العدد 1313 - الإثنين 10 أبريل 2006م الموافق 11 ربيع الاول 1427هـ

كفاية سياسة...!

نادر كاظم comments [at] alwasatnews.com

.

هل كان ادوارد سعيد يقصد البحرين حين قال: «إن السياسة في كل مكان» إذ لا مهرب لأحد منها؟ بالطبع لا، إلا أن البحرين اليوم ومنذ منتصف القرن العشرين مثال نموذجي على هذه المقولة. فالسياسة بالفعل في كل مكان هنا، وهي متداولة على لسان الكبير والصغير، وتكاد تجري منا مجرى الدم في العروق، فالجميع هنا يتنفس السياسة وينشغل ويشتغل بالسياسة، وكأننا سياسيون بالطبع والفطرة! أو كأننا مخطوفون بالسياسة ولا فكاك لنا من هذا الخطف المزمن. كل حديث عندنا يبدأ بالسياسة وإليها يعود، وأحاديثنا التي تبدأ في شأن غير سياسي تنتهي إلى السياسة رغماً عنا وعنه... فكل حديث اجتماعي يجري بيننا يتورط بالسياسة، وكذا هي أحاديث الثقافة والتحليل الاقتصادي والمناقشات الدينية وشئون التعليم والإعلام... والحديث الذي لا ينتهي بالسياسة لا مهرب له من المرور بها والارتطام بجدرانها في كل مرة. وكأن السياسة عندنا نار جهنم، ومكتوب علينا المرور بها، وما منا إلا واردها، وكأن ذلك حتماً مقضياً على كل واحد منا!

السياسة بالنسبة لنا بلاء، والانشغال والاشتغال بها حد الاستغراق علامة على أزمة حقيقية. في كل بلدان العالم هناك أزمات سياسية، إلا أن قوة الحياة في تلك المجتمعات تحول بلاء السياسة إلى ابتلاء، والابتلاء اختبار وهو بمثابة التحدي، والمنتصر في هذا التحدي هو من يتجاوز الاستغراق والغرق في السياسة والتسييس، ليتعامل مع السياسة بقدرٍ، ومع الدين بقدر، ومع الثقافة بقدر، ومع الرياضة بقدر... المبتلى بالسياسة حد الاستغراق لا يعي كم هو غارق في السياسة، ولكن حين يأتي زائر غريب فإن أول ما يلفت انتباهه هو أن كل شيء في هذا البلد مسيس وغارق في السياسة، ولا مجال في مناخ كهذا للحديث عن الفن والثقافة والتربية والنظرية والتاريخ والتفكير والتحليل السياسي... لسبب بسيط وهو أن الابتلاء المرضي بالسياسة يعني الابتلاء بالشأن اليومي والحدث السريع والمتلاحق والمتغير باستمرار، في حين أن تلك العوالم تتطلب فسحة من الروية والتأمل، وقدرة على تحريك الرأس في كل الاتجاهات.

الاستغراق في السياسة هو استغراق في الحدث اليومي، ومن يستغرقه الحدث اليومي لا يستطيع الفرار منه ولا الالتفات لا للوراء ولا للأمام، فرأسه ثابتة في اتجاه اليومي العابر، فيظل هكذا حبيس الشأن السياسي اليومي. وبهذا المعنى فالجميع هنا سجناء بالسياسة، والسياسة هنا سجن لا مهرب منه، وهي أغلال في أعناقنا إلى الأذقان ونحن بسببها مقمحون وعاجزون عن الرؤية والتمييز، بل لا نبصر هذه السجون والأغلال، لأن السجن المزمن يورث العمى السياسي والثقافي. إلا أن الزائر الغريب في مأمن من هذا العمى، ولهذا فهو قادر على معاينة حجم استغراقنا في السياسة، هذا الاستغراق الذي يحيط بنا كسدٍ من أمامنا ومن خلفنا. هذا كلام نسمعه كثيراً من معظم زوار البحرين الذين يأتون وفي مخيلتهم صورة مشرقة عن البحرين الناهضة ثقافياً وحضارياً. والمفارقة التاريخية هنا أن أمين الريحاني حين مرّ بالبحرين في العام 1922 في طريق عبوره إلى الحجاز دهش مما رأى وشاهد في هذا «المعبر» الذي اكتشف فيه «سلسلة من المدهشات». و«سلسلة المدهشات» هذه لم تكن لا سياسية ولا مسيسة، بل هي سلسلة من المدهشات في العمران والأسواق والتجارة الناشطة والنهضة الأدبية والثقافية والتعليمية التي تعبر عنها مدرسة ابتدائية (مدرسة الهداية) تعلم فيها «بعض العلوم التي لا تزال تعد في اليمن مثلاً من بواعث الكفر والضلال».

لقد كسرت بحرين العشرينات أفق التوقع لدى أمين الريحاني، فأخطأ الظن بها، وهو يقول هذا بكل وضوح: «ما أخطأت الظن مرة ببلاد عربية مثل خطئي بالبحرين. وما دهشت من قطر من الأقطار التي زرتها دهشتي أول يوم في هذه الجزيرة». كان يظن «البحرين جزيرة صغيرة حقيرة يأوي إليها الصيادون»، فكذبت بحرين العشرينات ظنه وظن «أدباء العرب» الذين ينسحب عليهم ما انسحب على الريحاني؛ لأن الجهل بحقيقة البحرين «جهل عام يكاد يشمل كل أدباء العرب». والمفارقة أن العلم بالبحرين اليوم «يكاد يشمل كل الأدباء» والمثقفين، إلا أن البحرين مازالت إلى اليوم تثير دهشة الزائرين وتكسر أفق توقعهم في كل مرة. غير أن مكمن المفارقة هنا هو أن موضوع الجهل/ العلم اختلف، وأساس الظن الخطأ تبدل. فالنهضة الأدبية والثقافية والتعليمية التي قلبت ظنون أمين الريحاني و«أدباء العرب» معه، صارت اليوم منسية ومحجوبة خلف أستار وأغلال السياسة. تغيرت الأحوال، وصار القادم إلى البحرين هذه الأيام يجيء وتسبقه الظنون و«سلسلة المدهشات» الثقافية والأدبية والتعليمية، فإذا بالسياسة والتسيس يكسران أفق توقعه ويقلبان كل هذا ليتصدرا هما دون غيرهما «سلسلة المدهشات» والأعاجيب في هذا البلد.

مكتوب على كل زائر للبحرين أن يعيد سيرة أمين الريحاني، سيرة الدهشة، ولكن بطريقة مقلوبة. ولهذا القلب سيرة طويلة ويكفي لمعرفة فصولها أن نلقي نظرة سريعة على الحركة المحمومة هذه الأيام لتأسيس الجمعيات السياسية المتكاثرة كالفطر، ولحجم الندوات والتجمعات السياسية، ثم لنرجع إلى الوراء لنكتشف أن لا مثيل لهذه الظاهرة في تاريخ البحرين إلا حمى تأسيس النوادي الثقافية في النصف الأول من القرن العشرين: «نادي إقبال أوال» 1913، و«النادي الأدبي الإسلامي» 1913، و«النادي الأدبي» 1920، و«المنتدى الإسلامي» 1928، و«نادي العروبة» 1939. وشتان بين الاثنين.

هذا تحول شامل همش كل شيء، وصدر السياسة في الواجهة، فصارت هي المركز الذي يجذب كل الأطراف من مجالات الحياة وحقول العلم والمعرفة والفنون والبشر والحجر. وفي هكذا سياق ينغلق كل شيء، وتعظم كل الصغائر، ولا يكون هناك مجال لانفتاح أي أفق في أي حقل من الحقول، بل لا مجال للتنفس خارج السياسة. ومن يكتب له النجاح في التنفس خارج السياسة سيكتب عليه أن يعيش بنفسية الهارب من الأغلال والسجون المزمنة، ولهذا تراه شارداً في عوالم الفن والفكر الخالصين، وإلى عوالم الموضوعية اللامبالية أو النظرية المتعالية عن كل ما يحصل في هذا العالم. ما ينبغي أن نلتفت إليه هو أن هذه الحال ليست اعتباطية بل هي نتاج سياق مبتلى بالسياسة والتسييس حد الاستغراق والغرق. فلكل هيمنة معارضة، وكل سلطة تولد مقاومتها. ولا مخرج لنا من هذه الدائرة إلا بكسر طوق السياسة والتسييس، ووقف هذه الحمى المنتشرة، والجرأة على القول: «كفاية سياسة يا عالم!»

إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"

العدد 1313 - الإثنين 10 أبريل 2006م الموافق 11 ربيع الاول 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً