العدد 1316 - الخميس 13 أبريل 2006م الموافق 14 ربيع الاول 1427هـ

قبل أن يحدث المحذور

عباس هاشم Abbas.Hashim [at] alwasatnews.com

اندس بين ركاب الحافلة المليئة بالركاب المدنيين والشرر يتطاير من عينيه، وحين اطمأن لامتلاء الحافلة بالركاب، ضغط زر الحزام الناسف، فتطايرت جثث الأبرياء. في اليوم التالي طرق باب بيت هذا المجرم رجل، خرجت أمه فسألها: هل ابنك موجود؟ فأجابت بأنه لم يعد مذ خرج بالأمس، عندها أعطاها خطابا وقال لها إن ابنها أمره أن يرجع له هذا الظرف، وإن لم يجده يسلامه لأهله. فتحت الأم الخطاب، فقرأت أن الولد هو من فجار نفسه وسط تلك الحافلة وقتل من فيها (من الكفار)، حتى يتنعم بعدها بالغذاء مع رسول الله (ص).

قد يقول قائل بأن فكره التكفيري دفعه لهذا العمل، إلا أن السؤال: لماذا يتم استهداف هذه الفئة من المسلمين، في بلد مليء بغير المسلمين الذين قلما يتم استهدافهم؟ وتاريخيا، إذا استثنينا الخوارج، يصعب العثور على حال مشابهة قريبة بعد العصر الراشدي، ولكن توجد صورة قريبة من حيث الأثر وربما أسوأ. فقد عاش رجل طاعن في السن، يقتلع رجليه من الأرض اقتلاعا حين يمشي، ويتمايل حتى يخال للناظر أنه على وشك السقوط. استدعاه يزيد بن معاوية يوما من أجل قضية خطيرة جدا، وهي إنهاء تمرد أهل المدينة المنورة الذين طردوا واليه عليها عثمان محمد بن أبي سفيان. واختار هذا الرجل بالذات التزاما بوصية أبيه حين حضرته الوفاة كما يذكر أهل السير، إذ اوصاه: «أن لك يوماً من أهل المدينة، فإن فعلوها فارمهم بمسلم بن عقبة، فإنه رجل قد عرفنا نصحه».

غير أن يزيد وجد الرجل عليلاً، فأعفاه من هذه المهمة، إلا أنه رفض هذا الاعفاء وقال: «أتحرمني ثوابا قد كتبه الله لي»؟ وهو يجيب بذلك على سبب تفجير ذلك المجرم نفسه في حافلة تعج بالأبرياء.

الرجل رجا ثواب الله بحصار المدينة 3 أيام، ثم دخلها وأعمل في أهلها السيف والنهب والسلب، وانتهك الأعراض في تلك الواقعة التي أطلق عليها «واقعة الحرة»، سنة 63 هـ. فالاستهتار بالبشر الذي نشاهده اليوم في العراق صورة محدثة من استهتار مسلم بن عقبة وأمثاله في التاريخ الإسلامي. استهتار لا حدا له، إذ قتل في تلك الواقعة سبعمئة من الصحابة والتابعين، وبعد انتهاء المعركة، أول من أتيَ به هو محمد بن أبي جهم، فقال له مسلم: «تبايع أمير المؤمنين يزيد على أنك عبد قن، فإن شاء أعتقك وإن شاء استرقك»، فرد عليه: بل أبايع على أني ابن عم كريم حر، فقال: «أضربوا عنقه»، فقتل. وأما التابعي الشهير سعيد بن المسيب، فقد تم خنقه عندما رفض العرض نفسه، فحسبوه قد مات، إلا أنه أفاق فيما بعد وتركوه لاعتقادهم أنه مجنون.

ان امتزاج وتآلف الحقد الفئوي مع الفكر التبريري الذي يبشر بالأجر والثواب، يتحول إلى سلوك عملي يحرق الأرض ومن عليها. من لم يقرأ عن شداة وبأس الخوارج في القتال؟ فقد كانوا يندفعون إلى الموت ويرمي الواحد منهم نفسه وسط المعمعة، ويهجم على عدوه بكل شراسة من دون أن يعبأ بشيء، بسبب الفكر التكفيري الذي يحشو أدمغتهم، ويعدهم بالجنة والثواب على انتهاك الأعراض وقتل حتى أهل البيت والصحابة الكرام.

إن التبرير لا يجدي، والزعم بأن المسلمين بريئون مما يحدث انما هو تزوير للحقيقة، ولا يصح سوى الاعتراف بوجود فكر تكفيري يتم توارثه، وتاريخ المسلمين للأسف، مليء بمثل هذه الشواهد المعيبة، ومحاولات مصادرة الفكر والقتل على الهوية على أيدي الحكام غالبا. غير أن الخطر الأكبر الذي يعاني منه المسلمون حاليا حين تنتقل تلك الممارسات من الحكام إلى عامة الناس، وما دام هناك فكر يبيح الدماء والأعراض والأموال لمن يخالفه، فسيظل الخطر كامنا ينتظر الفرصة ليتحول إلى سلوك جهنمي تجاه الآخر.

وهذا الفكر التكفيري موجود في بلادنا، وهناك أيد تغذيه من أجل أهداف سياسية، وليت من يدعي الوطنية يتحدث بصراحة عن تلك الممارسات التي يتم فيها اتهام الآخر في دينه وتكفيره أو رميه بالشرك. ووجود هذا الفكر الخطير في المجتمع، مع تعامي المسئولين عن التحقيق الجاد، ومشاركة البعض في تلك الأنشطة، قد ينتهي بنا جميعا إلى أتون المحرقة الطائفية.

وحين يتلقف بعض النواب والكتاب التصريحات غير المسئولة للرئيس المصري، ليصبوا مزيدا من الزيت الطائفي المقيت، ضد مواطنيهم، من دون أن يسألوا أنفسهم: أليس هؤلاء أحفاد صعصعة بن صوحان وبقية أقحاح العرب الذين سكنوا هذه الجزيرة منذ فجر التاريخ؟

إن المخلصين مدعوون للتحرك من أجل تجفيف منابع هذا الفكر الإقصائي، والتأكيد على ضوابط الاختلاف، والعمل على رفع الشرعية عن الممارسات العدائية ضد الطرف الآخر، حتى يتم الحيلولة من احتمال حدوث ما لا يحمد عقباه، والحيلولة دون استجلاب ما ساء من التجارب في هذا المضمار والتي مرت بها دول عدة كباكستان وأفغانستان وحاليا العراق

إقرأ أيضا لـ "عباس هاشم"

العدد 1316 - الخميس 13 أبريل 2006م الموافق 14 ربيع الاول 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً