العدد 1016 - الجمعة 17 يونيو 2005م الموافق 10 جمادى الأولى 1426هـ

تبعات الباطل

محمد فاضل العبيدلي

مستشار في مركز دبي لبحوث السياسات العامة

يفتح حكم المحكمة الدستورية حول "عدم دستورية" جدول رسوم البلدية الذي اصدرته الهيئة البلدية المركزية العام 1978 الباب واسعا أمام جملة من التطورات التي يمكن أن تترتب عليه.

وإذا كان يمكن وصف الحكم الذي أصدرته المحكمة في 13 يونيو/ حزيران الجاري بأنه تطور مهم في الإصلاح السياسي، فإن هذا يؤكد من جديد أن إصلاح القوانين ومراجعتها وتطويرها أيضا هو ركيزة أساسية في الإصلاح السياسي.

لقد قضى الحكم بعدم دستورية قرار ظل ساريا لمدة 27 عاما والتبعات التي يمكن أن تترتب على قرار المحكمة قد لا تحصى. أول هذه التبعات هو اثر القرار في موضوع الرسوم نفسه التي تم تحصيلها طيلة 27 عاما وستستمر حتى نهاية هذا العام. فهل يكفي الركون لقرار المحكمة بوقفها اعتبارا من الأول من يناير/ كانون الثاني المقبل لكي نطمئن إلى أن ثمة خطأ قد تم تصحيحه فحسب؟

أولى هذه التبعات تفرضها القاعدة القانونية الواضحة التي لا تقبل اللبس ولا سوء الفهم: "ما بني على باطل فهو باطل"، ولكن الباطل الذي نحن بصدده استمر 27 عاما ومارسته الحكومة عبر الهيئة البلدية المركزية وحتى اليوم. بل أن حكم المحكمة الدستورية سيجعله ساريا طيلة الشهور الستة المتبقية من العام حتى لا يحدث إلغاؤه الآن "منتصف العام" أزمة مالية مفاجئة يترتب عليها الإخلال بتنفيذ الموازنة العامة للدولة.

لقد استنزف هذا الباطل ملايين الدنانير من جيوب تجار ومواطنين على مدى تلك السنوات كلها. ان أبسط ما يقترحه قرار المحكمة هو تعويض المواطنين من كل تبعات هذا الباطل وفقا للقاعدة القانونية الثابتة: ما بني على باطل فهو باطل.

وها هي الأصوات لم تتأخر. فقد طالب عضو المجلس البلدي بالمحافظة الوسطى وليد هجرس بالاعتذار للمواطنين جراء ما لحق بهم من أضرار مادية ومعنوية ومحاسبة كل مسئول سابق تسبب في الأضرار المادية على الأهالي وتكوين لجان بجميع الوزارات للتأكد من الرسوم، استحداث، تعديل، إلغاء قانونية استحصال الرسوم، كما طالب بإعادة "جميع الأموال التي استحصلت من المواطنين من غير وجه حق. "الوسط 15 يونيو"".

يزيد في الأمر أن الهيئة البلدية المركزية كانت تقابل كل الشكاوى من خدماتها طيلة العقود الماضية وحتى اليوم بشح الموازنات سواء تعلق الأمر بالحدائق المتربة أو بالشوارع أو بخدمات النظافة.

أما الدرس المستعاد من هذا كله فهو جدل الضرائب والرقابة الشعبية. كنا ندفع الرسوم فيما مضى من دون أن يحق لنا السؤال عن مصيرها، من دون أن يكون لنا حق الرقابة على هذه الأموال واوجه صرفها ومصيرها. كان قانون أمن الدولة يتكفل بالنصف الثاني من المهمة. ان ندفع الرسوم ونسكت فحسب ونوجه عبارات الشكر للحكومة على خدمات هي من صميم واجبها كأية حكومة في العالم.

انني أرى أن حكم المحكمة الدستورية هذا هو الحدث والتطور الأهم هذا العام ويمكن أن يؤسس لحملة طويلة من المراجعة للقوانين والقرارات التي صدرت خلال العقود الماضية.

أهمية قرار المحكمة الدستورية تكمن في أنه يعالج العلاقة بين المواطن والحكومة. انه يعيد تعريف هذه العلاقة في أحد أركانها الأساسية وهو المتعلق بجباية الرسوم والضرائب. والحكم لا يفعل سوى تذكير الحكومة بالقاعدة الأساسية لهذه العلاقة: حق المواطنين في مراقبة ومحاسبة الحكومة على أموالهم التي يدفعونها كرسوم أو ضرائب.

كانت تعديلات القانون المدني قد صححت ركنا آخر لهذه العلاقة هو "المسئولية التقصيرية". بموجب التعديلات التي لحقت بالقانون المدني، أصبحت مقاضاة أجهزة وموظفي الحكومة ممكنة. والآن لدينا حكم يبطل قرارا ظل ساريا لمدة 27 عاما. وهذا كله كفيل بأن يطلق حملة طويلة ودؤوبة من المراجعة القانونية للكثير من القرارات والقوانين التي ظلت سارية طيلة العقود الماضية ولربما أبعد من هذا.

اننا نكثر من مطالبتنا للحكومة بتعديل القوانين والتشريعات والغاء وتصحيح أي من القوانين التي تمثل اعاقة لتطور الحياة السياسية التعددية لدينا. لكنني أعتقد أن الاكتفاء بمطالبة الحكومة لن يفعل الكثير لأن الحكومة اثبتت أنها ليست بوارد فعل شيء من هذا، بل على العكس تمضي في مسعاها لتقديم قوانين مقيدة ومعوقة أكثر وأكثر. ولكن مسعى أهليا مثل هذا الذي قامت به مؤسسة تجارية بحرينية حيال رسوم البلدية يوضح بجلاء أننا نحتاج إلى المبادرات في هذا الصدد لا المناشدات المستمرة للحكومة. المبادرات الواعية التي لا تعرف الكلل والتي تنطلق من جهد يقوم به المختصون في كل مجال. أحد اوجه هذا الجهد المأمول هو اقتراح القوانين بدلا من الاكتفاء بنقد القوانين التي تتقدم بها الحكومة.

لكنني اخشى أمرا خبرناه طيلة السنوات الثلاث الماضية. أن يلحق النسيان بحكم المحكمة الدستورية تحت وطأة إحداث عارضة تقذف به إلى الوراء في سلم الاهتمامات والأولويات. فعلى مدى السنوات الثلاث الماضية علمتنا التجربة أنه كلما حدث تقدم في قضية ما أو تطور إيجابي في جهد ما، ينطلق فجأة ما يشوش عليه بجدارة لكي يصبح الحدث الطارئ هو حديث الساعة والحدث الإيجابي في طي النسيان.

إذا جاز لي أن اصف قرار المحكمة الدستورية بانه خطوة نحو ترسيخ العقلانية في الحياة السياسية والتشريعية في بلادنا، فإن ما احذر منه هو ما سيسعى إلى أخذنا بعيدا عن القانون إلى الشارع أو من لغة القانون إلى لغة التحريض والتهييج. وثقوا تماما أن الشعار سيكون جذابا أيضا وإنسانيا ومشروعا

إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"

العدد 1016 - الجمعة 17 يونيو 2005م الموافق 10 جمادى الأولى 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً