العدد 1568 - الخميس 21 ديسمبر 2006م الموافق 30 ذي القعدة 1427هـ

تصالحوا مع نهج الشيخ الجمري

سلمان عبدالحسين comments [at] alwasatnews.com

كاتب

من خلال متابعة التغطيات والمقالات الصحافية التي كتبت في رحيل شيخ المجاهدين الشيخ عبدالأمير الجمري، يمكن وضع اليد على نبوءة ومعلومة كأرضية خصبة للحديث بشكل مغاير واستثنائي عن سيرة هذا الرجل العظيم. أما النبوءة، فهو الرابط الذي أورده زميلنا الكاتب الصحافي عادل مرزوق بين هطول المطر بغزارة ورحيل الشيخ الجمري (قدس الله روحه)، إذ كان المطر الذي امتنع عن البحرين لسنوات عجاف طويلة شابها ما شابها من الظلم والخلاف والقطيعة بين مختلف الفرقاء على امتداد الوطن، قد أبى إلا أن يهطل هذه المرة بشكل استثنائي، غزيراً وعميقاً وندياً ليرطّب هذه الأرض المخشوشنة الصلبة تمهيداً لرقود والدنا الجمري، بعد سنوات من العذاب والمعاناة والمرض والصبر على السجون وما فيها من تنكيل وانتهاكات لحقوق الإنسان. أما المعلومة، فتلك التي أوردها زميلنا قاسم حسين في مقاله التأبيني، بأن الشيخ روى أن وفاة والده كانت في جو شديد البرودة، ومثل ذلك كان رحيله، فإذا صحّ لنا أن نشتق من هذه المعلومة نبوءة ما، فهي أن الشيخ بعد معاناته مع السجن والمرض، رحل عنا مودعاً أمانته فينا، بعد أن ترطّبت الأرض لقدومه وأمطرت بعد سنين من الجفاف والجفاء، وتركنا في وداعه للبرد القاسي الذي يرمز للأيام القاسية. فعلى رغم وفائنا وثباتنا في يوم وداعه، فإن البرودة القاسية أخذت منا مأخذها، ولأن الشيخ عانى، وتجافت الأرض عن جنبيه وترطبت لملاقاته، فعلينا أن نعاني، لتقبلنا الأرض ولا يشتد البرد القاسي والأيام القاسية علينا أكثر فأكثر. هاتان المقاربتان يمكن من خلالهما الإطلال على سيرة شيخنا الجمري، وعلى رغم أن سيرته ذات أوجه وعطاءات متعددة، فإنه يمكن أن تأخذ منها ثلاثة عناوين رئيسية.

القائد الوطني المضحي

ربما سادت في فترة الانفتاح والسعة لغة تعويمية بشأن التعاطي مع خطاب القائد الجمري ومواقفه، وذلك بسبب أن الكثيرين ممن فاتهم مواكبة نهضة هذا الرجل في انتفاضة التسعينات، أرادوا أن يكون لهم موطأ قدم في فترة الانفتاح السياسي والدعة والراحة، وهذا حق مشروع لهم شرط ألا يلبسوا الشيخ الجمري ثوبهم، وإنما يلبسوا هم ثوبه، ويسيروا على نهجه. من هذا الخطاب التعويمي الإشارة إلى خطابات شيخنا الجمري ما بعد التوقيع على ميثاق العمل الوطني، وكأن الشيخ رجل هذه المرحلة فحسب، في حين يتناسون بقية مراحل نضاله وعذاباته من أجل شعبه وقضاياه ومطالبه الحقة. نعم، من يريد أن يتصالح مع الجمري، ويستلهمه ليكون قائداً وطنياً، فليتصالح أولاً مع مراحل عذاباته، مع قسوة السجن وما جرى عليه فيه وبعده، فليتصالح مع حصاره في يوم السبت الأسود، وحصاره ببيته سنة ونصف السنة بعد خروجه من السجن، وحرمانه من الناس وحرمان الناس منه في ظل الأجواء المرعبة التي صاحبت إخراجه من ذلك القبو المظلم. فليتصالح مع سجن أبنائه وتشريدهم، مع مطالبه الحقة التي رفعها وضحى من أجلها، مع كل هذا التاريخ من دون أن يجتزأه ويختصره في فترة ما بعد الميثاق، التي تساوت فيها القامات العالية والمنخفضة، والتبست الأمور والمواقف فيها على الناس. فعلى المستوى الرسمي، المتوقع تحديد موقف من الشيخ بوصفه رجلاً لهذه المراحل من النضال كلها، بحلوها ومرها، وهو يناضل من أجل مطالب شعبه قبل السجن وبعده، ثم بدوره البارز بوصفه رجل الوحدة الإسلامية والوطنية في فترة ما بعد الميثاق، على أساس هذا التاريخ من النضال، فيكون الاعتراف به والمصالحة معه ومع تاريخه وتضحياته، لبناء استحقاقات ومصالحة موضوعية عليها، وإلا فالاعتراف ناقص. أما على مستوى الأطراف السياسية، فمن كان متنكراً لمطالب هذا الشيخ الكبير في فترة من الفترات، ثم ها هو يغنم بشيء منها في ظل الانفتاح السياسي الحاصل، فعليه أن يرجع الفضل لأهله، وإلاّ سيكون ناكراً للجميل، وقاطفا لثمرات وجهد غيره، ومنقلباً على خياراته على أساس مصلحي وحزبي وفئوي وطائفي، وإن استمرار تجاهله لحقيقة تضحيات هذا الرجل المناضل الذي قضى عمره في الجهاد والمطالبة بحقوق الناس، معناه أنه مازال يعلن التصادم مع تلك المرحلة المضنية من عمر الشعب، وإن كان بالآليات «الديمقراطية» التي كان يرفضها حين كان الناس يطالبون بها! أما المعني الرئيس بالمصالحة مع الشيخ، فهم أبناء خطه وتوجهاته، ومن قدموا التضحيات من أجل إثمار هذا الخط على مستوى المطالب والاستحقاقات، فهؤلاء يجب عليهم لإجراء المصالحة مع قائد هذا الخط الجهادي المعمّد بالدم، أن يجروا عملية مراجعة فعلية لكل خياراتهم السياسية الحالية والسابقة، ليروا أين هم الآن من الخط الجهادي والوطني للشيخ الجمري (قدس سره)؟

القائد الملتصق بالشعب

قد يكلمك أحد البلغاء بكلام جميل، ولكنك لا تشعر بدفء هذا الكلام، ولا أن هذا الكلام يعنيك من الأساس، ما يجعلك غير قادر على الارتباط مع هذا الخطيب البليغ البارع بأي رابط روحي، لكن قد يأتي إنسان بسيط شفاف محب مشفق عليك، ويكلمك وهو يعنيك ويقصدك ويحرص عليك، فتجد أنك تنتمي إليه، تتواصل وتتناغم معه، فكيف إذا كانت أفعال هذا الإنسان مصداقاً لأقواله؟ لقد كان الشيخ الجمري القائد الذي يخاطب الناس كأحدهم، بوصفه منتمياً إلى قضيتهم، مضحياً من أجلها، ويدفع الثمن قبل غيره لتحقيق أهدافها، بخلاف القائد الذي يتعالى على قضايا الناس وهمومهم، ويكلمهم وكأنهم أعباء ثقيلة وأرقام زائدة، فهو مرتاب فيهم، وهم مرتابون في أمره، لا يهتم بإقناعهم بمقدار ما يهتم بتحصيل النتيجة من تنفيذهم لأوامره، لا يشعر أن الشفافية مطلوبة مع الناس، حتى في القضايا التي تؤثر على حاضرهم ومستقبلهم ومصالحهم، لهذا فهو في النهاية آخر من يفكر في التضحية من أجل الناس، أو أخذ موقف مبدئي من أجل الدفاع عنهم وعن قضاياهم العادلة والمحقة، وهذا خلاف سيرة الشيخ الجمري، ولهذا سكن قلوب الناس فأحسوا بأنهم فقدوا أثمن كنز لديهم حين رحل عنهم. لقد أرسى الشيخ الجمري قاعدة مهمة، وهي أن القيادة قبل أن تكون معلومات وفقهاً وعلماً نظرياً، هي سجية وقدرة على التواصل مع الناس، فقد لا يكون الشيخ أعلم أو أوفر معلومات من غيره، لكنه يملك من الحكمة وحسن التصرف والمشورة والشفافية مع الناس والقدرة على التواصل معهم وإقناعهم بخياراته

رمز للشراكة في الوطن

إن جزءًا من القواعد المتينة التي أسست لها الحركة المطلبية في انتفاضة الكرامة التسعينية، هو التحالف مع كل من يتفق من القوى السياسية على أساس «الشراكة في الوطن»، سواء كان من اليسار أو اليمين، من مختلف التوجهات الفكرية والسياسية، وقد خلقت هذه التحالفات تمايزاً حقيقياً داخل البيت الشيعي، نتجت عنه خلافات حادة، بين من يعتبر هذه التحالفات أساساً للعمل الوطني وصيانة للمشهد السياسي من أية شبهة طائفية قد تشوب الحركة المطلبية، وبين من يعتبرها نقضاً للخصوصيات وتمكيناً لجهات غير مؤتمنة على الشارع المتدين. وبعد أن أنجزت المعارضة الانفتاح السياسي وفق هذه الصيغة من التحالف فأصبح حراكاً قائماً على الأرض، عاد البعض في فترة الانفتاح السياسي، واستشعاراً منه لوجود استحقاقات انتخابية قريبة، فأسقط كل ما أسس له الشيخ من تحالفات قائمة على الشراكة في الوطن، وأصبحت هذه النظريات الجديدة في العمل السياسي إحدى العقد السياسية التي مازالت تؤخر الحركة المطلبية إلى الوراء. وللتدليل على صحة النهج الوطني للشيخ، يكفينا أنه بقي في يوم رحيله عنوان الشراكة في الوطن لكل هذه الفئات التي فرزت فرزاً خاطئاً في فترة الانفتاح، ويكفينا أن يحتفي بنهجه كل أبناء الوطن بمختلف فئاتهم وانتماءاتهم الدينية والسياسية، لينصبوه رمزاً وطنياً بامتياز، ولتثبيت هذه المعادلة من جديد، لابد من إعادة الاعتبار لأسس التحالفات الوطنية بين مختلف القوى السياسية تكريماً لذكرى هذا الرمز الوطني الكبير، ولنتصالح مع نهجه تصالحاً حقيقياً، ولا نلتف عليه بكلمات الاحتفاء والتبجيل?

إقرأ أيضا لـ "سلمان عبدالحسين"

العدد 1568 - الخميس 21 ديسمبر 2006م الموافق 30 ذي القعدة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً