العدد 1276 - السبت 04 مارس 2006م الموافق 03 صفر 1427هـ

تراجيديا المياه الطبيعية في البحرين... التكاليف

وليد خليل زباري Waleed.Zubari [at] alwasatnews.com

وليد خليل زباري

في المقال السابق تم التطرق إلى موضوع «تراجيديا الموارد العامة» (Tragedy of the Commons)، المصطلح المستخدم لوصف مشكلة استنزاف الموارد الطبيعية العامة بسبب عدم كفاءة تنظيم استخدام هذه الموارد وإدارتها من قبل المجتمع، وتم بيان كيف أن استنزاف المورد الطبيعي من قبل الأفراد قد يحقق مكسباً يعود عليهم بالنفع وحدهم ولفترة معينة، ولكن خسارة المورد يتحملها كل مستخدمي هذا المورد والمجتمع ككل بمن فيهم هؤلاء الأفراد بعد حين، وأن الموارد الطبيعية العامة معرضة لسوء الاستغلال والاستنزاف وتدهور حالها وفي النهاية خسارتها، ما لم يتم تقييد استخدامها المكثف وتنظيمه للحدود الآمنة للمورد من قبل الدولة، بواسطة سلطات مسئولة لديها الصلاحية القانونية الكاملة للمحافظة عليها وضمان استدامتها.

وتم التطرق إلى ما مرت به المياه الجوفية في مملكة البحرين كمثال حي على ذلك، وكيف أن استغلال هذه الموارد الطبيعية بشكل عشوائي وغير منظم من قبل المزارعين وملاك الأراضي، والإدارة غير الكفوءة لتنظيم استخدام المياه الجوفية آنذاك، قد أديا إلى زيادة معدل السحب السنوية لتصل إلى أكثر من ضعف الإيراد الطبيعي من الخزان المائي الجوفي، ما أدى إلى انخفاض المستويات المائية ونضوب جميع العيون الطبيعية، وتملح المياه الجوفية في معظم مناطق البحرين، باستثناء شريط ساحلي ضيق يقع في الأجزاء الشمالية الغربية من جزيرة البحرين الأم.

أما بالنسبة إلى التكاليف التي يتحملها المجتمع البحريني حالياً من نضوب وتدهور نوعية الموارد المائية الجوفية في المملكة، فإن هناك قضيتين أساسيتين يتعين أخذهما في الاعتبار: الأولى، مستوى اعتماد المجتمع على هذه المياه الجوفية. والثانية، كلفة توفير مصادر مائية بديلة مكافئة في الكمية والنوعية للمياه الجوفية لتقوم بوظائفها الحالية. بمعنى آخر: إنه إذا كانت المياه الجوفية هي مصدر مائي غير مهم في المجتمع ولا يعتمد عليه بشكل واسع فإن خسارته قد لا تؤدي إلى تأثيرات مهمة على المجتمع أو الاقتصاد، وخصوصاً إذا توافرت مصادر مائية بديلة ذات كلفة هامشية.

ولكن في دولة مثل البحرين، وبسبب وقوعها في المناطق الجافة وعدم توافر موارد مائية طبيعية أخرى مثل المياه السطحية، فإن المياه الجوفية تمثل مصدراً مائياً نادراً للمملكة، إذ كانت وحتى منتصف السبعينات من القرن الماضي (بدء إنشاء محطات التحلية) تمثل المصدر الرئيسي والأوحد لتلبية المتطلبات المائية البلدية والزراعية والصناعية للمملكة. وعلى رغم زيادة إنتاج المياه المحلاة منذ ذلك الحين وتزايد الاعتماد عليها في تلبية متطلبات المملكة المائية المتنامية، فإن المياه الجوفية مازالت تمثل مصدراً مائياً رئيسياً لمعظم هذه المتطلبات وبنسبة تصل إلى نحو 70 في المئة، أي أن هناك قيمة إضافية إلى المياه الجوفية في البحرين بسبب عاملي الاعتماد والندرة. بالإضافة إلى ذلك، فإن الحسابات الاقتصادية المباشرة لا تأخذ في الاعتبار الفوائد الخفية أو غير المحسوسة للمجتمع ووظائف هذه المياه الجوفية في المحافظة على الموائل الطبيعية والتنوع البيولوجي، والتي تعتمد عليها بشكل رئيسي.

ولذلك يمكن تقسيم تكاليف خسارة المورد المائي الجوفي إلى تكاليف مباشرة وتكاليف غير مباشرة، وكذلك إلى تكاليف مادية يمكن حسابها نقدياً بالطرق الاقتصادية الكلاسيكية وتكاليف لا مادية من الصعب تقييمها، وتتفاوت قيمتها وفق الأشخاص والمجتمعات.

ومن التكاليف المباشرة الرئيسية خسارة المورد المائي الطبيعي الوحيد الذي تمتلكه مملكة البحرين وفقدان جاهزيته للاستخدام المباشر في مختلف الأنشطة الاجتماعية والاقتصادية التنموية، ويمكن حساب كلفة توفير مصادر بديلة لتحل محل المياه الجوفية في تلبية وظائفها في القطاع الزراعي والبلدي بحساب كلفة المياه المكافئة لإنتاج هذه المياه من المصدرين الرئيسيين المتوافرين للمملكة، وهما: تحلية المياه (للقطاع البلدي) ومياه الصرف الصحي المعالجة (للقطاع الزراعي). وبافتراض الاستخدام الحالي للمياه الجوفية بنسبة 75 في المئة للقطاع الزراعي و25 في المئة للقطاع البلدي، وبمعرفة تكاليف إنتاج هذه المياه تحت ظروف البحرين، والتي تبلغ حوالي دولار واحد لإنتاج متر مكعب واحد من المياه المحلاة (بحسب تقديرات البنك الدولي في العام 2000)، ونحو 0,3 دولار أميركي لإنتاج متر مكعب من المياه المعالجة ثلاثياً (بحسب تقديرات دراسات مركز البحرين للدراسات والبحوث للعام 1992)، فإننا سنجد أن قيمة توفير موارد مائية بديلة مكافئة للإيراد المائي الطبيعي السنوي لمملكة البحرين (نحو 100 مليون متر مكعب سنوياً) تبلغ نحو 47 مليون دولار سنوياً.

وهذا يمثل القيمة النقدية لخسارة المورد المائي الجوفي على أقل تقدير، وذلك بسبب عدم احتساب نقل المياه المعالجة للمناطق الزراعية لتحل محل المياه الجوفية في مناطق استخدامها. وتبلغ الكلفة التقديرية لمشروع تحديث وتوسعة محطة توبلي المركزية للمعالجة وإنشاء شبكة نقل المياه المعالجة ثلاثيا من المحطة إلى المناطق الزراعية التي ستستفيد منها نحو 130 مليون دولار (بحسب تقرير الرقابة المالية الأخير). وبافتراض أن عمر المشروع هو 25 سنة، ستكون الكلفة السنوية للمشروع هي نحو 5 ملايين دولار (من دون احتساب سعر الفائدة أو معدل الاستهلاك)، أضف إلى ذلك كلفة التشغيل والصيانة للمحطة وشبكة التوصيل التي تقدر بنحو 2 مليون دولار سنوياً على الأقل. وعليه، نجد أنفسنا أمام خسارة مادية مباشرة كلية تصل إلى نحو 54 مليون دولار أميركي في العام (نحو 20 مليون دينار بحريني سنوياً) على أقل تقدير ومن دون إدخال عامل الندرة المذكور سابقاً.

كما أن تدهور نوعية المياه الجوفية بسبب تملحها قد أدى إلى خروج الكثير من الأراضي الزراعية (المعتمدة أساساً على الري بالمياه الجوفية) من دائرة الاستثمار بسبب تصحرها، وتحويلها إلى مناطق سكنية بسبب زيادة الطلب على الأراضي الإسكانية وارتفاع العائد منها مقارنة بالاستثمار الزراعي، أي خسارة الأراضي الصالحة للزراعة نهائياً في بلد يفتقر أصلاً إلى هذه التربة الخصبة بشكل كبير. ويصعب تقدير الخسارة الاقتصادية للأراضي الزراعية في مملكة البحرين، وكذلك خسارة المزارعين البحرينيين الذين يعتمدون على الزراعة كمصدر رزق وتحتاج إلى بحوث تفصيلية معمقة، ولكن يمكن تقديرها بعشرات الملايين من الدنانير، إذا لم تكن أكثر.

أما بالنسبة إلى التكاليف غير المباشرة فتتمثل في خسارة وظائف المياه الجوفية في البحرين والمتمثلة أساساً في فقدان العيون الطبيعية والبيئات المحيطة بها، التي اشتهرت بها البحرين منذ القدم، ما أدى إلى تدهور البيئات والموائل الطبيعية للحياة الفطرية النباتية والحيوانية المصاحبة لها (مثل السلاحف والضفادع البحرينية المهددة بالانقراض، والتي توجد حالياً بأعداد محدودة جداً في محمية العرين في محاولة يائسة للمحافظة على البقية الباقية منها)، وبالتالي خسارة التنوع البيولوجي والحياة الفطرية في هذه الموائل. أضف إلى ذلك خسارة الكثير من موائل الطيور المهاجرة التي كانت عيون البحرين الطبيعية تعتبر إحدى محطاتها الرئيسية. كما أن تملح المياه الجوفية قد أدى إلى خسارة الكثير من المساحات والبساتين الخضراء التي كانت تتميز بها جزر البحرين وتضفي عليها جمالاً لا يوجد له مثيل في المنطقة.

كل هذا أدى في النهاية إلى خسارة المجتمع البحريني لفرص استثمار هذه البيئات الفريدة من نوعها في السياحة والتعليم والثقافة والفنون والبحث العلمي، بالإضافة إلى القيم الجمالية والتراثية والإبداعية التي خسرها الجيل الحالي ومن بعده الأجيال القادمة للعيون الطبيعية وبيئاتها الغنية بالأحياء النباتية والحيوانية الفطرية التي كانت تعتمد على المياه المتدفقة من العيون الطبيعية.

وطبعاً، يصعب وضع تكاليف نقدية على الكثير من هذه الخسائر اللامادية، مع أن البعض يذهب إلى أن خسارة وظائف وفوائد العيون الطبيعية لا تقدر بثمن، فمثلاً كيف يمكن إعطاء قيمة نقدية للإلهام والجمال الطبيعي الذي كانت توفره هذه البيئات لفنان بحريني أو مشروع فنان في طفل مدرسة ابتدائية؟ ولكن يمكن تخيل حجم هذه الخسائر وتأثيراتها الاجتماعية والاقتصادية والتراثية والروحية على المجتمع البحريني.

إذاً، فالكلفة التي يتحملها المجتمع البحريني بسبب خسارة المورد المائي الطبيعي، أو كما يسميها البعض كلفة القرارات الإدارية الخاطئة أو غير المسئولة في استثمار المورد المائي الجوفي، كبيرة جداً، ويدفع ثمنها حالياً المجتمع ككل، ومن بعدنا الجيل القادم وبثمن أكبر.

في الأسبوع المقبل سيتم تناول الجهود الحالية للجهات المسئولة عن المياه في إصلاح هذه الأوضاع، وتحليلها، وعرض لبعض الحلول والإجراءات الجذرية التي يقترح اللجوء إليها للمحافظة على الموارد المائية الجوفية في مملكة البحرين.

أستاذ إدارة الموارد المائية، جامعة الخليج العرب

إقرأ أيضا لـ "وليد خليل زباري"

العدد 1276 - السبت 04 مارس 2006م الموافق 03 صفر 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً