العدد 1199 - السبت 17 ديسمبر 2005م الموافق 16 ذي القعدة 1426هـ

حضارات «سادت ثم بادت»

أحمد البوسطة comments [at] alwasatnews.com

هناك فريقان: فريق يحاول إسقاط مقولة أرسطو، التي ينعت فيها الشرقيين بأنهم يملكون «طبيعة العبيد»، أي أنهم لا يتقبلون الديمقراطية، ويتحملون بالتالي الضيم والظلم والطغيان دون شكوى أو تذمر» وفريق آخر لايزال إلى يومنا يتمسك بهذه المقولة ويدافع عنها بما أوتي من قوة المحارب المقدام لبقاء السائد، أو اليائس القنوع، وكأنها علامة وُصِمَ بها شرقنا إلى أبد الآبدين، على رغم التغيرات ورياحها العاتية التي تهب على الكون كله، والثورة المعلوماتية التي بموجبها أصبح العالم «غرفة صغيرة»، وليس قرية صغيرة فحسب، يتناقل فيها الخبر خلال ثوان وليس دقائق بواسطة «دَعسة» زر على «الكيبورد». الفريق الثاني، ربما مصاب بالاستسلام واليأس بعد نفاد صبره وعجزه، دون إدراك أن كل نفاد للصبر إنما يحمل في صميمه التغيير، أو ربما هذا «الفريق» يحاول تعميم مقولة أرسطو عن شرقنا الحبيب، وهذه الثقافة السلبية، لاستمرار بقائه مدة أطول في ممارسة طغيانه. ولم لا، ما دام الناس لا يشكون ولا يتذمرون ولا يحتجون، ولا يتظاهرون ولا يعتصمون، ولا يقولون «لا»، إلاّ وقت الشهادة، الفريق الأول، يرفض أن يكون متخلفاً ومتقوقعاً وجامداً في صومعته، فتراه من وقت إلى آخر يسعى لتحديث معلوماته وقناعاته القديمة ويفاضلها مع الجديد والمتطور والمستجد، تماماً كما يفعل جلنا مع الكمبيوتر، لكي تتوافق المعطيات المطروحة مع المنطق وتراكم المعرفة وفق مراحل التفكير السليم بعد «التفكيك والتركيب». هذا، الفريق الذي يحاول إسقاط مقولة أرسطو، وتغيير وصمة «طبيعة العبيد» عن الشرقيين، دائماً في موقع اتهام وتشكيك: أما مجنون، أو خارج عن القانون، أو الاثنان معاً» مجنون، لأنه يخال نفسه كـ «جنكيزخان» (1162 ­ 1228)، ذلك الفلاح الأمي، الذي أصبح السيد المطلق بعد أن حقق طموحه الكبير فأضحى إمبراطور العالم، وكان يردد دائماً: «إن الانتقال من طرف إلى طرف في إمبراطوريته ذهاباً وإياباً يحتاج إلى سنة كاملة ركوباً». أما خارج عن القانون: لأنه سيعاقب كما فعل الإيطاليون بالشهيد عمر المختار، حين حاصروه وأسروه وحكموا عليه بالإعدام شنقاً أمام الليبيين مرتين في العام ،1931 وذلك لملء اقتناعهم بأن هذا الرجل «الخارج عن القانون» لن يموت بسقطة واحدة في حبال المشنقة، فأعادوا الكرّة ثانية ليتيقنوا من موته، متناسين إنه رمز لوحدة ليبيا التي تقاوم الاستعمار الإيطالي البغيض، ثوري لا ينضب، يُنهل من بطولاته، ويستقى من إيمانه، وأنه باق ما دام على الأرض ظالم وصاحب حق ثائر. إيمان الفريق الأول نابع من إيمان عمر المختار وآخرين كثر من ثورييّ الشرق الذين تخلوا عن «طبيعة العبيد» ونعوت أرسطو، أما تفكير وثقافة الفريق الثاني مردها الزوال، فذاكرة التاريخ تعج بالكثيرين من الفريق الأول والثاني، كلهم مرّوا على العالم القديم والحديث، قبل الميلاد وبعد الميلاد: منهم مازالوا محاطين بهالات التمجيد والحب، ومنهم من يُلعنون في كل شاردة وواردة... وهكذا، الدنيا تدور وتدور، وقرأنا خلالها مفردات في الكتب عن: «حضارات سادت ثم بادت»، وقصصاً وحكايات عن الحروب والصراعات التناحرية السياسية وغير التناحرية، لكننا نتفق أو نختلف مع مقدمة كتاب تركي ضاهر «أشهر القادة السياسيين من يوليوس قيصر إلى جمال عبد الناصر»، التي يقول فيها: «لعل مقتضيات الحكم تحتم على الحكام الليونة، لأن السياسة جدل، ولأن الجدل يأخذ ويعطي، لكن منطق الثوار يفرض فرضاً بالبندقية حيناً، وبالرفض الشعبي السلمي أحياناً أخرى، لكن لكليهما بالنهاية هدف واحد: السلطة والحكم. الثائر يثبت إنه حر لأنه جاهز للموت في كل دقيقة وثانية ومستعد للنهاية التي اختار» والحاكم يثبت أنه حر أيضاً، لأنه غير جاهز للموت، من هنا التمسك بالسلطة حتى لا يحدد غيره موعد رحيله». ويضيف ضاهر: «ومهما حاول الحاكم أن يكون بدوره ثائراً، فإنه سيفشل، لأن الحكم امتلاك، ولأن الثورة هي انعدام الامتلاك». (ص 5). تعرفون طبعاً يُوليُوس قيصر، الروماني الملقّب بـ «رجل كل العصور»، الذي عاش قبل الميلاد، وصاحب الكلمة الشهيرة أثناء مصرعه بغرس خناجر أتباعه في جسده في اجتماع بمجلس الشيوخ، وهو يتطلع إلى صديق عمره «بروتس» الذي شارك مع القتلة ليقول: «حتى أنت يا بروتس،» رجل كل العصور هذا، لم يسلم من القتل على رغم طبائعه الإنسانية، وابتعاده عن الحقد والضغينة، وتعامله المتسامح مع أعدائه ودعمه لطبقة الفقراء في المجتمع الروماني ومقاطعاته بتوزيع حبوب القمح عليهم مجاناً» فكيف بطغاة منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر؟، ... فهذا هو التاريخ، لا يرحم. فالشرقيون لن يظلوا إلى ما لا نهاية كما نعتهم أرسطو: «عبيداً» لا يتقبلون الديمقراطية، ويتحملون الضيم والظلم والطغيان دون شكوى أو تذمر، بل أحرار سينهون صلاحية هذه المقولة، إن لم تنته صلاحيتها بعد، أو كادت.

العدد 1199 - السبت 17 ديسمبر 2005م الموافق 16 ذي القعدة 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً