العدد 132 - الأربعاء 15 يناير 2003م الموافق 12 ذي القعدة 1423هـ

خلف الأزمة الكورية يقف التحدي الصيني غير القابل للحل

بداية انقشاع غبار 11 سبتمبر

بشير موسى نافع comments [at] alwasatnews.com

.

تثير المسألة الكورية جدلا واسعا في الأوساط الاعلامية والسياسية والعربية وغير العربية. حتى أن كلا من «تايم» و«نيوزويك» الاميركيتين صدرتا في مطلع الشهر الجاري بملفين رئيسيين للمقارنة بين كوريا الشمالية والعراق. ثمة أساس طبعا للإعجاب العربي المتزايد بالموقف الكوري وتحدي بيونغ يانغ السافر للإدارة الأميركية، وشماتة لا تخفى بالولايات المتحدة وعجزها عن الاستجابة الفعالة لهذا التحدي فيما هي تحشد الجيوش والاساطيل للاعتداء على العراق. ولكن المسألة الكورية، أو الكورية الشمالية تحديدا، تحمل أبعادا اكثر تعقيدا من مجرد قيام دولة فقيرة معدمة معزولة بتحدي إدارة اكبر قوة في عالم اليوم.

بعض هذه الأبعاد لابد أن يرى باعتباره إدانة مطلقة لنظام الحكم الدكتاتوري، أي حكم دكتاتوري مستبد، وكلفه الإنسانية الباهظة. وبعضها الآخر لابد أن يستدعي مزيدا من الاهتمام العربي - الإسلامي بدور الصين المستقبلي في معادلات القوة في العالم.

كوريا الشمالية بحد ذاتها مثال واضح على فشل النظام الستاليني التحكمي والآثار المأسوية لهذا النظام على حياة شعب بأكمله. ففي كوريا الشمالية اليوم ثمانية ملايين إنسان، أي ثلث تعداد السكان تقريبا، يعيشون على المساعدات الغذائية الاجنبية من الصين وكوريا الجنوبية واليابان والأمم المتحدة. وعلى رغم أن المنظمات الدولية لا تعرف تماما حجم مشكلة الجوع في البلاد، لافتقارها المعلومات الاحصائية الدقيقة، فمن المعتقد ان مئات الآلاف من الكوريين الشماليين سيموتون جوعا هذا الشتاء. وتقدر المصادر الدولية أن مليونين على الاقل ماتوا لأسباب تتعلق بالمجاعة والفشل الاقتصادي منذ تولي كيم ينغ ايل قيادة بلاده بعد وفاة والده في 1994م. هذا في الوقت الذي يتمتع فيه كيم ينغ ايل، والنخبة المحيطة به، بطراز حياة باذخة يحسده عليها كبار الزعماء في أغنى دول العالم. بنيت الدولة الكورية الشمالية منذ بداية الخمسينات على أساسين من «الاعتماد على الذات» ولكنها فيما عدا التسلح، لم تعد تستطيع الاعتماد على نفسها في شيء. فلا هي قادرة على اطعام شعبها، ولا على حمايته من المرض، ولا هي تستطيع توفير أدنى المتطلبات الضرورية لمعاش الناس. احد اسباب هذا الانهيار شبه الكامل في مقدرات الدولة الكورية الشمالية هو بالتأكيد الحصار الطويل الذي فرضه العالم الرأسمالي على هذه الدولة الشيوعية «الفريدة». ولكن الأسباب الأهم تعود إلى نظام حكم يقود بالعنف ويسيطر عبر أدوات قهر هائلة ورقابة واسعة النطاق، ولا يخضع لأي مستوى من المساءلة الداخلية. كوريا كيم ينغ ايل، وإن برزت تحديا للولايات المتحدة، ليست كوبا، ولا يجب ان يخلط بينها وبين قوى تناضل ضد السيطرة الاميركية بدعم حقيقي من شعوبها.

بيد ان كوريا الشمالية أيضا دليل بالغ الوضوح على حدود القوة الأميركية، وعلى أن سياسة الأبيض/ الاسود، الخير/ الشر، التي تحدد منظور الرئيس الاميركي الحالي للعالم هي سياسة بلهاء عاجزة عن فهم تعقيدات العالم واستيعاب دينامياته. الولايات المتحدة التي تستشعر خطرا فعليا ومباشرا من بيونغ يانغ لا تستطيع إشعال حرب في شبه الجزيرة الكورية. ليس فقط لأن كوريا الجنوبية والصين واليابان وروسيا تعارض مثل هذه الحرب، بل أيضا لأن كوريا الشمالية تمتلك من الاسلحة الكيماوية والبيولوجية (وربما النووية البدائية) ما قد يودي بحياة مئات الآلاف في الجوار الآسيوي، بما في ذلك حياة 35 ألفا من الجنود الاميركيين المتمركزين في كوريا الجنوبية. ان الصواريخ الكورية الشمالية يمكنها الوصول إلى الجزر اليابانية، ويعتقد أن بيونغ يانغ توشك تطوير صواريخ بعيدة المدى تطول آلاسكا الاميركية وربما ولاية كاليفورنيا ايضا . كوريا الشمالية تستطيع، ان اختارت، اختبار قنبلة نووية خلال أشهر قليلة، ولديها جيش قادر على اجتياح جزء كبير من كوريا الجنوبية والوصول إلى العاصمة سيول (التي تبعد عن خط الهدنة بين البلدين 35 ميلا فقط) خلال أيام، هذا ان لم تكن شبه الجزيرة الكورية قد اشتعلت قبلها في محرقة نووية هائلة. عندما يدعي المسئولون الأميركيون ان استهدافهم العسكري للعراق واعتمادهم الخيار الدبلوماسي تجاه كوريا الشمالية ينبع من حقهم وحق اية دولة في تحديد اولوياتها، لا يذكرون الحقيقة. الحقيقة ان المسألة الكورية انفجرت في وجه واشنطن وإدارة بوش بلا حساب ولا توقع، وأن لا خيار أمام الرئيس الاميركي فيما يتعلق بكوريا الشمالية. الخيار الوحيد المتاح هو الضغط الدبلوماسي، الاعتماد على دول الجوار، وخصوصا الصين والتهديد بالمقاطعة والحصار.

وهذا هو ما يستدعي العامل الصيني. الملاحظ منذ اندلاع الازمة الكورية ان بكين لم تدل بدلوها بعد، وذلك في الوقت الذي تشهد فيه المنطقة حركة دبلوماسية محمومة. ولكن الجميع يعرف ان للصين القول الاكثر اهمية في هذه الازمة، سلما سارت الامور او حربا. الصين هي مصدر الدعم الاقتصادي والعسكري الرئيسي لكوريا الشمالية، وهي ايضا صاحبة التأثير السياسي الاهم على القيادة الكورية الشمالية. وكانت شركات صينية هي التي امدت كوريا الشمالية بالمواد الكيماوية الأساسية لإعادة تشغيل مفاعلاتها النووية، الخطوة التي رأتها واشنطن باعتبارها بداية الأزمة. وواشنطن تعرف هذا تماما. ان تطورت السياسة الاميركية باتجاه التوصل إلى تسوية سياسية ما، او باتجاه فرض حظر وحصار دبلوماسي واقتصادي طويل على كوريا الشمالية، فإن الصين ستكون حاضرة في الحالين. في ضوء القرار الكوري الشمالي الاخير بالانسحاب من معاهدة حظر السلاح النووي وهو ما سيضع نهاية لعلاقة بيونغ يانغ بدوائر الرقابة الدولية على تطوير السلاح النووي، اصبح من الضروري لواشنطن ان تتعامل مع الازمة باعتبارها أمرا ملحا بالغ الالحاح. الاتجاه السائد في إدارة بوش أن تسير المفاوضات مع بيونغ يانغ بموازاة مجموعة من اجراءات الحظر الدبلوماسي والاقتصادي، مثل وقف المساعدات القادمة من اميركا وحلفائها، وفرض حظر كامل على تصدير السلاح من كوريا الشمالية، وهو الذي يعتبر المصدر الرئيسي للعملة الأجنبية، وتحديد حركة المسئولين والدبلوماسيين الكوريين الشماليين عبر العالم.

مثل هذه السياسة تواجه ايضا عقبات ومحددات مهمة. فسياسة الحظر والحصار تحمل دلالات لا أخلاقية لا تخفى، إذ كيف يمكن للعالم ان يتفهم محاصرة اقتصادية تفرض على بلد يعاني الملايين فيه فعلا من المجاعة. ثم ان هذه السياسة لا تدخل في الحساب ردود الفعل الكورية الشمالية، واحتمالات ذهاب بيونغ يانغ إلى حد الحرب ان هي وجدت ان الأميركيين يدفعونها إلى حافة الهاوية الاقتصادية.

المحدد الثالث، طبعا، هو الصين، إذ ليس هناك من سياسة تستطيع الولايات المتحدة اتباعها من دون تفاهم مسبق مع بكين. الأزمة الكورية هي في أحد أهم وجوهها أزمة كورية - أميركية - صينية. لا يعني هذا بالتأكيد ان كوريا الشمالية مجرد العوبة او اداة صينية، او ان الصينيين يحملون ودا خاصا لقيادة النظام الكوري الشمالي، أو حتى أن الصين على استعداد للذهاب الى حد المواجهة مع الولايات المتحدة من اجل الحفاظ على القيادة الكورية الشمالية الحالية. ولكن المسألة باختصار تتعلق بالجغرافيا، بالتاريخ الطويل بين الصين وكوريا الشمالية، بحجم الصين الاستراتيجي ونفوذها الاقليمي، وبمعادلة القوة في القارة الآسيوية.

كان الاتجاه السائد في قراءة الوضع العالمي، منذ حوادث 11 سبتمبر/ ايلول وإلى وقت قصير، قد خلا إلى حد كبير من التركيز على المسألة الصينية التي شغلت الفكر الاستراتيجي الغربي والاميركي منذ مطلع التسعينات. الدوي الهائل للهجوم على نيويورك وواشنطن وردود الفعل الاميركية الهيستيرية الموجهة بشكل خاص ضد الإسلام والمسلمين داخل القارة الأميركية وخارجها ومن ثم التقارب الاميركي - الصيني - الروسي - الهندي المؤسس على مخاوف القوى الأربع من اتجاهات العنف الاسلامي، اثارت الكثير من الغبار على حقائق الخريطة الاستراتيجية العالمية. وقد بدا للوهلة الأولى ان العلاقات الدولية في طريقها لانعطافة جوهرية ستضع القوى المتنافسة في جبهة واحدة ضد العالم الاسلامي، بغض النظر عن الطريقة التي يتم بها تعريف العالم الاسلامي.

الولايات المتحدة بلا شك تخوض حربا عمياء ضد الاسلام والمسلمين، حربا تدفعها وتحركها قوى معينة داخل النخبة السياسية الأميركية تريد للعلاقات بين أميركا والعالم الاسلامي ان تشتعل، وأن تشتعل لأطول فترة ممكنة. وتتغذى هذه الحرب أيضا من توجهات عنف إسلامي غير محسوب. والعراق ليس إلا محطة في هذه الحرب التي يبدو انها ستفلت في النهاية من يد صاحب القرار الأميركي.

بيد أن الصراع بين الولايات المتحدة والإسلام هو صراع مفتعل، لا تؤسس له حقائق الواقع وتوازناته. الخطر الذي تشكله توجهات العنف الإسلامي هو خطر أمني، لا يؤثر تأثيرا مباشرا على القواعد الاستراتيجية للقوة الأميركية. فقط في حال اتسعت دائرة هذا الصراع وتحول إلى مواجهة شاملة وطويلة بين الولايات المتحدة والشعوب الإسلامية ستكون هناك عواقب استراتيجية على وزن الولايات المتحدة ونفوذها في العالم. ما يشكل تحديا استراتيجيا حقيقيا للسيطرة الأميركية على مقدرات العالم خلال العقود القليلة المقبلة هو بالتأكيد الصين. في الصين، تواجه الولايات المتحدة خصما ناهضا، خصما يمتلك أسس التقنية العسكرية المتطورة، خصما ينمو اقتصاديا بمعدلات غير مسبوقة في التاريخ الاقتصادي للعالم ويوشك أن يصبح القوة الاقتصادية المهيمنة على الأسواق العالمية، خصما ذا قوة بشرية هائلة وقد نجح فعلا في التحرر من شبح المجاعات التي شابت تاريخه، وخصما يقوده نظام سياسي متماسك أجاد استخدام مقدرات الدولة الحديثة وأمسك بقيادتها وبات يخوض مغامرة الاصلاح والتغيير بحكمة وأناة تثير دهشة العالم. خلال الأسابيع القليلة الماضية، عادت اللغة الأميركية السياسية إلى طبيعتها في وصف الصين بالمنافس أو الخصم المحتمل. وبات واضحا أن مشكلة الولايات المتحدة مع كوريا ترتبط ارتباطا وثيقا بمشكلتها الأكثر تعقيدا في التعامل مع الصين.

مهما كان الحل الذي ستصل إليه واشنطن للأزمة الكورية سيكون هناك انتصار ما للصين وخسارة ما للوزن الأميركي الاستراتيجي في آسيا. إن اضطرت واشنطن إلى استرضاء الكوريين مرة أخرى بمزيد من المساعدات وتعهد ما بعدم الاعتداء مقابل التخلي عن البرنامج النووي، ففي ذلك انتصار للصين التي ستحافظ على نظام حليف لها في شبه القارة الكورية، وتنتظر، ربما، مناسبة أخرى لإصلاح شئون هذا النظام. وإن اختارت واشنطن سياسة الحظر والحصار ستضطر إلى تقديم تنازلات مهمة إلى بكين إن كان لها أن تحصل على موافقة صينية على هذه السياسة. أما إن اختارت واشنطن إعطاء الضوء الأخضر لليابان وكوريا الجنوبية ببدء برنامج تسلح نووي خاص بها، فذلك يعني سباق تسلح لا يعرف أحد مداه في شرق آسيا تخرج منه الصين في النهاية عملاقا عسكريا في مدى أسرع بكثير من المتوقع والمخطط حاليا في بكين. وهذا بالتأكيد ما لا تريده الولايات المتحدة ولا حلفاؤها الآخرون في آسيا.

عالم القطب الواحد هو عالم لا يوجد إلا في تصورات من يريد وجوده. في الواقع، ثمة عالم تتدافع فيه إرادات متعددة، بعضها عسكري الطابع، بعضها الآخر اقتصادي، والآخر يتحرك بتسارع لا يمكن ايقافه نحو امتلاك الاثنين. ليس هذا عالم الحرب الباردة، وقوانينه لم تتحدد أو تستقر بعد، وهو ما يستدعي استبصارا وملاحظة وحكمة دائمة. ومن يغفل عن حقائق العالم الجديد، ستحطمه أوهام القوة، استهتار المغامرة، أو المبالغة غير المبررة في قوة الخصم

العدد 132 - الأربعاء 15 يناير 2003م الموافق 12 ذي القعدة 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً