العدد 1034 - الثلثاء 05 يوليو 2005م الموافق 28 جمادى الأولى 1426هـ

الرابع من يوليو... أميركا والأزمات في ذكرى الاستقلال

رملة عبد الحميد comments [at] alwasatnews.com

كاتبة بحرينية

اليوم أصبحت الصورة الأميركية تأخذ شكلا شديد القتامة في كل بقاع العالم، بل أصبح العداء لأميركا خبزا يوميا تلوكه الشعوب في كل مكان، وتتبارى في حرق علمها وهجاء رؤسائها، والدعاء عليها بالموت والثبور. فيا ترى ما هي الأسباب التي جعلت الولايات المتحدة تخرج من دائرة ما أطلق عليه بالتعاقد مع أميركا الى تصدير المفهوم الأميركي الى الخارج؟ ما أصبح الجميع يحلم بزواله، كونه يعيد العالم الى الفكر الإمبراطوري القديم. وفي المقابل ترفض الولايات المتحدة الابتعاد عن هذا النهج الجديد، لأنها ترى في ذلك رسالتها الأبدية للعالم، مسببة بذلك لنفسها أزمة سياسية خانقة، هي أم الأزمات!

ولادة أمة

في العام 1502م، أكد الرحالة الإيطالي أميركيو فسبوتشي، أن ما صادفه في رحلته الاستكشافية عبر المحيط الأطلسي، هو عالم جديد لا يعرفه الناس، وسمي هذا العالم بالعالم الجديد، وأطلق عليه تحديدا مسمى أميركا تخليدا له. وفي مطلع الستينات من القرن السابع عشر الميلادي بدأت أعداد كبيرة من الأوروبيين وخصوصا الإنجليز - البريتانيين - بالهجرة إلى أميركا الشمالية، وامتدت هذه الحركة إلى أكثر من ثلاثة قرون، ونمت معها حضارة جديدة على أرض كانت ذات يوم قارة غارقة في بحر من الظلمات.

وخضعت هذه الأرض الجديدة إلى التاج البريطاني، وقد ضاق الأميركيون من تسلط الحكومة البريطانية وخصوصا عندما اعتلى العرش جورج الثالث العام 1760م، إذ حكم البلاد بصورة دكتاتورية، وعمل على ربط المستعمرات مباشرة به، إضافة إلى انه فرض ضرائب جديدة لتحسين الوضع المالي لحكومة لندن التي تعاني من ديون باهظة بسبب حرب السنوات السبع مع فرنسا. وتعالت الأصوات بالانفصال عن التاج البريطاني، وتم تكوين جيش وطني لمهاجمة القوات الإنجليزية، وحين تسلم جورج واشنطن قيادة ذلك الجيش بدأ يفكر مع الزعماء الوطنيين لإعلان الانفصال الذي لقي قبولا عاما. فشكلت لجنة من خمسة زعماء من بينهم فرانكلين وجيفرسون وآدمز، وكانت مهمتها إعداد وثيقة الاستقلال، إذ أعلنت بشكل نهائي في الرابع من يوليو/ تموز العام 1776م، لتظهر معها ولادة أمة جديدة هي الولايات المتحدة الاميركية، ومع بزوغ هذه الأمة ترافق معها أزمات المنشأ والظهور.

الرق وأزمة البناء الاجتماعي

قال الرئيس ابراهام لنكولن "1861 -1865" "ان بيتا منقسما على نفسه لا يستطيع البقاء، وانني اعتقد ان هذه الحكومة لن يكتب لها بقاء أو استمرار مادام نصفها أرقاء والنصف الآخر أحرار". واحتاج المستوطنون الجدد في أميركا وخصوصا في الولايات الجنوبية إلى عمالة زراعية، ووجدوا ضالتهم في الأفارقة، وخصوصا بعد قيام شركات خاصة، أسست لأجل شراء وبيع البشر الأفارقة "توريد وتصدير"، فقد تأسست أول شركة بريطانية العام 1588 برخصة وبراءة من الملكة إليزابيث، تبعتها شركة أخرى سنة ،1616 ببراءة من الملك جيمس الأول، وأقامت لها قلعة في جزيرة في نهر غامبيا، وسميت هذه القلعة بقلعة جيمس، وكانت بمثابة سوق نخاسة. ويعتبر العام 1640 هو التاريخ الذي نقل فيه الإنجليز العبيد من افريقيا الى مستعمراتهم في أميركا. وتزايد النفوذ البريطاني في تجارة الرقيق عبر ما سمي بتجارة المثلث، حين تعبر السفن المخصصة لنقل العبيد من ساحل انجلترا متوجهة إلى السواحل الغربية الافريقية، ومنها الى العالم الجديد في حركة شبيهة بالمثلث. ففي العام 1700 نقل البريطانيون نحو 15,000 افريقي عبر المحيط الأطلسي الى أميركا. وفي العام 1800 زاد العدد الى 40,000 عبد. وبدأت الأزمة الاجتماعية تطفو على السطح، ففي مطلع القرن السابع عشر الميلادي أخذت بوادر الخلاف تزداد بين ولايات الشمال الغنية، وولايات الجنوب الفقيرة، وخصوصا في مسألة الرقيق، إذ رفض الرق في الشمال واعتبروه "النظام الشاذ"، بينما لم يستطيع الجنوب الابتعاد عنه لأنه واقع لا يتجزأ من اقتصاد هذا الإقليم.

وتزايدت حركة تحرير الرق في الولايات الشمالية، إذ بدأت الأخيرة بمساعدة العبيد على الفرار في جنح الظلام من الجنوب الى كندا، وعرفت هذه الحركة باسم "الطريق الحديدي السري". وفي منتصف القرن تم موافقة الكونغرس على الاعتراف بكاليفورنيا ولاية ذات دستور يحرم فيها الرق، كما اتخذت إجراءات فعالة للقبض على العبيد الهاربين من أسيادهم، هذه التدابير عرفت في التاريخ الأميركي باسم "اتفاق سنة1850".

وفي العام 1852 ظهر كتاب "قصة كوخ العم توم" للكاتبة هاريت بيتشر ستو، وبيع منه أكثر من 3000,000 نسخة في عامه الأول، واضطرت ثماني مطابع للعمل طوال اليوم تلبية للطلبات المتزايدة على الكتاب الذي يروي قصة العبيد في أميركا. هذا الأمر أدى الى ازدياد الانقسامات بين الولايات وشيوخ الكونغرس ورجال الأعمال حول قانون "الأرض الحرة" أي الخالية من العبيد. ولكن فوز جيمس بوكافان "1958- 1861" بالرئاسة سبب صدمة عنيفة للأميركان لمواقفه السلبية من الرق، كما ساد غضب عارم في أميركا أثناء فترة رئاسته على القضاء بسبب مناصرته لمؤيدي الرق في قضية العبد دريد سكوت، إذ أجبر على العودة الى ولاية العبيد. وجاء ابراهام لنكولن "1861 -1865" محرر العبيد، إذ كان من أشد المطالبين بتحرير العبيد، وقد نشبت الحرب الأهلية بين الجنوبيين والشماليين إثر انتخابه، فكانت أفجع كارثة شهدتها الولايات المتحدة في تاريخها، وانتهت الحرب بهزيمة الجنوبيين، وإعلان قانون تحرير العبيد في يناير/ كانون الثاني ،1863 ولم يعد هناك عبد في الولايات بعد هذا التاريخ، لكن مازالت هناك هوة بين البيض والسود، وتشهد بذلك أروقة المحاكم والمصانع، وأدراج المدارس والجامعات.

النظام الرأسمالي... والأزمة الاقتصادية

"أن الكساد الاقتصادي إنما حدث نتيجة لأخطاء كامنة في الاقتصاد الأميركي" الرئيس الأميركي هيربرت هوفر"1932م" اتخذت الولايات المتحدة منذ نشأتها، النظام الرأسمالي نظاما اقتصاديا، قائما على حرية استثمار رؤوس الأموال، فأصحاب الأعمال أحرار فيما ينتجون كما وكيفا، إذ فقدت الحكومة التوجيه والإرشاد ما سبب اختلال العلاقة بين العرض والطلب، وخصوصا أثناء الحرب العالمية الأولى، إذ كثفت المصانع الأميركية إنتاجها اعتمادا على توقف المصانع الأوروبية وتحولها الى الإنتاج الحربي. وعندما عادت تلك المصانع إلى سابق عهدها بعد انتهاء الحرب، تكدست البضائع الأميركية، وأدى الى إفلاس المصانع وانتشار البطالة، وفقد معها المستثمر الأميركي الثقة بالخزانة الأميركية خصوصا بعد تدهور بورصة "وول ستريت"، أكبر وأضخم البورصات الأميركية العام .1929 وعلى أثرها تصدر عنوان "الانهيار الوطني" صحيفة "نيويورك تايمز". عندها بدأت الولايات تشعر ان نظامها الاقتصادي في خطر، فعمل الرئيس روزفلت على معالجة الأزمة بسحب الودائع الأميركية من المصارف العالمية والدخول في مشروعات كبرى بهدف تشغيل أكبر قدر من العمال، وبدأ الأميركيون يفكرون في أسلوب ومنهج أميركي جديد لصوغ نظامهم الاقتصادي، كانت فعلا تجربة دامية بالنسبة إلى البرجوازية الأميركية، وهي برجوازية كانت الوحيدة، بين كل الطبقات الرأسمالية العالمية، المفعمة بثقة عمياء بمستقبل نظام المشروع الحر. لكنها تلقت صدمة رهيبة أثناء الأزمة الاقتصادية الكبرى للعام 1929 والتي استمرت حتى العام ،1932 كانت بحق بالنسبة إلى المجتمع الأميركي بداية وعي للمسألة الاقتصادية، إذ طرح النظام الرأسمالي موضع تساؤل واختبار.

لقد عدلت هذه الأزمة موقف البرجوازية ومنظريها من الدولة أولا، ومن النظام الاقتصادي ثانيا، وعلى أساسه اتسع هامش المفاوضة بين البرجوازية والطبقة العاملة. وهكذا وجدت إمكان تدعيم النظام على أساس تنازلات منحت للعمال. وهي سياسة اتبعت على مقياس دول أوروبا الغربية، وهذه السياسة هي سياسة الرأسمالية الجديدة، التي تقوم على تعاون وثيق نوعا ما بين البرجوازية الصاعدة والقوى المحافظة في الحركة العمالية، أساسه وجود نزوع لرفع مستوى معيشة العمال، لكن هذا النظام مازال يتأثر بمجرى الحوادث والأزمات السياسية للولايات المتحدة.

الفكر الإمبراطوري والأزمة السياسية

"كل حكومة تكون مستعدة لمعاونتنا، في هذا المسعى الاستنهاضي، ستجد لدى حكام الولايات المتحدة كل أذن صاغية ويد مبسوطة للتلبية" من خطاب وزير الخارجية جورج مارشال في جامعة هارفرد 6 يونيو/ حزيران .1947

برزت الولايات المتحدة كقوة عظمى في العالم بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية في ثلاثة جوانب، أولها الجانب العسكري اذ إنها امتلكت السلاح النووي الذي استخدمته ضد اليابان، والثاني: الجانب الاقتصادي فقد أصبحت الدائن الأول لأوروبا بعد الحرب، أما الثالث فيتمثل في الجانب السياسي اذ بدا واضحا تأثير الولايات المتحدة في السياسة العالمية عبر امتلاكها لحق النقض "الفيتو" في مجلس الأمن. ومع امتلاكها لهذه القوى برز الفكر الإمبراطوري يتسلسل إلى زعمائها، ويسيطر على توجهاتها، فبعد الحرب اصطدمت بالمعسكر الاشتراكي فيما عرف بالحرب الباردة، وعلى أثر ذلك بدأت تساعد الحكومات الرأسمالية في القضاء على الحركات الشيوعية. وقد بلغت الحرب ذروتها في عهد جون كنيدي "1961 - 1963" اذ حدثت عدة أزمات بين المعسكرين أبرزها أزمة الصواريخ في كوبا، وجدار برلين. وعلى إثرها بدا واضحا سياسة التدخل في عهد رونالد ريغان "1981 - 1988" في الشئون الخارجية لكثير من الدول أبرزها: نيكاراغوا، الفلبين، كوبا، أفغانستان، العراق، إيران، ليبيا.

ولم تتنفس الولايات المتحدة الصعداء إلا بعد سقوط هذا المعسكر فعليا بعد قمة مالطا "1989" إذ تفردت الولايات المتحدة بالعالم. وبانهيار جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفياتي انهارت عدة دول شيوعية في أوروبا الشرقية وفي آسيا، وجاءت أنظمة حاكمة موالية لأميركا في يوغوسلافيا السابقة، وفي صربيا، وفي جورجيا، وهو ما عرف آنذاك بـ "الثورات المخملية"، وذلك لأنها جرت من دون إراقة دماء، كان آخرها ما جرى في الانتخابات الرئاسية الأوكرانية، اذ مارست الولايات ضغوطها على النظام القديم لكي يعيد الانتخابات التي اتهمتها بالتزوير لضمان فوز يوشينكو المعروف بولائه لها، وذلك لتفقد روسيا حليفا آخر من جانب، ومن جانب آخر تلقنها درسا بان المجد الشيوعي لن يعود، ان حاولت بناء دور سياسي جديد لها في المنطقة، وهذا ما ظهر للعيان في حرب الخليج الثالثة.

واما المشرق فكان له معها قصة أخرى، فبعد احتضار التيار القومي بوفاة عبدالناصر، بدا الآن للولايات المتحدة أن الأنظمة العربية قد انتهت صلاحيتها، لذلك يجب تقديم النموذج الأميركي إلى المنطقة، والدعوة إلى قيام "الشرق الأوسط الجديد"، الذي يقوم على أسس الديمقراطية وليس القومية العربية، ولتصبح "إسرائيل" جزءا من خريطة المنطقة، كما بدأت الدفع باتجاه البعد القطري لكل دولة منها، وهذا ما يعززه المتغيرات التي تشهدها الساحة العربية بدءا من تحرر العراق من المناخ العربي بعد انتخاب جلال طالباني - وهو كردي- رئيسا جديدا للعراق، وخروج الجيش السوري من لبنان إيذانا بانتهاء الوصاية العربية، وتدويل مسألة دارفور في السودان تمهيدا لطرح سودان جديد، فيدرالي وديمقراطي بقوميات متعددة، واندلاع بعض التظاهرات المتفرقة في القاهرة، والضغوط التي تمارسها على بقية البلدان العربية بدعوى الإصلاح وبناء الديمقراطية، كل ذلك لتحقق مزيدا من السيطرة وبناء الإمبراطورية الأميركية الخالدة، حلم الحجاج البريتانيين الذين عبروا أمواج المحيط الهائج ومعهم الكتب المقدسة واللاهوت لبناء إنجلترا جديدة، وحطوا الرحال على الأرض الجديدة، وبدا أنهم قاب قوسين أو أدنى من تحقيق ذلك الحلم التاريخي بالقوة والقهر

إقرأ أيضا لـ "رملة عبد الحميد"

العدد 1034 - الثلثاء 05 يوليو 2005م الموافق 28 جمادى الأولى 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً