العدد 1358 - الخميس 25 مايو 2006م الموافق 26 ربيع الثاني 1427هـ

قراءة تاريخية في «كادر الأئمة» والموقف من الدولة

عباس هاشم Abbas.Hashim [at] alwasatnews.com

من الموضوعات التي أثيرت في الساحة حديثاً، قضية ما سمي بـ «كادر الأئمة». ويلاحظ المراقب وجود خلاف كبير تبدى في وجود ما يشبه الإجماع على رفض الكادر بين علماء الصف الأول من المتصدين للشأن العام من الطائفة الشيعية، وأما الطرف الآخر فقد انضموا إلى الكادر ربما لرفع الضنك المادي فحسب، وخصوصاً أنهم يرون عدم وجود مضرّة على الدين فيه.

وقد تضاربت الآراء بشأن وجود فتاوى تحرّم وأخرى تبيح أخذ الراتب، ولكن هناك فرقاً بين أخذ الراتب مجرداً من غير شروط، وبين الانضمام إلى الكادر، إذ يتحول إمام الجماعة إلى موظف بحسب نظام الخدمة المدنية، سواء بتفرغ تام أو بنظام العمل الجزئي، وفق ما جاء في مواد الكادر. ولست مطلعاً إن كان قد تم توضيح هذه الحقيقة لمن تم استفتاؤهم من المراجع، ولكن يبقى أن المشروع يعتبر سابقة نادرة في التاريخ الشيعي، إذ لم يشهد مثلها بلد آخر مطلقاً.

أخذ الأجرة لمجرد إمامة الناس لصلاة هو ملزم شرعاً بأدائها، فرادى أو جماعة، يبدو أمراً مستغرباً أصلاً. ونظرة سريعة على العطاء الفقهي لقدامى فقهاء الشيعة تعطي صورة عن الموقف من أخذ الأجرة بصورة عامة عن الأذان وإمامة الناس، فالشيخ الطوسي الملقب بـ «شيخ الطائفة» (توفي سنة 460هـ / 1067م) وعاش في زمن العباسيين، والذي نقل درسه إلى ضريح الإمام علي (ع) بالنجف بعيداً عن بغداد وأعين السلطة بعد أن قامت الأخيرة ولعدة مرات بإخراج كتبه من داره وإحراقها في الطريق... هذا العالم أفتى في كتابه «الخلاف» بحرمة أخذ الأجرة بشكل عام ومن أي كان، حتى على الأذان، فضلاً عن إمامة الصلاة والوعظ.

أما محمد بن إدريس الحلي (المتوفى 598 هـ / 1501م) فقال نصاً في كتابه السرائر (ج 2): «ولا يجوز أخذ الأجرة على الأذان والإقامة، ولا على الصلاة بالناس»، وغير الحلي والطوسي كثيرون، غير أن ذلك يرجع حالياً إلى المكلف ومن يقلده من المراجع.

أما إذا كانت الأجرة وفق عقدٍ ملزم فقد يكون موقف الفقهاء شديداً إن كان ذلك يفتح الباب لتدخل الدولة في الشأن الديني، فهل الكادر فعلاً يثير مخاوف من هذا النوع؟

أثناء انتفاضة التسعينات، لم يكن للدولة تأثير على إمام المسجد، الذي وقف إلى جانب حركة الشعب، وكان الناشطون يوزعون منشورات المعارضة ويلصقونها في المساجد من دون أن يتحمل مسئولية ذلك أحد. وما أثار لديّ تلك الذكريات هي المادة 23، إذ يتطلب من الإمام الإشراف على الإعلانات والنشرات، وفيها: «يتأكد من الإعلانات قبل وضعها في المسجد من ناحية مطابقتها للأنظمة والقوانين ويعمل على إزالتها بعد انتهاء الفترة الزمنية المحددة لها وذلك بالتنسيق مع إدارة الأوقاف».

وتوجد بعض النصوص الغائمة، كالنص الآتي من المادة نفسها: «يؤدي ما يسند إليه من مهمات أخرى في مجال عمله الموضحة في استمارة الوصف الوظيفي». إن ساعات العمل المطلوبة بحسب الكادر هي 36 ساعة بمعدل ست ساعات في اليوم، لمدة ستة أيام في الأسبوع، والسؤال هو: ما المهمات الأخرى التي ستوكل إلى الأئمة حتى تتم تغطية هذه الساعات، خصوصاً إذا كانت وظيفته مقتصرة على إمامة الجماعة فقط وفق تصنيفات الكادر؟ ومن سيقرر هذه المهمات؟

الظريف أن المسجد أصبح في لغة الكادر موقع العمل، وأئمة الجماعة موظفون شرعيون، فمثلاً جاء في المادة 9: «يقوم ديوان الخدمة المدنية بناءً على طلب من وزارة الشئون الإسلامية بمراجعة ظروف هؤلاء الموظفين الشرعيين في حال سكنهم بمناطق بعيدة عن موقع العمل (المسجد)».

يُنقل أن أحد أئمة الكادر عندما اعترض عليه المصلون لعدم مجيئه ليلة السبت، قال إنه بحسب الكادر (ويقصد المادة 18) فإن الدوام الرسمي: «ستة أيام في الأسبوع يليها يوم راحة أسبوعية». ولم تبق سوى نقطة واحدة غفل عنها الكادر، ألا وهي تحديد سن التقاعد عن إمامة الصلاة، والإحالة إلى المعاش أو بالأحرى الإحالة إلى الصلاة فرادى!

ويبدو أن الدولة تثير مزيداً من المخاوف لدى العلماء، فقد جاء بتاريخ 16 مايو/ أيار 2006 في بعض الصحف المحلية إصدار لائحة جديدة لمتابعة الأئمة والمؤذنين، والتدخل في الدروس المسجدية، وتشكيل لجنة من مهماتها تقديم الاختبارات للعلماء قبل أن تأذن لهم بإلقاء الدروس، وتخويل الأوقاف حق فصل الإمام في حال الإخلال بشروط الوظيفة.

شخصياً، من غير المقنع عندي إيجاد وظائف تستنزف أموال الدولة بلا مردود، والمفترض بكل محتاج إلى الرزق أن يصرف جزءاً من وقته بالسعي والعمل، ولو بنظام جزئي، وخصوصاً أن هؤلاء الساعين وراء رواتب الأئمة يعرفون جيداً قبل الدخول في الحوزة، أوضاعها المادية، وكذلك يعرفون جيداً كيف يعيش كبار مراجع التقليد، فضلاً عن طلبتهم من ضنك من حيث الراتب وشظف العيش، فالسيد السيستاني يعيش في منزل لا تزيد مساحته على 70 متراً مربعاً، وبعض المراجع، عاش ومات مُعدماً، إلى درجة أنه لم يستطع أداء فريضة الحج، كالمرعشي النجفي، مثلاً. فأية وظيفة هذه، أن تصلي خمس فرائض وتحصل على راتب وفق الدرجة السابعة العمومية، وأي بطالة مقنعة كهذه؟ ولماذا لا تترك الدولة هذه المهمة (للقطاع الخاص) وفق السياسة الحالية؟

إن بناء الدولة العصرية لا يأتي بفرض القوانين بطريقة فوقية، والموقف من تدخل الدولة في الشأن الديني ورفض احتوائه، ثقافة ضاربة في الأعماق، لا يمكن تسويتها عن طريق دخول بعض طلاب العلوم الدينية في مشروعات الدولة، وليس من السليم فرض مشروعات مرفوضة شعبياً، ولقد فعلتها أنظمة أخرى ولكن لم تبنِ دولة عصرية، ولم تحصد سوى علاقات الشك والريبة بين الدولة والشعب.

وما لا شك فيه، أن التوجس من الدولة وتدخلها في الشأن الديني، كرّسته الحوادث التاريخية، ومواقف الدولة في الواقع العملي تقوم بتعميق آثار تلك الحوادث بدل تخفيفها. ففي الوقت التي تروّج الحكومة بأنها تسعى إلى بناء دولة عصرية، فإن الواقع يعاكسها في الكثير من الجوانب، إذ يبرز موقفها السلبي تجاه التمييز الطائفي حتى على المستوى الديني، وغيره من الملفات، فلماذا لا تبدأ بهذه الملفات لتنال صدقية وثقة لدى العلماء وعموم الشعب؟

وتأتي الحملات الطائفية المنظمة من الأقلام المحسوبة على الخط الرسمي وخصوصاً تلك التي نالت ومازالت تنال من علماء الصف الأول لتزيد من الطين بلّة، وتباعد بين الدولة وبين كبار العلماء، وتزيد من حدّة الارتياب، وخصوصاً مع تعامي الحكومة عن الكثير من هذه الأنشطة البغيضة، كتوزيع الكتيبات التكفيرية والأقراص (السيديات) وما تسطره أقلام أصحاب الأعمدة الصفراء.

إضافة إلى كل ذلك، افتقاد الجدية في حل مشكلات المواطنين، ففي الوقت الذي شكّل فيه دخل النفط ما يقرب من 70 في المئة من موازنة الدولة، ومع أن سعر البرميل قفز من 12 دولاراً قبل سنوات إلى ما يقرب من الـ 70 دولاراً حالياً، ما يعني فائضاً كبيراً في الدخل، إلا أنه مازالت مشكلات السكن والبطالة وغيرها تراوح مكانها، وتؤرق المواطن وتشغل باله، وتفاقم النقمة على الدولة وتدفع إلى مواجهة مشروعاتها دائماً بعين الشك والريبة

إقرأ أيضا لـ "عباس هاشم"

العدد 1358 - الخميس 25 مايو 2006م الموافق 26 ربيع الثاني 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً