العدد 119 - الخميس 02 يناير 2003م الموافق 28 شوال 1423هـ

إرهاصات بدخول الاغتيالات والتصفيات الجسدية معترك الساحة السودانية

خالد أبو أحمد comments [at] alwasatnews.com

السودان من أكثر الدول التي عانت من ويلات الحروب الأهلية وكذلك التدخلات الأجنبية في الشئون الداخلية والمؤامرات الدولية المتشابكة وصراع المصالح، والموقع الاستراتيجي، فالسودان يقع في قلب المنطقة العربية والاسلامية وهو الرابط الجغرافي والتاريخي ما بين الأمة العربية والأمة الافريقية... مر السودان بالكثير من فترات التقلبات السياسية ما بين ديمقراطية معاقة أضاعت البلاد ومواردها وأيقظت في الناس الطائفية البغيضة وبين فترات الحكم العسكري التي اختلفت من واحدة إلى أخرى وأسوأ الأنظمة العسكرية التي مرت بالسودان هي فترة الإنقاذ الوطني والتي بدأت بداية صحيحة وقوية في السنين الخمس الأولى ولكنها بعد ذلك جمعت كل سلبيات الأنظمة السابقة في سيئاتها وأكثر من ذلك، على رغم الانجازات التي تملأ بها الدنيا ضجيجا مثل البترول الذي توقع أهلنا الطيبون أنهم سيستفيدون منه وان الزيادات في تعريفة المواصلات ستنتهي ولكن أصبحت أحلامهم كأحلام ظلوط.

السودان عانى كثيرامن الكوارث الطبيعية مرة بفعل الطبيعة ومرات كثيرة بفعل الإهمال وعدم سماع صيحات الاستغاثة بسبب انشغال القائمين على الأمر بالصراع السياسي على السلطة والمكايدات والمؤامرات التي لا تنتهي بين الحاكمين والمعارضين لدرجة عندما يكون من في جانب المعارضة يستعين بالأجنبي والحاقد على ابن جلدته من أجل كرسي الحكم وتدمير القيم والبنيات الأساسية التي جاهد في سبيل انشائها ثلة من أبناء الوطن الأوفياء... وهنا تكمن المفارقة الصادق المهدي عندما اشتد به الحال من الضغط السياسي أبان حكمه ولم يصل إلى وفاق مع نده التقليدي زعيم الطائفة الختمية محمد عثمان الميرغني اتجه صوب جون قرنق ليس من أجل السلام في السودان ولكن نكاية فبخصومه السياسيين فوقع معه اتفاقا معروفا... وتمر الأيام في الفترة التي سميت زورا وبهتانا بالديمقراطية الثالثة يرى الزعيم الميرغني انه لا حل مع خصومه إلا بالاتفاق مع حركة التمرد من أجل الكسب السياسي وكسب ود المجتمع الدولي بقيادة أميركا وبريطانيا والمنظمات الكنسية وكانت الحركة الاسلامية بقيادة حسن الترابي آنذاك ترى أن قادة الاحزاب التي وقعت الاتفاقات مع حركة التمرد قد خرجت من الملة الاسلامية لأنها وضعت أيديها في يد من يقتل أبناء السودان وكان صعبا على فئات كثيرة من الشعب السوداني أن يكفر الزعيمين المهدي والميرغني ولكن تأثيرات المد الاسلامي في تلك الأيام جعل غالبية الشباب والطلاب يعتقدون بما قالت به الحركة الاسلامية التي شنت حربا شعواء على الزعامات الطائفية ثم تمر الأيام ويفور التنور في السودان ويجيء عهد الانقاذ وتدور الأيام دورتها وتحدث خلافات ما عرف بحوادث رمضان بين عمر البشير والترابي... وتخرج الحركة الاسلامية من المعركة خارج سدة الحكم وكيدا للرئيس عمر البشير توقع اتفاقا مع الحركة وكانت من قبل قد كفرت الذين فعلوا ذلك وأخرجتهم من الملة. حتى أن الانطباع الذي ساد والاحساس العام الذي دب في الناس بعد توقيعها للاتفاق مع الحركة المتمردة أن الحركة الاسلامية السودانية بعمرها الطويل في الساحة كانت تعمل من أجل الوصول للسلطة فقط... وليس من أجل المعاني التي كانت تتحدث عنها لان التوقيت الذي تم فيه اتفاق التفاهم مع الحركة الشعبية يقول ان الحركة الاسلامية وقعت هذا الاتفاق كيدا للبشير كما فعلت الأحزاب الطائفية في صراعها مع بعضها بعضا وعلى رغم ان الحركة الاسلامية هي الكيان السياسي الوحيد في السودان الذي اجتهد في حل قضية جنوب السودان وقدم مساهمات كبيرة ولا يستطيع أحد أن ينكرها.

ماشاكوس التي فتقت الجراحات...!

إطار الاتفاق الذي وقع أخيرا بين الحكومة السودانية والحركة المتمردة في جنوب السودان والذي ما زالت المفاوضات تجري بشأنه في كينيا قد فتح الباب واسعا للصراع المسلح في السودان على عكس ما يتحدث به المراقبون داخل السودان وخارجه والذين يحاولون عبثا إعطاء صورة مغايرة للحوادث إذ تتحدث المجالس داخل السودان عن الصراع داخل القصر الجمهوري بين مجموعة البشير والمجموعة المتهمة باغتيال الرئيس المصري حسني مبارك بعد أن علمت الأخيرة أن الولايات المتحدة الأميركية قد أوعزت للرئيس البشير بابعاد المجموعة التي يترأسها النائب الأول علي عثمان محمد طه، الصحافي المصري مكرم محمد أحمد الذي زار السودان أخيرا والتقى اللكثير من الصحافيين والكتّاب البارزين إذ تحدثوا بوضوح عن أثر محاولة اغتيال الرئيس المصري وانعكاساتها على العلاقات بين البلدين ولو أن مصر الرسمية لم تتحدث شفاهة عن هذا الموضوع ولكن اثارته عدة مرات أمام الرئيس البشير كما أكدت مصادر مصرية وأميركية، وهذا الصراع الخفي قد برز إلى سطح الاحداث بشكل لم يكن متوقعا ألبتة ولكن...!

المجموعة المتهمة باغتيال حسني مبارك هي ليست مجموعة عادية يمكن اسكاتها مثلما يتم اسكات الآخرين بالمال أو بالتعيين في مناصب... ذلك لأنه من الخطورة بمكان النظر إليهم في ظل هذه الحوادث المتسارعة بهذا الشكل فهم عسكريون في المقام الأول والأخير، وهم الذين قادوا الأجهزة الأمنية داخل المجموعة التي أطاحت بالحكم... وأسسوا فيما بعد الجهاز الأمني لدولة السودان في عهد الإنقاذ ولعبوا دورا كبيرا في تأمين هذه الدولة في بداية عهدها إذ كانت ضعيفة تتقاذفها الأخطار من كل جانب... وعندما فكروا في اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك إذ ثبت انهم كانوا يرون انه المهدد الأول للسودان فقد كان ينفذ الاستراتيجية الأميركية في المنطقة وهو الذي ألّب كل الدول والجيران على السودان بل يرون أنه ألّب المنظمات الدولية بحجة أن السودان يساهم في انتشار الإرهاب في المنطقة وانه يدعم الاسلاميين في مصر بالسلاح وبالعتاد والفكر الأصولي وعلى رغم التقدير الخاطئ في تلك الحسابات إلا انهم قد جلبوا للسودان كراهية العالم واستعداء الآخرين الذين نحن في أشد الحاجة لهم لمساندتنا في تنفيذ مشروع الانقاذ الذي كان يمكن أن يكتب له النجاح اذا أبعد من حساباته تصفية الخصوم بالسلاح بدلا من استخدام الحوار والصبر عليهم، وجاءت مفاوضات ماشاكوس في مراحلها الاخيرة وأصبح الحديث عن اقصاء النائب الأول ومجموعته من سدة الحكم وبدأت الأطراف (الإسلاموية) في صراع شديد مع بعضها بعضا. وظهرت عبارات التهديد وهي بأي حال من الاحوال ستؤدي إلى اشعال فتنة لا يعلم مداها إلا الله وقد تؤدي إلى ركوب السودان قطار الجزائر الدامي لان كل طرف من الاطراف المتصارعة يحسب انه على حق وانه لابد أن ينتقم من الآخر، واتفاق ماشاكوس قد فتح الباب واسعا لهذا الصراع الكبير وقد ظهرت من خلال وسائل الاعلام الكثير من الارهاصات بدخول الاغتيالات معترك الساحة السودانية.

أولا: حزب المؤتمر الشعبي المعارض الذي يتزعمه الترابي يحسب انه مظلوم ظلم (الحسن والحسين) إذ انه لم يفعل شيئا حتى تعتقل قيادته بعد توقيع مذكرة تفاهم ليست إلا مع الحركة الشعبية لتحرير السودان وجاءت الحكومة بفعل أكثر منه سوءا إذ وافقت على حق تقرير المصير الذي يؤدي إلى الانفصال.

ومن ثم استهداف الحكومة لقواعد وقاعدة المؤتمر الشعبي بعد اتهامه بمحاولة اغتيال الأمين العام للحزب الحاكم ابراهيم أحمد عمر وبروز كلمة (الاغتيال) التي لم تحدث أبدا في تاريخ الصراع السياسي في السودان الامر الذي يكشف عن مستقبل قاتم للسودان في المرحلة المقبلة.

ثانيا: القوى الشمالية المعارضة والتي تحمل السلاح ضد الحكومة (الشيوعيون وحزب الاتحادي الديمقراطي) ترى أن الحكومة ارتكبت خطأ تاريخيا إذ قررت في أمر السودان بمفردها حسب قولهم انها، لا تمثل السودان كله ولا تمثل القوى السياسية، حتى انها لا تمثل كل الاسلاميين فكيف تقرر في السماح بحق تقرير المصير من دون مشاورة كل القوى السياسية.

ثالثا: القوى الجنوبية الرافضة للاتفاق مع الحركة الشعبية وهؤلاء يعتقدون أن جون قرنق لا يمثل كل الجنوبيين وان موافقته على الاتفاق كانت من اجل المنصب الكبير الذي سيتولاه مع عمر البشير، والقوى الجنوبية الرافضة للاتفاق غالبيتها من الذين يوجدون في الخارج جزء كبير منهم في مصر وفي بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية وقد ظهرت الكثير من الآراء السالبة لهم في الأيام الماضية إذ سيشكلون هاجسا كبيرا إذا ما تم الاتفاق النهائي بين الحكومة والحركة الشعبية.

جون قرنق جديد...!

هذه الحوادث الجسام والتداعيات الخطيرة على رغم ما فيها من عبر ودروس للحاكمين والمحكومين على السواء فانها تنذر بشر مستطير لان الكل يملك السلاح ويملك المبررات التي تجعله يطلق النار على أخيه... ثم ان نظام الانقاذ الوطني بعد احساس قادته بالغرور والافتتان بالسلطة قد أحدث الكثير من المظالم ولفئات كثيرة من الشعب السوداني على رغم الضوائق المعيشية التي غيّرت كثيرا في تركيبة المجتمع السوداني واحداث الخلل فيه فأصبحت الآن كل الدلائل تشير إلى أن السودان مقبل على فترة عصيبة للغاية وقد توافرت كل الظروف لذلك من اتساع للخلافات بين الحاكمين أنفسهم في المقام الأول وبين الحاكمين والمعارضين المسلحين وغيرهم وانتشار السلاح في كل مكان إذ ان غالبية القوى السياسية المعارضة داخل المجتمع السوداني تمتلك السلاح وأكبر هذه القوى المؤتمر الشعبي، علاوة على ذلك الحدود السودانية الواسعة الامتداد الأمر الذي يسهل وقوع عمليات عسكرية كما كانت تحدث قريبا في مناطق الشرق والغرب وبروز قوى جنوبية متمردة جديدة مكان الحركة الشعبية بزعامة جون قرنق واستمرار الحكومة السودانية في تأليب القوى السياسية عليها وذلك بالتعيينات الوزارية المتلاحقة والتي يرى المراقبون أنها تزيد من أزمات الشعب السوداني وقد وصل عدد الوزراء في السودان إلى رقم لا يصدق وكذلك مستشارو رئيس الجمهورية واستحداث مناصب جديدة من دون مهام من أجل استرضاء الذين لم ينالوا شيئا من كعكة التعيينات السابقة واثر ذلك تم دخول الجانب المنشق من الصادق المهدي للحكومة والذي يعرف انه لا يملك شعبية ولا أرضية قوية حتى تسند إليه المناصب التي أسندت إليه وفيها منصب مستشار رئيس الجمهورية للشئون الافريقية وهو منصب مستحدث، ومنصب آخر مساعد رئيس الجمهورية كما تم استحداث وزارات ومناصب جعلت المعارضين يحسون بالغبن تجاه الحكومة من تبديد أموال الشعب السوداني في مناصب غير ذات جدوى وتزيد من الضوائق المعيشية وبذلك يملكون المبررات... المعارضة المسلحة تجعل السودان في طريقه لان يركب قطار الجزائر الدامي الذي يصعب معه توقف القطار إذا انطلق من محطته الأولى والتي ندعو الله صباحا ومساء أن لا ينطلق وان يدخل الأجاويد بين المعارضين للحكومة وان تراعي الحكومة السودانية مستقبل الوطن الذي مزقته الخلافات وأن لا تظهر حركة متمردة جديدة على الساحة

إقرأ أيضا لـ "خالد أبو أحمد"

العدد 119 - الخميس 02 يناير 2003م الموافق 28 شوال 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً