العدد 1531 - الثلثاء 14 نوفمبر 2006م الموافق 22 شوال 1427هـ

بوش وصدام... من يحاكم من؟

صلاح الدين حافظ comments [at] alwasatnews.com

إنها الهزيمة تطل من ساحات الحروب يا غبي...

استنسخ العنوان، من مقال مهم نشرته الصحيفة البريطانية الشهيرة «الاندبندنت» قبل أيام، وكان عنوانه: «إنها الحرب يا غبي» موجهة الحديث إلى الرئيس الأميركي بوش، بعد تسبب سياساته الغبية خصوصاً في العراق في هزيمة حزبه الجمهوري أمام منافسه الحزب الديمقراطي، خلال انتخابات التجديد النصفي للكونغرس بمجلسيه...

ولأول مرة منذ نحو اثنتي عشرة سنة، يحقق نواب الحزب الديمقراطي، السيطرة على مجلسي النواب والشيوخ الأميركيين، بفضل الغالبية التي فازوا بها، وبالتالي قهروا حصومهم الجمهوريين، الذين طالما مارسوا دكتاتورية الغالبية على مدى السنوات الماضية، مع حفظ الفارق طبعاً في استخدام تعبير دكتاتورية الغالبية، بين ما يجري عندهم، وما يجري في برلماناتنا... المنتخبة!

كل أصابع الاتهام توجهت إلى متهم رئيسي واحد، هو الرئيس «الجمهوري» بوش وعصابته الحاكمة، وعريضة الاتهام تلخص الموقف بأن سياسات الرئيس وإدارته المتهورة والمندفعة، خصوصاً حربه في العراق وافغانستان، هي التي افقدت حزبه الغالبية التي كانت تسانده وتحمي سياساته وتوفر له شبكة الأمان التشريعي، فزاد اندفاعه تهوراً، حتى اغرق أميركا في مستنقعات الحرب الدامية، التي أدت إلى مقتل 650 ألف عراقي، ونحو ثلاثة آلاف جندي أميركي، ثم أغرقها في مستنقعات الديون والعجز المالي، الذي بلغ هذه الأيام 1.5 تريليون دولار بسبب الانفاق العسكري في حربي العراق وأفغانستان!

ولأنه مجتمع حيوي ديناميكي، فقد استيقظ الناخب الأميركي فجأة من تأثيرات الهوجة السياسية الإعلامية التي صاحبت وأعقبت هجمات سبتمبر /أيلول 2001 الدامية، وصورت له أن الأمن الأميركي والعالمي لن يتحقق إلا بالحرب المقدسة ضد مصادر الإرهاب في الشرق البعيد، وأكدت له أن الإرهاب الذي روعه و روع الآخرين في الحضارة الغربية «اليهومسيحية» مصدره الرئيسي هو الإسلام والمسلمين... فصدق وتطوع وقدم التضحيات الجسام منتظراً الثمرة الناضجة!

بعد خمس سنوات اكتشف بعد أن استيقظ، الكذبة الكبرى، أن كل مبررات الحرب الأميركية البريطانية على العراق ابتداء من مارس /اذار 2003، كانت كاذبة باعتراف مرتكبيها، من أسلحة الدمار الشامل في العراق، إلى علاقة صدام حسين بمنظمات الإرهاب الدولي، وتحديداً طالبان أفغانستان، وتنظيم القاعدة المتهم، بل المعترف بشن هجمات سبتمبر 2001.

حملة غسيل أدمغة دعائية هائلة، شنتها إدارة الرئيس بوش في اتجاهين، اتجاه الداخل الأميركي، لتعبئة الشعب ومن خلفه كل الأوروبيين باستثناء قليل، ليقف صفاً واحداً خلف الحرب المقدسة، التي أراد غلاة المحافظين الجدد اضفاء الشرعية الدينية عليها، حرب الاستنارة اليهومسيحية ضد الاسلاموفاشيزم!

أما الاتجاه الثاني لحملة الدعاية فقد كان موجهاً لهذا الشرق البعيد الذي يسوده الاسلام ديناً وحضارة وثقافة، وبمنطق التفوق وخيلاء التقدم وقدسية الوحي الإلهي الذي نزل فجأة على بوش وبعض معاونيه، بدأت الإدارة الأميركية حملة التأديب والتهذيب، بالحرب وأسلحتها الفتاكة، وبالسياسة وأسالسبها المخادعة الهدامة، الأولى باسم نظرية الحرب الاجهاضية، والثانية بشعار نظرية الفوضى الخلاقة، أما الدعاية والإعلام المبهر فحدث ولا حرج في مجال تزييف الوعي وتضليل العقول والأفهام!

الآن... صحا الضمير واستيقظ الناخب الأميركي من غفوته الطويلة الملوثة بقهر إعلامي مضلل، ليقول كلمته، وقالها لبوش وحزبه الجمهوري، ولعصابة المحافظين الجدد شديدة التطرف، وصاحبة نظريات الحرب الاجهاضية والفوضى الخلاقة وتعبير الاسلاموفاشيزم، والحرب المقدسة ضد الإسلام المتعصب!

ولقد عودنا المجتمع الأميركي على أنه يمارس المحاسبة والمساءلة كآلية من آليات الديمقراطية وعلامات الشفافية، فإن كان قد مارس بعض هذه الآليات في الأسبوع الماضي بانتخاب غالبية من الحزب الديمقراطي في الكونغرس، وإسقاط نواب الحزب الجمهوري وبالتالي إفقاد الرئيس بوش شبكة الأمان البرلمانية، فإننا نطالب اليوم بالتقدم خطوة أخرى أكثر جسارة ليثبت صدقيته في المحاسبة والمساءلة الديمقراطية.

ونعني محاسبة ومساءلة كل رموز الصقور المتطرفة التي ورطت أميركا في مستنقع الحروب بالعراق وأفغانستان على مدى سنوات دامية، من دون تحقيق نصر أو حتى نصف نصر، اللهم إلا أن كانت محاكمة الرئيس العراقي السابق صدام حسين والحكم بإعدامه، بعد التباهي بعلاج أميركي عاجل لأسنانه: هي النصر الوحيد، وبعد أن سالت الدماء انهاراً ودمرت البلاد وهبت الحرب الطائفية واستنزفت الأموال والثروات وسقط مئات الآلاف من القتلى، من الرمادي غرباً إلى تورابورا شرقاً، أي من سهول العراق إلى جبال أفغانستان.

المساءلة والحاسبة: إذن تستدعي المحاكمة لكل من ارتكب جريمة وخصوصاً إذا كانت جريمة حرب وها هو صدام حسين يحاكم في بغداد، أمام محكمة عراقية ظاهرياً، ولكن بقضاة واتهامات وأحكام أميركية موضوعياً، بتهمة ارتكاب جرائم حرب في الدجيل والأنفال، وقد أكون من القلائل في الشارع المصري والعربي عموماً، الذين لم يتعاطفوا قانونياً وسياسياً مع صدام حسين، لا في الماضي ولا في الحاضر، بصرف النظر عن العواطف الإنسانية لكنني أعتقد أن صدام ومعاونيه ليسوا هم وحدهم مجرمو حرب، لأن مجرمي الحرب كثيرون ومعرفون أسماً ورسماً.

هؤلاء جميعاً يستحقون المحاكمة مثل صدام، لكن كيف تطولهم أيدي العدالة، وهم في قصور مشيدة تحميهم أقوى قوة مسلحة في العالم «على رغم خيبتها الظاهرة في العراق وأفغانستان»، كيف تجلبهم المحكمة الجنائية الدولية، وكيف تخضعهم لبعض وليس كل القوانين والمعاهدات الدولية وخصوصاً اتفاقات جنيف الأربعة!

أسئلة منطقية، لا يستطيع أحد في عالم اليوم أن يجيب عليها بخطوات عملية واقعية قابلة للتنفيذ، اللهم إلا إذا فعل ذلك الشعب الأميركي نفسه، الذي هزم بوش جزئياً من دون أن يحاسبه ويسائله قانونياً وسياسياً، عن الجرائم التي تسبب في وقوعها بسياساته المتهورة، ابتداء من جرائم التعذيب البشعة في سجون أبوغريب وباجرام وغوانتنامو، وليس انتهاء بأم الجرائم التي قتلت 650 ألف عراقي خلال ثلاث سنوات فقط ، مروراً طبعاً بحرب الكراهية والعنصرية الموجهة ضد العرب والمسلمين اينما وجدوا ، الأمر الذي أثار كراهية مضادة.

بعض المتفائلين يقول: «إن نتجية انتخابات الكونغرس الأخيرة ستغير حتماً سياسات إدارة الرئيس بوش وتدفعها نحو مزيد من التعقل، وستفرض عليها قيوداً وشروطاً بفضل سيطرة خصومه الديمقراطيين على الغالبية في الكونغرس، وأن الرئيس بدأ التغيير ربما بخطوات غير محسوسة حتى قبل الانتخابات ونتائجها المخيبة له، وذلك بخروج معظم صقور المحافظين الجدد من إدارته ودائرة مستشاريه ليفسح المجال أمام حمائم المعتدلين التي توضع وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس في مقدمتهم».

لكن الواقع المدروس يقول إن كل هذه تغييرات في الشكل وليس في المضمون وعلى سبيل المثال ندرك أن عصابة المحافظين الجدد صاحبة سياسة الحرب في كل وقت، وهي بالمناسبة أشد أنصار «إسرائيل» وأكثر وأعنف أعداء العرب والمسلمين، بدأت تفقد بعض رموزها في دوائر الحكم وخصوصاً بعد أن غادرها كبيرهم ريتشارد بيرل، وها هو كبيرهم الثاني وزير الدفاع رونالد رامسفيلد يذهب مستقيلاً أو مقالاً، لكن تنظيم المحافظين الجدد بفروعه وقياداته الوسطى ونفوذه في البيت الأبيض والوزارات ووسائل الإعلام لايزال قوياً ومؤثراً تحت رعاية نائب الرئيس ديك تشيني الأب الروحي للتنظيم المتطرف.

وعلى رغم تسلمينا بأن الرئيس بوش نفسه شخصية هشة ضعيفة الخبرة والثقافة والوعي السياسي، ما يعني إمكان تغيير أفكاره وتبديل أحاديثه، فإن وضع وتخطيط السياسات العامة وخصوصاً المتعلقة بالصراعات الدولية والحسابات الخارجية تخضع في الولايات المتحدة لعمليات شديدة التعقيد ولتجاذبات وتوافقات متعددة الرؤى والمصالح، وتتدخل فيها الوزارات المعنية والكونغرس بلجانه، وجماعات الضغط والمصالح ومراكز البحوث والدراسات حتى لا تترك لأهواء وأفكار الرئيس وحده كما يحدث في بلاد أخرى.

ولذلك نقول إن غالبية الحزب الديمقراطي في الكونغرس ليست قادرة وحدها على تغيير سياسات إدارة بوش الجمهورية، ذات التوجهات اليمينية والدينية المحافظة، والمؤمنة بالحروب المقدسة والصراعات الدينية والمواجهات بالأسلحة الفتاكة، لكن التغيير له أسس وأسباب أخرى أعمق وأشد تأثيراً ذكرنا بعضها آنفاً.

ونعتقد أن التغيير الجزئي المنتظر لن يخرج عن «فرملة» اندفاع إدارة بوش في الحرب الاستباقية قليلاً، وربما تكبيل يديه جزئياً في مجالات الإنفاق العسكري والإنفاق الخارجي عموماً، ليشهد العامان الباقيان من ولايته، التجاذب الأميركي المعهود بين رئيس وإدارة في جانب وغالبية برلمانية في جانب آخر.

بقيت الصورة الدرامية في الأمر كله، الرئيس العراقي صدام في قفص محكمة نصبه له الرئيس الأميركي بوش فإذا بصدام العراقي يضع بوش الأميركي في قفص سياسي محرج وأمام مساءلة سياسية داخلية هزت هبيته ونفوذه الرئاسي.

ترى من يحاكم من في هذه الدراما... بوش يحاكم صدام، أم صدام هو الذي يحاكم بوش... من أوقع العقوبة أولاً؟!

نعم... إنها الحرب يا غبي!

خير الكلام: يقول الحسن البصري:

الصدق أمانة والكذب خيانة

الانصاف راحة والإلحاح وقاحة

الحزم كياسة والأدب سياسة

إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"

العدد 1531 - الثلثاء 14 نوفمبر 2006م الموافق 22 شوال 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً