العدد 1568 - الخميس 21 ديسمبر 2006م الموافق 30 ذي القعدة 1427هـ

الإصلاحيون بين الفكر والسياسة

الشيخ حميد المبارك hameed.almubarak [at] alwasatnews.com

كنت في دولة الكويت مشاركاً في ورشة عمل عن قضايا الأسرة بدعوة من منظمة فريدوم هاوس بالتعاون مع صندوق الأمم المتحدة الإنمائي للمرأة والجمعية الثقافية الاجتماعية النسائية بدولة الكويت حين بلغني نبأ وفاة العلامة الشيخ عبدالأمير الجمري رحمه الله، ذلك الشخص الفذ في عقله وقلبه وجهاده وحسن معشره وجميل أخلاقه، فرأيت من اللازم أن أخصص مقال هذا الأسبوع للإشارة الى دور علماء الدين في الإصلاح السياسي والفكري وذلك عرفاناً مني لمقام الفقيد الكبير.

وسأبدأ بسؤال شائع: لماذا يحظى علماء الدين بالمكانة الأرفع بين كل خَدَمة العلم والمجتمع؟ والذي أعتقده هو ان الجواب عن السؤال يتضح من خلال التعرف على مكانة الدين نفسه، إذ إنه لا يشك أحد في أن المساحة التي يحتلها المفهوم الديني في عقل ووجدان الإنسان تفوق كل المنظومات الفكرية الأخرى، فهو المكون الأساسي للتشكل الذهني والنفسي للفرد والمجتمع وبالتالي المحرك الأصلي للإنسان في الحياة لأنه يمس الجانب الوجداني فيه ويعلمه الشعائر التي تحقق الاطمئنان الروحي ويتحدث عن الماورائيات التي لا تدرَك بالحس ولا تخضع للتجربة، ولا يمكن للعقل البشري أن يكتشفها بدقة مأمونة عن الخطأ، وقد مرت السيرورة الحضارية للإنسان بفترات غرور العقل والتي كانت على أشدها في القرن التاسع عشر، حتى قال بعضهم: لقد مات الإله وأصبح الإنسان قادراً على أن يتدبر أموره بنفسه، ولكن ماذا حصل بعد ذلك؟ فمنذ أوائل القرن العشرين تنبه الإنسان بشكل واضح الى خطأه وتبدت له مساحات الضعف مرة أخرى عندما انفجرت في وجهه الأزمات الأخلاقية والبيئية الخطيرة وتبدد غرور العقل وأوهام استقلاله وأدرك الإنسان أنه غير قادر على أن يتصرف في الكون كما يريد وأن ما يجهله فيه أكثر مما يعلمه، وقد استتبع ذلك تضاؤل ثقة الإنسان في نفسه وفي المصدر الداخلي للمعرفة (العقل) وبالتالي تزايد الثقة في مصادر المعرفة الخارجية (الماورائيات) وقد شكل ذلك تحولاً خطيراً في الفهم البشري تمخض عن أنماط معرفية وسلوكية مختلفة حسب اختلاف الخصوصيات الحضارية وتراكمات التاريخ، فقد ظهرت النتائج في العالم الاسلامي بتلونات الصحوة الدينية وتفتقت في الغرب عن إرهاصات ما بعد الحداثة.

وفي اعتقادي إن الإصلاح في مجالي السياسة والفكر خطان متلازمان يؤثر كل واحد منهما في الآخر ويتأثر به، فكل التحولات السياسية الكبيرة لا تمر دون أن تحدث تموجاً فكرياً جديداً، كما إن التطورات الفكرية يمكن أن تتمخض عن استتباعات سياسية، ويظهر ذلك بوضوح عندما نلاحظ تاريخ الإصلاح الديني الحديث في شقيه المسيحي والإسلامي، فعصور التنوير في الغرب مثلاً بدأت بالحركة الدينية التصحيحية والتي كان بطلها مارتن لوثر الذي ولد فى ألمانيا العام 1483م وثار على النظام الكنسي الكاثوليكى وأسس حركة الاعتراض (البروتستانت) على تجارة الكنيسة الكاثوليكية بالجنة والنار وبيع صكوك الغفران للمخطئين، وقد قاوم بشكل استثنائي كل ألوان الاضطهاد والتضييق، وأبدى شجاعة عالية في الدفاع عن مبادئه المخالفة للمألوف يومذاك على رغم ما شاب حركته من مغالطات كثيرة وخصوصاً فيما يرتبط باليهود إذ كان يعتقد بأنهم أبناء الله، إلا إنه لم يكن يدور في خلده أن تُؤدي مسيرته الإصلاحية في مجال فهم الدين الى اتفاق «وستفاليا» الشهير في العام 1648 والذي وضع حجر الأساس للتغيير السياسي الشامل في الغرب كله، وكذلك عندما ننظر الى الجانب الإسلامي بشقيه السني والشيعي ففي التاريخ المعاصر يمكن أن نأخذ النهج الإصلاحي للسيد محسن الحكيم مثلاً، وقد استفادت مرجعية الإمام الحكيم من التجارب الإصلاحية التي ظهرت قبله من أمثال الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء والسيد محسن الأمين والسيد أبو الحسن الأصفهاني والشيخ محمد جواد البلاغي والشيخ محمد رضا المظفر وغيرهم من أعلام الإصلاح ورواده، إلا إن ما نحن بصدد الإشارة اليه هو ما كان لخطى السيد الإصلاحية في مجال الفكر من استتباعات سياسية انتهت بتأسيس بعض الأحزاب السياسية الإسلامية التي ارتهنت بها المسيرة السياسية للمنطقة عموماً والعراق خصوصاً الى يومنا هذا وكذلك نلاحظ ارتباط الحركة السياسية للإمام الخميني بحركة فكرية إصلاحية واضحة التقاطع مع الخط التقليدي في الفهم الديني، فلقد عانى كثيراً في هذا الصدد حتى قال في رسالته التاريخية إلى الحوزات العلمية سنة 1989: «وليس قليلاً خطر المتحجرين والمزيفين الحمقى في الحوزات العلمية، وقد كان عدد من المزيفين يعتبرون كل شيء حراماً، فلم يكن هناك من يستطيع أن يعلن عن موقفه في مقابلهم... فيما أصبح تعلم اللغات الأجنبية كفراً وتعلم الفلسفة والعرفان ذنباً وشركاً، وعندما شرب ابني الصغير المرحوم مصطفى الماء من إناء في المدرسة الفيضية أخذوا ذلك الإناء وطهروه بالماء لأنني كنت أدرّس الفلسفة! إن الطعنة التي تلقاها أبوكم العجوز من هؤلاء المتحجرين لم يتلق مثلها من الآخرين»، ولا يختلف حال الشهيد السيد محمد باقر الصدر عن ذلك كثيراً فقد كتب رحمه الله الى بعض تلاميذه متحدثاً عن التحديات التي كانت تواجه مجلة الأضواء الإصلاحية التي كان يشرف على إصدارها: «غير أن حملة هائلة على ما أسمع يشنّها جملة من الطلبة ومن يُسمى بأهل العلم أو يحسب عليهم وهي حملة مخيفة وقد أدت على ما قيل إلى تشويه سمعة الأضواء في نظر بعض أكابر الحوزة حتّى كان جملة ممن يسمون مقدسين أو وجهاء لا يتورعون عن إلصاق التهم بالأضواء وكل من يكتب فيها»، وكذلك نجد ارتباطاً واضحاً بين الحركة السياسية الإصلاحية في مصر بقيادة البطل العربي سعد زغلول وبين الحركة الفكرية الإصلاحية التي كانت في أوج مجدها في القاهرة العتيدة فهو - بشهادة الجميع - قد تأثر أثناء دراسته في الأزهر الشريف بالسيد جمال الدين الأفغاني والإمام محمد عبده وخصوصاً الثاني منهما إذ كان صديقاً له على رغم السنوات العشر التي كانت تفصل بينهما في العمر، وكدلالة أخرى على التداخل بين الفكري والسياسي يمكن أيضاً أن نشير الى تجربة الكواكبي (المولود في العام 1854 في ولاية حلب بسورية ويتصل نسبه بمؤسس الأسرة الصفوية التي حكمت إيران قرابة قرن ونصف القرن من الزمان إسماعيل الصفوي)، فمن الصعب جداً على من يقرأ كتابه «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» أن يعرف بالتحديد ما الذي كان ينعى عليه في ذلك الكتاب، فهل ينعى على الاستبداد السياسي أم الديني أم كليهما؟ والمتحصل هو إنه لا يتعقل التفكيك بين الفكري والسياسي لدى حملة هموم الإصلاح، فهما أمران مترابطان ويرتهن أحدهما بالآخر، ولكن الذي يحصل هو إن المهتمين بالإصلاح على درجات متفاوتة فمنهم من يناضل في الإصلاح السياسي ولكنه يتكتم على نزعته الإصلاحية في مجال الفكر لعلة يقتنع بها، ومنهم من يكون على عكس ذلك، فتراه لا يتوقف عن الكلام في الإصلاح الفكري ولكنه في المجال السياسي يعمل بالحكمة القائلة «لا أسمع ولا أرى ولا أتكلم»، والسبب في هذه المفارقات في نظري هو ما جبل عليه الإنسان من التشبث بخيط الحياة، فإذا كنت في صدد التضحية بإحدى قدميك فعليك أن تبقي الأخرى كحد أقل لكي يمكنك البقاء واقفاً! وقليلون جداً بل استثنائيون أولئك الذين يعرضون كلتا القدمين للخطر ويسيرون باتجاه التضحية بكل شيء، ولكن الملفت للنظر هو إنه غالباً ما يأتي بعدهم من يأخذ أقدامهم المقطوعة ويتكئ عليها مرفوع الرأس?

إقرأ أيضا لـ "الشيخ حميد المبارك "

العدد 1568 - الخميس 21 ديسمبر 2006م الموافق 30 ذي القعدة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً