العدد 1208 - الإثنين 26 ديسمبر 2005م الموافق 25 ذي القعدة 1426هـ

تركيا والأكراد... ووساطة جلال الدين الطالباني

فاروق حجي مصطفى comments [at] alwasatnews.com

كاتب سوري

بثت إحدى القنوات الفضائية التركية قبل أيام حواراً مهماً مع رئيس جمهورية العراق جلال الطالباني، كان له صدى كبيراً. وتأتي أهميته من ان الطالباني أوضح في هذا الحوار كثيراً من النقاط التي كانت تشغل بال الأتراك، وربما بال أكثر من جهة في المنطقة، إذ ركز على دور الأكراد الايجابي في عراق المستقبل، وكيف أنهم يشكلون اليوم عامل التوازن في الساحة العراقية. ويبدو أن الطالباني أراد من هذا الحوار ألا يحصر عامل توازنه هذا في العراق فقط، بل أراد أن ينقل هذا العامل إلى تركيا الجارة القلقة، عبر اقتراحه كيفية إيجاد حلول سلمية حضارية تنسجم مع تطلعات الأكراد، الذين طالما ربطوا قضيتهم بالديمقراطية في تركيا. ودعا الطالباني السلطات التركية إلى إصدار عفو عام وشامل عن عناصر حزب العمال الكردستاني، ليكون مدخلاً إلى «تسييس» الحالة النضالية للحزب، وانتقاله من مواقعه في الجبال والشتات ودخوله إلى الحالة المدنية، بما ينسجم والتطلعات الأوروبية لتركيا.

الأتراك المتعصبون قومياً

الحوار الذي كان يمكن أن يسهم في خروج تركيا من مأزقها الكردي وبالتالي الأوروبي، لم يلق أذناً صاغية من قبل بعض الأتراك، ولم يكن محل ترحيب لدى بعض الفئات التركية القومية المتعصبة، انما كان مهماً فقط لدى بعض الأوساط الحكومية، وخصوصاً من قبل حزب «العدالة والتنمية» الذي ينظر إليه القوميون الأتراك على انه حزب إسلامي متخلف ورجعي، مع إن «العدالة والتنمية» خطا خطوات مهمة بالنسبة إلى مستقبل تركيا، في حين كانت الأحزاب العلمانية عاجزة. القوميون الأتراك وبحسب ما رأينا من خلال شاشة قناة «العالم» الإيرانية لم يرفضوا مبادرة الطالباني، بل ذهبوا إلى ابعد من ذلك، فهناك من منّ على الطالباني، وقال بأنه «لا يحق له مساعدة تركيا لأنه كان يحمل يوماً جواز سفر تركياً، فهو أصغر من أن يقدم المساعدة لتركيا». وهناك من قال: «قبل أن يقوم الطالباني بمساعدة تركيا فمن الأولى به أن يحل مشكلاته»، وكانت هناك مواقف ملتبسة ومتوترة ومؤسفة أخرى من قبل الأتراك. في الحقيقة إن هؤلاء القوميين الأتراك وعلى رغم أنهم مديرون لمراكز دراسات، وعلى رغم أنهم يعتبرون أنفسهم من النخبة التركية ومن الطبقة العلمانية التقدمية، إلا أنهم لا يعرفون تاريخهم وتاريخ علاقة «مام جلال» مع تركيا، وحجم الخدمات التي قدمها إليها. فهؤلاء الذين يعتبرون إعطاء «جواز سفر» تركياً للطالباني منة نسوا أن الطالباني كان يوماً من الأيام ثورياً، وكان يقود حركة سياسية نشطة تأثرت بها تركيا، وان إعطاء تركيا له جوازاً للسفر لم يكن حباً خالصاً فيه، والمفروض أن يعرفوا أن لتركيا أيضاً غايتها ومصلحتها. ردود فعل هؤلاء الأتراك يستوقفنا للوقوف عند عدة محطات عموماً. المتابع للشأن التركي أو الكردي يعرف أن مساعدة الطالباني لتركيا ليست هي المرة الأولى، بل تمت هذه لمرات عدة، فمن الاجدى لهؤلاء القوميين ألا يطلقوا المواقف جزافاً، بل يتطلب منهم أن يرجعوا برهة إلى قراءة تاريخهم السياسي الحديث، قبل أقل من 20 سنة. هؤلاء نسوا انه سبق لتركيا ورئيس جمهوريتها الراحل تورغوت أوزال الطلب من الطالباني مساعدته في تخفيف ضربات حزب العمال الكردستاني. ولعل عدداً من الكتب التي تبحث في سياسات تركيا تتحدث عن دور الطالباني وتهدئته لاوجلان في نقمته على تركيا. كما تؤكد أيضاً أن الطالباني قام لمرات وبناء على طلب من أوزال بزيارة إلى دمشق والالتقاء باوجلان وحثه على وقف الكفاح المسلح لفترة، لإفساح المجال أمام الحل السياسي. لذلك فإن مواقف بعض الأتراك هذه لا يكشف إلا على حقد كامن تجاه الأكراد ومسيرتهم الديمقراطية ودورهم التصالحي. وما يبدو انهم لا يريدون المساعدة.

مؤاخذات على تركيا

ولا نستغرب من أن لا يعي المتطرفون قومياً قدراتهم وإمكاناتهم، فإذا كان لدى الأحزاب العلمانية والقومية هذا المستوى من القدرة على حلول أزمات بلدهم، فلماذا لا تعمل على حل هذه الأزمة التي أصبحت سبباً لتدهور وضع تركيا الأمني والاجتماعي والاقتصادي والسياسي؟ إن مساعدة الطالباني لتركيا هي مبادرة منه لوقف نزيف الدم، لانه يدرك انه ومهما كان مستوى الصراعات والنزاعات فهي لا تحل إلا عبر الحوار. فالحوار هو الطريق الوحيد القادر على إيجاد الحلول. هذا فضلاً عن إن تاريخ تركيا أثبت أنها لا تستطيع إيجاد حلول بنفسها ولوحدها، فقد كانت دائماً محتاجة إلى من يساعدها. فتركيا احتاجت إلى «إسرائيل» والمخابرات الأميركية (سي آي أي) في اعتقال أوجلان، وهي منذ سنين من دخول القوات الأميركية إلى العراق تطلب من الأميركان مساعدتها في ضرب عناصر حزب العمال الكردستاني. وفي كل اللقاءات التركية مع الدبلوماسيين والمسئولين الغربيين والأميركيين، تطلب المساعدة لإنهاء ملف حزب العمال. حتى بالنسبة إلى علاقة تركيا مع اليونان، لم تسطع تركيا أن تحل مشكلتها مع اليونان، بل طالبت بتدخل الأمين العام للأمم المتحدة لايجاد الحلول. وكذلك مشكلتها مع الأرمن ومع العرب. التاريخ التركي يقول: إن تركيا ليست محتاجة فقط إلى المساعدات الدبلوماسية والسياسية لإيجاد الحلول لمشاكلها المختلفة، بل عجزت عن لعب دور في مساعدة جيرانها، كما في إيجاد وفاق بين الفلسطينيين والإسرائيليين على رغم جهرها بأنها تلعب دور الوساطة بين الطرفين. وبالمثل، لم تستطع تركيا تخفيف الضغوطات على سورية على رغم صداقة سورية لها، هذا عدا عن أن تركيا كانت عاجزة من لعب دور في العراق، أو دفع السنة إلى المشاركة في العملية السياسية العراقية. بل انها لم تستطع إنهاء «حزب الله» التركي المتشدد، مع إن هذا الحزب من صناعة مخابراتها لضرب العمال الكردستاني. وفي الحقيقة، إن الأتراك يخطئون حينما يقولون إن «على الطالباني أن يحل مشكلاته أولاً»، فمن يعرف الأكراد ويعرف تصريحات الزعيمين الكرديين (الطالباني والبرزاني) ويكون قريباً من العملية السياسية في كردستان العراق يعرف عدم دقة القراءة التركية للمرحلة. فالمتابع يعرف كيف أن الأكراد حلوا كل مشكلاتهم الداخلية وحتى مع محيطهم، وحتى مع تركيا. ولعل بعض المراقبين الأتراك الليبراليين شهود على ذلك، فالأكراد بددوا كل الاحتقانات التي كانت تحيطهم، وفيما بينهم وبين المختلفين معهم. ولا نستغرب من إن كاكا مسعود البرزاني (رئيس كردستان) ومام جلال الطالباني (رئيس العراق الفيدرالي) وبسرعة قياسية وجدوا الحل لكل مشكلاتهم، فقد استطاعا أن يحلا مشكلاتهما بروية وبصدر واسع، بينما كان هناك من يعتقد بأنها ستكون سبباً لتدهور أوضاع الأكراد، خصوصاً مع مواجهة مشكلتين من اعقد المشكلات: المشكلة الأولى: مشكلة الحزبين الكرديين العلمانيين مع التيارات الإسلامية، فالكرد استطاعوا أن يحلوا مشكلاتهم مع الجماعة الإسلامية الكردستانية، مع أن هذه الجماعة كانت خارج الإطار الكردي، وقد تضررت من الضربات الأميركية في الأيام الأولى من دخولها العراق، واعتقال رئيس الجماعة الإسلامية الكردية علي بابير أكثر من مرة من قبل القوات الأميركية. فقوة الإقناع التي يمتلكها الرجلان فرضت على الجماعة الإسلامية ألا يكون هناك خيار أمامها غير الرجوع إلى الصف الكردي والتحالف معه حتى في الانتخابات البرلمانية الأخيرة. كما كان لهذه الجماعة عدد من الممثلين في برلمان كردستان.

«سلخ» جماعة أنصار الإسلام

من جهة أخرى، استطاع الحزبان وقيادتهما أن يسلخا جماعة «أنصار الإسلام» من قاعدتها الكردية إلى درجة لم تعد الآن هذه الجماعة تحمل الهوية الكردية، فأمير هذه الجماعة «ملا كريكار» محصور في النرويج على ذمة المحاكمة. طبعاً نحن لا نريد أن نبحث في هذا المقال عن علاقة الأحزاب الإسلامية الكردية مع الأحزاب العلمانية الكردية فهي تحتاج إلى دراسة معمقة. المشكلة الثانية: هي مشكلة الأقليات القومية في كردستان، إذ على الرغم من دعم تركيا للجبهة التركمانية وتحريضها، لم تعد الجبهة تمثل في هذه المرحلة مشكلة، فهي الآن تشارك في العملية السياسية والانتخابية في كردستان وفي العراق، وتعمل علناً وتنشط في كل المدن الكردية حتى وهي تملك السلاح، وأحياناً ترهب الناس، إلاّ إن الأكراد استطاعوا استيعابها وتحويلها من حال خارج على إطار العملية السياسية إلى إطار عامل ومشارك فيها. هذا عدا عن أن هناك عدداً من الأحزاب التركمانية حليفة للأكراد ومساندة لهم. أما بالنسبة إلى الكلدان والآشوريين والسريان فلا مشكلة بينهم وبين الأكراد، فنائب رئيس وزراء إقليم كردستان من السريان، ولهم نفوذ في الحزبين الكرديين، عدا عن تواجدهم في البرلمان الكردي وفي مؤسسات الإقليم. فكل الأقليات القومية في كردستان تتمتع بحقوقها ولديها إذاعة وتلفاز بلغتها، مع مدارسها ومؤسساتها وصحفها ومجلاتها، ومن يزور كردستان يعرف ذلك. ولعل الأتراك يعرفون أكثر من غيرهم لأنهم موجودون بكثافة في المدن الكردية (دهوك،اربيل،السليمانية). فإذا قارنّا وضع الأقليات في كردستان مع وضع الأقليات في تركيا على رغم أن لتركيا تراث دولة منذ مئات السنين، فإن كردستان ستعتبر سويسرا مقارنة مع تركيا.

إعادة جواز السفر التركي

بقي القول إن علاقة حسن الجوار هي السمة الأساسية في العلاقات الدولية الراقية، وهذا يتطلب المساعدة فيما بينها، والمساعدة لا تنحصر في من تكون أنت ومن أين أتيت؟ فلكل مسئول في أية دولة شخصيته الاعتبارية، وهذا ما تعلمناه من القانون الدولي. فلا يجوز أن تعتبر الطالباني رجل السلم والحوار حين يلعب دوراً في ترتيب العلاقة بين تركيا والعمال الكردستاني، وحين يصبح رئيساً لا تحبذ أن يقدم لك المساعدة، نقول ذلك لان تركيا في فترة من الفترات اعتبرت الطالباني رجل السلم والحوار، وكان يحمل جوازها، الذي أعاده إليها فور تسلّمه رئاسة مجلس الحكم في العراق، وذلك في زيارته إلى تركيا. وكان يقدم خدمات لتركيا حينما كان رئيساً لحزب كردي وبجواز سفر تركي، إلا انه الآن يريد أن يساعد تركيا وهو رئيس للعراق، وظروفه الموضوعية تفرض عليه أن يكون قادراً

إقرأ أيضا لـ "فاروق حجي مصطفى "

العدد 1208 - الإثنين 26 ديسمبر 2005م الموافق 25 ذي القعدة 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً