العدد 1336 - الأربعاء 03 مايو 2006م الموافق 04 ربيع الثاني 1427هـ

متى يصاب المرض بفقدان الذاكرة؟ (3)

نادر كاظم comments [at] alwasatnews.com

.

تنطوي ذاكرة المرض في البحرين على سيرة طويلة من التقويض المتصاعد لأسطورة دلمون التي لا يمرض فيها أحد. وفي هذا السياق تأتي الأمراض الوبائية في البحرين الحديثة إبان العصر الإمبريالي. فدلمون التي لا يشكو أحد فيها من ألم العين إذا بمعظم أهلها يبتلون بالتراخوما ورمد العين. ويذكر الطبيب والمبشر شارون توماس أنه زار المحرق في العام 1901 ولاحظ فيها أن «عيون الكثيرين منهم كما بدت لنا مريضة وتحتاج إلى علاج» (القوافل: رحلات الإرسالية الأميركية في مدن الخليج والجزيرة العربية 1901 - 1926. إعداد وترجمة: خالد البسام ص:24) وفي العام 1910 تذكر المبشرة إليانور تيلور أن الشيء الوحيد اللافت للنظر في المنامة «هو عيون الناس الفظيعة، فكم هو مؤلم أن نجد حتى في عيون الأطفال عمى كاملاً» (القوافل، ص:82).

وجاء في سجلات التعليم للعام 1944 أنه «تم الكشف الطبي على عيون جميع طلاب المنامة»، وتبين أن 78 في المئة يعانون من التراخوما، وفي خريف هذا العام انتشر وباء العيون في المدارس وأصيب 50 في المئة من الطلاب في بعض المدارس، وفقد بعض الطلاب عيناً واحدة، كما فقد النظر عدد من طلاب القرى (مئة عام على التعليم النظامي في البحرين، لمي الخليفة ص: 353). أما اليوم فإن نسبة العمى في البحرين تصل إلى 1,9 في المئة.

أهل القرى كانوا عقبة في وجه الطب الإمبريالي

وتشير السجلات الرسمية إلى أن أهل القرى كانوا عقبة كأداء في وجه الطب الإمبريالي، وقد انطوى الموقف من أمراضهم على تعصّب استعماري مكشوف، وتهجّم بلا مواراة على سكان القرى المحليين وعاداتهم وتقاليدهم. وفي هذا السياق يذكر مدير التعليم nilekaW.J.F في تقرير العام 1943 أن «صحة طلاب القرى سيئة وهم يأتون بالفقر والمرض والقذارة معاً إلى المدرسة. وتم تشخيص أربعة من الطلاب مصابين بأمراض جنسية» (ص:338). والحق أن هذا هو ديدن الطب الإمبريالي الذي لا يتحدث عن المرض إلا كعقبة في وجه «التنمية» وتشغيل المصانع والمؤسسات والمنشآت والإدارات. كما أن تدخّله في علاج الأمراض المحلية لم يكن، كأي طب إمبريالي، إلا على نحو انتقائي، فقد كان «هناك تفضيل لمجمعات التعدين والمصانع والثكنات والمراكز المدنية الرئيسية، في حين كان هناك إهمال عام للسكان الريفيين ولصحة النساء والأطفال. كما كان هناك تأكيد على الاهتمام بالمرض الوبائي بدلاً من المرض المتوطن» (الطب الإمبريالي والمجتمعات المحلية، تحرير: دافيد أرنولد ص:35)

وما يؤكد هذه الإشارة إلى اهتمام الطب الإمبريالي بالمرض الوبائي بدلاً من المرض المتوطن، أن المؤسسات والأجهزة الطبية في البحرين خاضت معركة ضارية ضد الأمراض الوبائية التي ضربت البحرين كالجدري والحصبة والملاريا (جاء في تقارير 1940/1939م أن 60 في المئة من أطفال مدارس المنامة كانوا مصابين بالملاريا) والطاعون والتيفوئيد والكوليرا. في حين أنها أهملت مرض فقر الدم المنجلي بما هو المرض المتوطن الأكثر عراقة في هذه الجزيرة.

وقد خرجت البحرين من حقبة الأمراض الوبائية بنجاح لا يكدّر صفاءه غير تلك التوقيعات التي تركتها أمراض عنيدة في صورة الموت المقيم، أو الندوب والتشوهات المحفورة على الوجوه، أو العمى الجزئي أو الكلي الذي جعل عيون الناس هنا مفتوحة على الضوء ولكنها لا ترى تماماً مثل أوديب في مسرحية سوفكليس. ومع هذا يبقى فقر الدم المنجلي هو المرض العنيد وذو القدرة الاستثنائية على توقيع اسمه على شكل المنجل المهيب حين تتقوس كريات الدم الحمراء في أوردة أهل هذه الجزيرة، هذا المنجل الذي لا يكف عن تناسخه في هذه الأجساد المتعبة والشاحبة والتي تصفر في موسم اصفرار الترنج ونزول الشمس في برج الميزان.

هل بالإمكان تعطيل ذاكرة هذا المرض؟

والسؤال الملح هو: هل بالإمكان تعطيل ذاكرة هذا المرض؟ فإذا كان للمرض ذاكرة، وإذا كانت الذاكرة مهددة بالفقدان والتلف، فهل تفقد أجساد أهل هذه الجزيرة ذاكرة هذا المرض العتيد؟ ومتى يشيخ هذا المرض ويصاب بالزهايمر وينتهي إلى الخرف؟ يقال إن احتمال الإصابة بالزهايمر يزيد مع التقدم في العمر، فمن المحتمل في عمر65 أن يصاب به شخص واحد من بين كل مئة، ويرتفع العدد إلى ستة عند عمر 85 إلا أن المرض ليس بشراً، هو ذاكرة عابرة للأجيال، وإلا من ذا الذي سيصدق أن عمر الأنيميا المنجلية الآن يزيد على 4000 عام (إذا أخذنا بالفرضية التي تقول إن الطفرة الوراثية حدثت في الفترة الدلمونية) ومع ذلك لم يصب هذا المرض العنيد بالزهايمر؟

ومع هذا العناد فهناك اليوم طريقان لإصابة هذا المرض بفقدان الذاكرة: الأول هو الفحص قبل الزواج. فإذا كان الأطفال يرثون أحد الجينات من الأب والآخر من الأم، وإذا كان هذا المرض من الأمراض الوراثية المتنحية (أي حتى يصاب النسل بالمرض يجب أن يكون الوالدان حاملين أو مصابين بالمرض)، فبالإمكان إذاً تعطيل ذاكرة هذا المرض من خلال الاقتران بزوجة لا تكون لا مصابة ولا حاملة للجين المعطوب، وكذا الحال بالنسبة للزوجة. وبهذه الطريقة تتقلص نسبة الإصابة بهذا المرض، ويصاب المرض بفقدان ذاكرة جزئي على الأقل.

أما الفقدان الكلي لذاكرة هذا المرض فتبشر به تدخّلات الهندسة الوراثية والثورة البيوتكنولوجية من خلال العلاج الجيني اذ تعالج الأمراض عن طريق استبدال الجين المعطوب بآخر سليم، أو عن طريق إمداد خلايا المريض بعدد كاف من الجينات السليمة بحيث تقوم هذه الجينات بعمل اللازم وتعوض المريض عن النقص في عمل جيناته المعطوبة.

لهذه التدخلات إغراءات واضحة، إلا أنها لا تضمن الفقدان النهائي المبرم لذاكرة فقر الدم المنجلي، فكما حدث هذا المرض نتيجة لطفرة أدّت إلى خلل جيني، فكذلك يمكن أن يحدث الخلل الجيني ذاته في أي جين سليم، والبيولوجيون يعرفون أنه «إذا ما تغير جين بالطفرة أو استبدل به آخر، فالأغلب أن تعقب ذلك آثار جانبية غير متوقعة، وقد تكون بغيضة». وهذه مخاوف حقيقية قد لا تهم المتخصصين في الهندسة الوراثية، إلا أنها قد تكون ذات عواقب كارثية على من هو مصاب أو حامل للجين المسئول عن فقر الدم المنجلي. وفي هذا السياق يذكر العلماء أن الجين «المسئول عن أنيميا الخلايا المنجلية يضفي مناعة ضد الملاريا، وهذا هو السبب في شيوعه بين السود، فأصولهم كما نعلم من إفريقيا حيث الملاريا مرض خطير. قد يرفع إصلاح جين أنيميا الخلايا المنجلية إذاً من قابليتهم للإصابة بالملاريا» (نهاية الإنسان: عواقب الثورة البيوتكنولوجية، لفوكوياما ص:123).

وعلى هذا فإن الفقدان الكلي والنهائي لذاكرة هذا المرض لا يأتي إلا بخيار مستحيل، خيار يوجيني cinegue يمارسه هذه المرة الآباء لا دولة القهر ولا العلماء العنصريون، وهو أن يمتنع المرء المريض عن الزواج، وإذا تزوج أن يمتنع عن الإنجاب والتكاثر، وإذا أنجب أن يتخير من نسله الولد السليم، لأن الثورة البيوتكنولوجية ستقول للوالدين إن الجنين الذي تحمله المرأة سيصاب بهذا المرض الوراثي أو ذاك ثم تترك لهما الحرية اليوجينية للتخلص من الجنين إذا شاءا. فإذا كانت ذاكرة هذا المرض تنتعش من خلال انتقال جينات المرء المريض بالتكاثر، فإن الأمل الوحيد في تعطيل هذه الذاكرة بصورة نهائية يكمن في وقف التكاثر بقطع الطريق الذي يحمل جيناتنا المعطوبة إلى الأجيال القادمة. إلا أن هذا الحل ظالم ويوجيني (مصطلح صاغه فرانسيس جالتون في العام 1883، ويعني به تحسين النسل عن طريق منح السلالات الأكثر صلاحية فرصة أفضل للتكاثر السريع مقارنة بالسلالات الأقل صلاحية، وهذا لا يكون إلا حين يتعطل عمل الصدفة في عمليات الانتخاب الطبيعي ويستبدل بهذا الانتخاب قوانين الانتخاب الاصطناعي والمبرمج).

الخيار اليوجيني ينطوي على مواجهة بيننا وبين الموت

والأهم من هذا أن هذا الخيار اليوجيني ينطوي على نذير مواجهة قاسية وخاسرة بيننا وبين الموت، هذا الموت الذي لا عزاء لنا فيه إلا من خلال تمرير ذكرنا وذاكرتنا وكذلك جيناتنا السليمة والمعطوبة إلى الأجيال القادمة. وعلى المرء عندئذ أن يختار بين موته النهائي المبرم حيث لن يكون له ذكر ولا ذاكرة ولا جينات تمرر إلى أحد، وبين الإنجاب وضمان استمرار ذكره وذاكرته وجيناته حتى لو كانت معطوبة؟ وعلى المرء أن يواجه هذا السؤال الوجودي: هل إنجاب أولاد وتعذيبهم بمرض وراثي أولى من أن يذهب المرء في مواجهة خاسرة مع الموت؟ وهل يكشف حسم الجواب عن هذا السؤال عن معنى المرض الوراثي بحيث تنتفي عنه عندئذ صفة العبثية؟ أي أن تمرير الجينات المعطوبة إلى النسل إنما يكتسب معناه من وضعه جنباً إلى جنب مع مواجهة خاسرة ضد موت محتوم وذاكرة مقطوعة لا محالة، وكأن العبثية لا تفارق هذا النوع من الأمراض إلا حين يكون الإقدام عليه بمثابة انتقام من الموت والذاكرة المقطوعة، أي إن توريث المرض خيار بغيض وقبيح إلا أنه أحسن القبيحين إذا ما قورن بالموت المبرم لجيناتنا (السليمة والمعطوبة) وذكرنا وذاكرتنا. وأخيراً هل يمنح الخوف من هكذا موت المعنى لمرض وراثي عنيد كفقر الدم المنجلي؟ وهل يكون لتمرير جين َّ قب المعطوب إلى أولادنا معنى ينتشل عملية التمرير كلها من عالم العبث؟

جوابي عن ذلك سيكون بالإيجاب، فهذا الخوف المريع من انقطاع الذكر هو ما يمنح المعنى لتوريث فقر الدم المنجلي. وبهذا ستستمر ذاكرة هذا المرض من أجل استمرار ذكرنا الذي يحيا بالتكاثر والتناسل. وعندئذ لن يكون أمامنا لمواجهة هذا المرض ذي الذاكرة العتيدة غير الطريقين السابقين: الفقدان الجزئي للذاكرة من خلال الفحص قبل الزواج، أو الفقدان الكلي ولكن غير النهائي من خلال تدخّلات الهندسة الوراثية والثورة البيوتكنولوجية مهما تكون عواقبها. وعندئذ فقط سيكون من الممكن الحديث عن فقدان جزئي أو كلي لذاكرة فقر الدم المنجلي. وإلى أن تظهر الوعود الإيجابية لقانون إلزامية الفحص قبل الزواج، وتدخّلات الهندسة الوراثية التي تبدو تباشيرها مغرية إلا أنها بعيدة المنال، إلى أن تظهر هذه النتائج سيكون علينا أن نتقبل هذا المرض كابتلاء لا مهرب منه أو كتركة ثقيلة لا مناص من تحملها. على أجساد أهل هذه الجزيرة إذاً أن تتقبل هذا المرض، وأن تحمل توقيع منجله المهيب عليها كالوشم، وأن تسلمه إلى القادمين في الزمن الآتي كما تسلم الأمانات الثقيلة.

وستبقى هذه الأجساد تعيد سيرة ألمها الموسمي، هكذا كما لو كانت تؤدي بذلك واجبها الأسطوري في كل موسم. فطوبى لهذه الأجساد حين يتضخم طحالها وينتفخ بطنها ويصفر لونها وتبتدئ معها ترنيمة الألم الكوني. وتعساً لهذا التوقيع/ المنجل اللعين الذي تتوارثه هذه الأجساد بصورة أسطورية في رحلتها الأبدية بحثاً عن الزمن الضائع، عن دلمون المفقودة، عن مستنقعات أنكي ومنجل نخيله الذي حصد الشجر والبشر معاً.

نص موشوم بهذه الذاكرة

بعد هذا التطواف في الحفر في هذه الذاكرة المؤلمة لم أجد خاتمة أنسب من نص موشوم بهذه الذاكرة، وعنوانه «عطر أخير للعائلة» وهو لفريد رمضان الروائي البحريني الذي يحمل توقيع المنجل المهيب على جسده النحيل كتركة ثقيلة:

«ماذا نقول لهذا الإنشاد اليومي على عتبات مائدة الطب، نخابر بعضنا كلما اشتد الألم ونتعاتب حينما نكتشف علاجاً نتوهم به أحلاماً جديدة، تأخذنا نحو مطالع الأبواب التي توصد عادة في وجوهنا.

كل يوم

كل صباح

تفتتح المائدة على جسد جديد منا، نقترب منه لننظر عجزه ووهنه وهو يختبر عصارات جديدة من حب اليانسون، وثمار الخرنوب وقشر الرمان المجفف. يخضع لاختبارات عله يوصلنا قبل أن يموت لحياة جديدة تمكننا من كسب سنين أخرى.

كل يوم

كل صباح

نعرف خفقان ثوب «النشل» وهو يرف فوق سطح الدار، نستبشر خيراً. نعدو تحت سماء الحي مرددين أغنية، تركض معنا في فضاء الخلوة التي نمل منها. فيفاجئوننا بصور لأطباء نزلوا الحي في حملة تطعيم جماعية. نسأل الخرافة عن حكايتنا التي استهلكها الألم الغريب، فيخبروننا عن هشاشة الحلم.

نحن مرضى الموائد العائلية التي تبسط كل أصناف الطعام والألم على بساط واحد يتيح للحي كله أن يرى ويستبصر ويتذوق ما يلذ له من جحيمنا المكابر. لنا رغبة واحدة: أن لا يمر العذاب على أجسادنا إلا معطوفاً ومنفرداً، إلا مرهوناً ومرتهناً بأول الفجر، بأول السفر.

نحن الرهان الأخير لمرضى العائلة البهية برحيلها المبكر. السلالة الحائرة بين قطفة الروح وقطفة القبل، ومعارك الجسد»

إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"

العدد 1336 - الأربعاء 03 مايو 2006م الموافق 04 ربيع الثاني 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً