدث ذلك ثمة لغة دقيقة (اللغة هي الدقة) وسلسة تحُول دون ذلك.
القصة التي حملت عنوان المجموعة "دخان الورد" تحتل أقل من صفحة في المجموعة، عمد فيها إلى التكثيف. كتابة في القيد الحديد... الزنزانة... السجين... الشرطيين اللذين اقتلعا اقتلاعاً من فراشهما، ملامحهما الشبيهة بالحديد من دون أن يعبر النص على شيء من ذلك، تكفي التفاصيل المحيطة والمزنّرة بهما... السجناء المتلاصقون بالقيد... توأمة الغصْب بتلك الجيرة في المكان... وفي الذروة من النص: "... وأوامر صارمة بضرورة الاحتفاظ بإنسان ليكون خلف الجدران كل الوقت، خوفاً من أبخرة الفكر التي تمور بها جمجمته الحقودة... المشاكسة... اللعينة".
احتوت المجموعة قصصاً قصيرة جداً وتوزعت العناوين بحسب الترتيب: المبشرة، دخان الورد، السجادة، الهامات، اعتدال الهامات، قبر الغريب، وللحلم وجه آخر، احتفال، ضحك كالبكاء، يا ليل... يا عين، شجرة النارجيل، الحمامة، حمام مدريد، الفستان الأحمر، العشاء الأخير، جثة ليست للدفن، قبلة، خيانة، أرجوحة، كراهية، رهان، حذاء، نخلة، رفض، ونهاية.
أحمد الحجيري يكتب بلغة الرائي لا الراوي، لغة أنيقة في كثير مما احتوته المجموعة.