العدد 1195 - الثلثاء 13 ديسمبر 2005م الموافق 12 ذي القعدة 1426هـ

اختراق الصحافة... إفساد السياسة!

صلاح الدين حافظ comments [at] alwasatnews.com

لا ندري بدقة من أفسد من، من اخترق الآخر أولاً، لكننا نعرف أن اختراق الصحافة أصبح شائعاً ذائعاً عبر صور وأشكال مختلفة، إن كان السياسيون وأصحاب القرار يمارسونه بقوة، فإن آخرين دخلوا المنافسة، وخصوصاً رجال المال والإعلان والأعمال. ولا ندري بدقة أيضاً من أفسد من، ومن نقل العدوى القاتلة للآخر... هل نحن الذين نقلنا عدوى اختراق الصحافة وانتهاك قيمها، إلى البلاد الديمقراطية، وخصوصاً إلى أميركا، أم أن أميركا ذات القوة والتأثير هي التي نقلت إلينا تلك العدوى اللعينة. وفي المحصلة نرى اليوم أمامنا صوراً سوداء، تقول باختصار شديد إن اختراق الصحافة إفساد للسياسة والعكس صحيح، إحدى هذه الصور، تكمن فيما يتعرض له الصحافيون في معظم الدول العربية من مضايقات شديدة، سواء من خلال القوانين المعاكسة لحرية الصحافة، أو من خلال الممارسات الأمنية والحكومية التي تعمل على تضييق مجال الحركة أمام الصحافيين لعرقلتهم عن نقل الحقيقة ونشر وإذاعة المعلومات، التي على أساسها يشكل الرأي العام مواقفه. ولقد شهد العام 2005 على سبيل المثال مشاهد قاتمة من تعرض كثير من الصحافيين المصريين لمضايقات، وصلت إلى حدود الاعتداء الجسدي والإيذاء النفسي، خلال حوادث سياسية مهمة مثل يوم الاستفتاء على تعديل المادة 76 من الدستور، ويوم انتخاب رئيس الجمهورية، ثم شهر الانتخابات البرلمانية الممتد فيما بين نوفمبر/ تشرين الثاني وديسمبر/ كانون الأول .,,2005 اعتداءات تمتد من الضرب إلى الاعتقال المؤقت والاحتجاز، إلى جانب أن قانون الطوارئ ونصوص عقوبة حبس الصحافيين في قضايا الرأي والنشر تظل كالسيف المعلق على الرقاب، ومن عجب أن الجماعة الصحافية، وقد هبّت غاضبة محتجة على هذه الانتهاكات المفروضة، هي نفسها الجماعة التي تعاني شللاً وعجزاً داخلياً ملحوظاً، نتج عن اختراقات هائلة مارستها الأجهزة الحكومية والأحزاب السياسية المختلفة والمتصارعة، تعكس تأثيراتها السلبية على صفحات الصحف وعبر أقلام بعض الصحافيين، فإذا بهذه وهؤلاء يعبّرون عن فكر ومصالح أصحاب الاختراق، أكثر مما يعبّرون عن الرأي العام صاحب المصلحة الأولى والحقيقية، من هنا بدأ تدخل السياسة في الصحافة بشكل فج، لم يفلح في تسويق السياسات وتلميع وجو، السياسيين، كما أنه في الوقت نفسه لم يصلح أحوال الصحافة، بل تركها نهباً للفساد والإفساد المنظم وغير المنظم، والأمر بلا شك قد بلغ مرحلة الخطورة والتدهور المهني والأخلاقي والفكري، انعكس سلباً على الأوضاع عموماً، لقد أصبح معروفاً أن قدراً هائلاً من المال، يعد بمئات الملايين، أنفق على الحملة الانتخابية لأعضاء البرلمان العام ،2005 تجاوز كل الأرقام السابقة التي كنا في الماضي نعتبرها خيالية، ولقد ذهب جزء كبير من هذا المال المراق تنافساً على مقعد البرلمان في بلد فقير، إلى الصحف ووسائل الإعلام المختلفة، التي أصبحت سلاحاً قوياً في مناخ المنافسة. فإذا كان مقبولاً مهنياً ومالياً وسياسياً، أن يدخل هذا المال عبر مسالكه الشرعية، ونعني الإعلانات الصريحة، فمن غير المقبول مهنياً وأخلاقياً ومالياً وسياسياً، أن يتسرب هذا المال عبر مسالك أخرى غير شرعية، مثل خلط الإعلان بالإعلام، لخداع القارئ أو المشاهد والتدليس عليه، فلا يعرف إن كان ما يقرأ مقالاً للرأي أو خبراً أو معلومة، أو هو إعلان غير صريح وفضاح، والنماذج لا تعد ولا تحصى. فإن أضفت إلى ذلك نماذج أخرى، من نوع الرشا الخفية والمكافآت العلنية التي تعودت وزارات وأجهزة وأحزاب بل ودول أجنبية، دفعها لبعض مندوبي الصحف ووسائل الإعلام من ذوي النفوس الضعيفة والذمم الخربة، لأدركت عمق الاختراق الذي نفذ إلى العمق، ومن الوريد إلى الوريد في مهنة تعلمنا منذ البدايات أنها مهنة سامية، تعلو فوق الفساد لأن مهمتها الرئيسية فضح الفساد، فماذا جرى حتى وصلنا إلى هذه الهاوية، في وقت يسعى الشرفاء في هذه المهنة إلى تعميق رسالتها وتوسيع حريتها وفك القيود عن جنودها؟ فإن كنا نلوم رجال السياسة والمال على اختراق الصحافة وإفسادها، فلماذا لا نلوم رجال الصحافة، على قبول إغراءات الاختراق وإغواءات الإفساد... وخصوصاً أنه لا يمكن فك الاشتباك الحيوي بين الصحافة والسياسة لا الآن ولا في المستقبل، فهما مترابطان كالتوأم؟، ليست صحافتنا وحدها الموبوءة بهذا الفساد والإفساد والاختراق، لكنها واحدة من نماذج عدة في الماضي والمستقبل، في الشرق والغرب على السواء، وفي هذه المناسبة نذكر لمن يريد الاطلاع والتعمق بثلاثة كتب مرجعية عن اختراق الصحافة عبر الحكومات والأموال والساسة والمخابرات، وهي على التوالي: 1­ الحرب الباردة الثقافية (لفرانسيس ستونر سوندرز) ترجمة طلعت الشايب. 2­ التحالف الأسود بين الاستخبارات والصحافة (تأليف الكسندر كوكبرن وجيفري سانت كلير ) ترجمة أحمد محمود. 3­ تزييف الوعي لصلاح الدين حافظ. لكننا حين نترك الكتب والمراجع، ونعود إلى التطورات الأحدث، تفاجئنا فضيحتان انفجرتا فجأة في وجه السياسة الأميركية، التي تعاني تدهوراً في الصدقية وكراهية متزايدة، في الداخل الأميركي، كما في أرجاء العالم. الفضيحة الأولى، هي التي كشفت عن قيام وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) عبر رجالها العسكريين والإعلاميين في العراق تحت الاحتلال، بدفع رواتب شهرية ورشا عينية (أجهزة الكمبيوتر وآلات التصوير الحديثة) لعدد من الصحافيين والكتاب، لكتابة ونشر أخبار ومقالات تمدح الاحتلال الأميركي وتسوّق لمحاسنه وتبرر عملياته العسكرية، أمام الرأي العام العراقي والعربي والدولي. وفي وجه انفجار الفضيحة (وهي ليست الأولى على كل حال في التاريخ الأميركي ولن تكون الأخيرة) سارع الجيش الأميركي في العراق إلى نشر بيان اعترف فيه بدفع الأموال مقابل نشر مقالات في صحف عراقية، في حين قال السناتور الأميركي جون وارنر إن هناك مجموعة تعمل تحت قيادة ثاني أكبر قائد عسكري أميركي في العراق (جون فاينز) هي التي أعدت هذه المقالات، وراجعها ضباط كبار ومستشارون قانونيون أميركيون، ثم تم تسليمها إلى شركة وسيطة هي لينكولن جروب التي قدمتها للصحف والصحافيين في العراق لنشرها مقابل أموال تدفعها لهم، في إطار السياسة الأميركية لتحسين الوجه ومحاربة كراهية أميركا، وقبل أن يرد وزير الدفاع الأميركي رامسفيلد، بأنه يدرس هذه القضية بدقة، كانت شظايا فضيحة اختراق الصحافة وإفسادها بدفع رواتب ورشا، قد طالت الصحافة الأميركية ذاتها فأصابت صدقيتها أيضاً، وليس فقط صدقية بعض الصحف العراقية والعربية، إذ نشرت صحف أميركية هذا الأسبوع، أن البنتاغون والمخابرات المركزية الأميركية وآخرين، تعودوا الدفع لبعض الكتاب والصحافيين الأميركيين، مقابل نشر معلومات أو أخبار تروّج لهدف معين (مثل حكاية أسلحة الدمار الشامل في العراق قبل الغزو)، وكذلك مقابل نشر مقالات وتعليقات تبرر السياسات الأميركية، بما فيها شن الحرب ضد أفغانستان والعراق، والحملة الدولية ضد الإرهاب التي ازدادت بعد هجمات سبتمبر/ أيلول .2001 وهكذا فإن السياسة الأميركية العدوانية، لم تكتفِ بالتسبب في مقتل نحو 65 صحافياً عربياً وأجنبياً، خلال الحرب ضد العراق وعلى مدى سنتين فيما بين 2003 ­ ،2005 ولم تكتفِ بكل الممارسات القمعية ضد الصحافيين والمراسلين لمنعهم من أداء عملهم في نقل حقيقة الحوادث من ساحة المعارك، لكنها تمادت وصولاً إلى التفكير في قصف قناة «الجزيرة»، وامتداداً لإفساد الصحافة العراقية واختراقها وشراء ذمم بعض الصحافيين مقابل دولارات معدودة، وهي كلها أعمال محرّمة وتصرفات مجرمة، ألا تشجع هذه الأعمال المحرمة المجرمة، قانونياً ومهنياً وأخلاقياً وسياسياً، حكوماتنا العربية الرشيدة، على التوسع فيما تمارسه من تصرفات مماثلة، طالما أن أميركا قائدة الديمقراطية العالمية ومصدر وحيها، تفعل ذلك وترتكب الجرم المحرم جهاراً نهاراً... فمن يا ترى أفسد من؟، أما الفضيحة الثانية، التي انفجرت في وجه السياسة الأميركية، تزامناً مع الفضيحة الأولى، فهي تلك الخاصة بالسجون الأميركية السرية، المنتشرة عبر العالم، والتي أصبحت تعرف «بالمناطق السوداء» والتي تديرها المخابرات المركزية الأميركية، وتحتجز فيها آلاف المعتقلين من جنسيات مختلفة بتهمة الإرهاب، وتمارس فيها كل صنوف التعذيب، بعيداً عن أعين القانون والصحافة والرأي العام. لكن الفضية انفجرت لتصيب الصدقية القانونية والأخلاقية الأميركية بضربة موجعة، وتصيب السياسة والسمعة الأميركية بمزيد من التشوه... فالفضيحة أكبر من المداراة ومحاولات التمويه والإخفاء، فإن كانت فضائح التعذيب التي يمارسها الأميركيون، قد تفجّرت من ثلاثة معتقلات شهيرة هي سجن باغرام في أفغانستان، وسجن أبوغريب في العراق، ومعتقل غوانتنامو الأميركي على الأرض الكوبية، فإن المعلومات الأحدث تشير إلى سجون سرية أخرى في دول أوروبية وعربية وآسيوية عدة، ترتبط بصداقة مع أميركا، وتقبل أن تنقل إليها المخابرات الأميركية معتقلين معصوبي الأعين، لانتزاع اعترافات منهم تحت أساليب تعذيب وحشية، (تتعفف الأجهزة الأميركية عن ممارستها فوق الأرض الأميركية خوفاً من القانون،). باسم احترام القانون ومشاعر الرأي العام الأميركي واحتمال محاسبة الكونغرس ومطاردة منظمات حقوق الإنسان، تصدر أميركا (صاحبة الديمقراطية الأخلاقية) جرائم تعذيب من تعتقلهم إلى دول صديقة، تمارس التعذيب بشهوة سادية، لتحصل هي على ما تريد الحصول عليه من أفواه المعذبين أنصاف الموتى، بضمير مستريح وقلب بارد، من دون أن تلام على الأقل أمام الرأي العام الأميركي، وقد تصوّرت الإدارة الأميركية الحالية بقيادة بوش وعصابة المحافظين الجدد، أن بإمكانها أن تهرب من دماء جريمة التعذيب، وتنجو بنفسها تاركة التهمة عالقة برقاب غيرها، إلا أن افتضاح الجريمة على نحو ما جرى حديثاً، قد كشف المستور، وكم هو غير أخلاقي بقدر ما أنه غير ديمقراطي وغير قانوني، لأنه في البداية والنهاية جريمة حرب، محرّمة على الدوام مجرّمة باستمرار. و

إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"

العدد 1195 - الثلثاء 13 ديسمبر 2005م الموافق 12 ذي القعدة 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً