العدد 1348 - الإثنين 15 مايو 2006م الموافق 16 ربيع الثاني 1427هـ

عواقب المساومة على المواطنة؟!

نادر كاظم comments [at] alwasatnews.com

.

انطلقت منذ أسابيع الحملة الإعلامية لمشروع «تعزيز المواطنة»، وهو مشروع أطلقته المحافظة الجنوبية برعاية (mtc). وهي حملة اقتصرت، فيما يبدو، على توزيع عدد محدود من الإعلانات على الطرق الرئيسة في البلاد. والهدف من الحملة «تعزيز المواطنة»، وبما انها انطلقت في الطرق الرئيسة للمملكة - لا في مجالس النواب والشورى والوزراء - فإننا نستطيع استنتاج أن المقصود بها هم جمهور المواطنين الذين يمرون على هذه الطرق فتتاح لهم الفرصة لمشاهدة هذه الإعلانات، وتكون النتيجة أن يقتنعوا بمضمونها، فتحقق الحملة بذلك غرضها، ويكون التواصل (بين المرسل والمخاطب) عندئذٍ ناجحاً.

يقال إن فهم أي عبارة تصدر من أي متكلم مرهون بقدرة المخاطب على نسبة «مقصد» محدد لهذا المتكلم؛ لأن المخاطب الذي يؤول عبارة ما يهدف إلى إدراك الفكرة التي يريد المتكلم التعبير عنها. وهذا يفترض أن تكون للمتكلم مقاصد من وراء كلامه، وأن يكون لدى المخاطب القدرة على تأويل هذا الكلام وفهم المقصود من ورائه، ومن دون ذلك يتعطل التواصل، ويفقد الكلام قيمته، ويكون الإخبار فاشلاً.

وحين نقول إن الهدف من هذه الحملة هو إيقاع التأثير في المواطنين وتعزيز مواطنتهم، فإننا نفترض أولاً أن المواطنين هم المقصودون بتعزيز المواطنة، وهم من عليهم العبء الأكبر في إثبات هذه المواطنة، في حين أن المواطنة هي مجموعة من الحقوق يتمتع بها المرء في وطن ما فيشعر أنه مواطن. فالمواطنة ليست عملاً يؤديه المواطن ليعيش «المواطنة»، ولا هو شعور ينتابه ليُطلب منه «تعزيز المواطنة»، بل هي مجموعة حقوق ينص عليها في الدستور، وتكون الدولة مسئولة عن تفعيلها ورعايتها وتعزيزها، وحين تقوم الدولة بهذه المسئولية يعيش المواطن مواطنته ويشعر عندئذ أنه مواطن يتمتع بكامل حقوق المواطنة.

وعلى هذا، فإن الجهة المقصودة بتعزيز المواطنة هي الدولة وليس جمهور المواطنين المخاطبين بهذه الحملة، ونكون أمام مفارقة حقيقية حين نقلب المعادلة فيصبح الطالب مطلوباً، والقاصد مقصوداً، ويكون الحال كمن يملك ساعة ويطلب معرفة الوقت من شخص لا يملك ساعة أصلاً.

ولهذا فالتواصل في هذه الحملة معطل والإخبار فيها فاشل لأنه لن يحقق غرضه ولن يتأثر أحد بهذا الخطاب، لا لأن الحملة خجولة ومقتصدة حد التقتير، بل لأنه لا معنى لمثل هذا التأثر أساساً. فالمتكلم في هذه الحملة هو المقصود بهذه الخطاب، فكان ينبغي أن تنطلق هذه الحملة في مجالس النواب والشورى والوزراء لا في الطرق العامة.

ويبدو أن الجهة التي أطلقت الحملة خلطت بين «المواطنة» و«الوطنية»، وربما كان مقصود الحملة هو «تعزيز الوطنية»، ولو كان كذلك لكان الخطاب في حدود المفهوم، لأن الوطنية انتماء حقيقي يعيشه المواطن، ويظهر هذا الانتماء في دلائل ومشاعر وأعمال عدة، ولهذا يصح أن نطلب من المواطن أن يعزز وطنيته بتعميق انتمائه لهذا الوطن.

ولكن ما ينبغي التنبه إليه هو أن الوطنية انتماء يصدر عن شعور المواطن بمواطنته وحين يتمتع بكامل حقوق المواطنة، فلا يعامل في وطنه على أنه نصف مواطن أو مواطن ونصف؛ لأن كلا المعاملتين تقوض أساس المواطنة، وتزعزع الوطنية في النفوس.

وبهذا فالوطنية هي عاقبة المواطنة، والدولة هي من يستطيع تعزيز هذه المواطنة والحفاظ على حقوقها. ولا يصح قلب هذه العلاقة، فحين يتمتع المواطن بحقوقه كاملة كمواطن فإنه يكون وطنياً بالضرورة. هذه هي العلاقة الطبيعية والعادلة بين المواطنة والوطنية. ونكون فعلاً أمام خلل في العلاقة حين تنقلب المعادلة بحيث تقود الوطنية إلى المواطنة، وتكون المواطنة هي عاقبة الوطنية. ويكون ذلك حين يصبح الولاء وإظهار الانتماء هو شرط التمتع بكامل حقوق المواطنة. وحين نكون أمام هكذا علاقة فإننا نكون أمام وضع غير طبيعي، وأمام عملية ابتزاز ومساومة حقيقية على سلعة المواطنة: فكلما أظهرت وطنيتك تمتعت بكامل حقوق المواطنة، في حين أن الطبيعي هو أن تكون المواطنة خارج إطار الابتزاز والمساومة، وأن تكون حقاً أصيلاً للمواطن، وتقوم الدولة (لا المواطن) بتعزيزه لا مساومة المواطنين عليه، وعندئذ تكون المعادلة الطبيعية كالآتي: كلما تمتع المواطن بحقوق المواطنة كاملة غير منقوصة فإنه يكون وطنياً بصورة تلقائية، وبهذا لا يكون الوطن بحاجة لا إلى حملة إعلامية تستثير في المواطن شعور الوطنية، والأهم أن الوطن لن يكون بحاجة إلى حملات مفتعلة لإثبات الولاء وإظهار الانتماء بصدق أو بكذب. وحين تنتفي عملية الابتزاز والمساومة بين الدولة والمواطن تنتفي هذه المظاهر جملة وتفصيلاً، لأنه لن يكون هناك من داع لمثل هذه الحملات، اللهم إلا أن يكون المقصود بهكذا حملات هو ابتزاز الدولة من أجل الحصول على حقوق فوق المواطنة، وعندئذٍ فنحن نعود بالمواطنة من جديد إلى دائرة الابتزاز والمساومة.

ومن مقتضيات المساومة على المواطنة أن تكون حقوق المواطنة هي السلعة، والدولة والمواطن هما المتبايعان، وأما الوطنية فهي الثمن الذي يدفعه المواطن بغية الحصول على المواطنة. وتحدث المساومة بين الطرفين حين يغالي البائع (وهي الدولة هنا) في ثمن السلعة، فيطلب فيها ثمناً باهظاً. والخطورة في هكذا مساومة أن السلعة غير محددة القيمة، وأن البائع يغالي في ثمنها بلا حدود، ما يعني أن المشتري المحظوظ الذي ستكون هذه السلعة من نصيبه هو من يستطيع مجاراة البائع في مساومته المفتوحة فيدفع من الوطنية ما تطلبه الدولة من ولاء، بأي مقدار كان هذا الولاء وبأي شكل تطلبه الدولة وتفكر فيه أو لا تطلبه أساساً ولا تفكر فيه، فيخرق «الموالي» عندئذٍ «أفق التوقع» عند الدولة فيأتيها بولاء منقطع النظير وغير متوقع ولم يكن في حسبانها، فتكون النتيجة أن يحظى هذا «الموالي» بحقوق فوق حقوق المواطنة.

وبما أن هناك مشترين مقتدرين كثراً فإن النتيجة هي ظهور تنافس وتجاذب حادين ليس بين البائع والمشتري، بل بين المشترين المقتدرين أنفسهم الذين يتنافسون في سبيل نيل هذه السلعة (حقوق المواطنة وما زاد عنها).

ولنتذكر هنا أن المساومة من أخلاقيات السوق لا من أخلاقيات الدولة. ثم إن المواطنة ليست سلعة ليتغير ثمنها ويغالى في سعرها، بل ما كان ينبغي أصلاً أن تكون في موضع المساومة والابتزاز؛ لأن هذا يقود إلى إفساد علاقة الدولة بالمواطنين وعلاقات المواطنين فيما بينهم. ولهذا منع الإسلام أشكالاً من المساومة ونهى عنها لما فيها من فساد وإفساد. ومن هذه الأشكال أن يتساوم المتبايعان في السلعة، ويتقارب الانعقاد فيجيء رجل آخر يريد أن يشتري تلك السلعة ويخرجها من يد المشتري الأول بزيادة في سعرها على ما استقر عليه بين المتبايعين، ورضيا به قبل الانعقاد. فهذه مساومة ممنوعة شرعاً لما فيها من «الإفساد» بين المسلمين، ولهذا جاء في الحديث أن رسول الله (ص) قال: «لا يسُمْ المسلم على سوم المسلم». وعلى هذا فلا يجوز أن يزايد أحد على وطنيته من أجل أن يحظى بمزيد من حقوق المواطنة وما زاد عنها من مناصب وزارية وإدارية وتسهيلات حكومية وغير حكومية.

وإذا كان الإسلام نهى عن هذا النوع من المساومة في السوق فمن باب الأولى أن يكون هذا النوع من المساومة ممنوعاً في الدولة وفي علاقتها بالمواطنين، لأن الإفساد عندئذ سيكون عظيماً وعواقبه فادحة على الوطن والمواطنين. ولا سبيل لوقف هذا الفساد والإفساد إلا بتجريد المواطنة من أخلاقيات السوق، والعودة بها إلى المساومة الأولى بين الدولة والمواطن والتي انعقدت في نص الدستور. وعندئذ ستكون المواطنة جملة حقوق دستورية وليست سلعاً ليغالى في ثمنها، أو لتكون موضوعاً للمساومة والابتزاز. وكذا الحال في الوطنية، فهي ليست ثمناً يدفع مقابل الحصول على المواطنة، بل الصحيح أن الوطنية هي عاقبة المواطنة لا محالة

إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"

العدد 1348 - الإثنين 15 مايو 2006م الموافق 16 ربيع الثاني 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً