العدد 1680 - الخميس 12 أبريل 2007م الموافق 24 ربيع الاول 1428هـ

الفكر الديني بين النقد والأيديولوجيا

الشيخ حميد المبارك hameed.almubarak [at] alwasatnews.com

سألني البعض: هل أنت بمنأى عن الإشكالية التي سبق أن نقدت بها علي شريعتي في أحد مقالاتك؟ ألست تطرح أفكارك في سياقات قلقة وغير محسومة النتائج؟

ولكني أرى أن من المهم جدا الالتفات إلى اختلاف السياق الذي تشتغل فيه الأفكار، وكونها في سياق صناعة الأيديولوجيا أو في سياق الصناعة النقدية، والفرق بينهما كبير إذ إن لغة الأيديولوجيا بطبيعتها جازمة ومبتنية على الاستدلال الصارم في المقدمات والنتائج، ولكن لغة النقد يجب أن تكون قلقة تنفتح على آفاق التأمل والاحتمال، ولا ينبغي أن يفهم هذا الكلام على إنه انتصار لأحد الاتجاهين على الآخر، فكلا المنهجين شريك في الصنع الثقافي والبناء الحضاري ولكل واحد منهما خصوصياته ومسوغاته نظير اختلاف متعاطي الفقه عن متعاطي الأدب واختلاف الواعظ عن السياسي.

فلا نتوقع من الأديب أن يتحدث بلغة الفقيه، كما لا نتوقع من الفقيه أن يتحدث بلغة الأديب، ولا يصح أن يتحدث السياسي بلغة الواعظ ولا الواعظ بلغة السياسي، وذلك يعني بوضوح اني لست ضد الأدلجة بالمطلق فهي من لوازم النظام الفكري والأخلاقي للوجود الإنساني، ولذلك يصح النظر إلى الأيديولوجيا على إنها الواجهة الأمامية لثقافة الأمة (دعاواها في قبال الثقافة الأخرى)، كما يصح النظر إلى النقد القلق على إنه عمقها الأقل بروزا ولكنه يمدها بالحيوية والقوة المتجددة، وهذا يقترب من تقسيم العلوم - في بعض التنظيرات - إلى علوم الدرجة الأولى وعلوم الدرجة الثانية.

فالأولى كالفقه والكلام والقانون والطب والهندسة، والثانية هي فلسفة تلك العلوم بمعنى تحليل مقدماتها ونتائجها، فذات تلك العلوم يجب أن تنتج نظريات نافية للشك وقاطعة للحيرة وإلا انتفت الفائدة منها، فلا نتعقل نظريات هندسية ذات جدوى، إذا لم تستند إلى قواعد لها استقرار وثبات، ولا أثر لعلم الطب إذا لم ينتج وصفات يثق بها الطبيب والمريض معا، وكذلك لا فائدة من فقه لا ينتج فتاوى يطمئن إليها الملتزمون بالدين، كما إن الوظيفة الأساسية لعلم الكلام هي الاستدلال على صحة عقائد محددة وبطلان سواها، فلا يمكنه التخلي عن هذه الوظيفة الدائرة بين النفي والإثبات، لأنها الشيء الذي يبتني عليها وجوده وغاياته.

ونتوصل من ذلك إلى ضرورة الأيديولوجيا، بمعنى النتائج الجزمية التي تدخل في نظام الحياة، وكونها أمرا لا غنى عنه خلافا لبعض أدعياء التجديد، ولكن لا ينبغي أن ننسى أنه يجب على صانع الأيديولوجيا الالتزام بأدواتها وشروطها، فيلزمه أن يكون واضحا وصارما، بخلاف الناقد فإنه لا يجب أن يكون كذلك، بل إنه لو تحدث بلغة الجزم لانتفى كونه ناقدا بالمعنى الذي أقصده هنا، وهو الوقوف عند مستوى التحليل لتلك النظريات الجازمة ومحاولة المقارنة أو المقاربة بينها لغاية صنع حال من التحريك والتوسيط بين تلك النظريات والنتائج.

وفائدة هذا المنهج النقدي - مضافا إلى كونه يساهم في تنمية القدرة على الاستماع إلى الآراء المختلفة - هي إنه يفتح آفاقا جديدة لمنظري الدرجة الأولى، لأن من شأنه زحزحة السبقيات التي ينطلق منها المنظرون إلى احتمالات أكثر تجددا وشمولا.

وكمثال على فائدة هذا المنهج، تجدر بي العودة إلى ما أشرت إليه في مقال سابق، وهو إن عقدة التضاد بين الدين والمدنية تبرز في مساحة الميتافيزيقيا الدينية، كالاعتقاد باليوم الآخر، وضرورة تسخير الطاقات لصالحه، ويضاف الى ذلك كثرة الوظائف الأخروية بفروعها الاجتهادية المتشعبة والمتراكمة على مرور الزمان، في حال إن الإنسان ذو طاقة محدودة فلا يمكنه استيعاب جميع احتياجاته وطموحاته.

فحاجات الإنسان الدنيوية فضلا عن الأخروية هي دوما أكبر من قدراته وطاقاته، وذلك ما يسميه علماء الاقتصاد (مفهوم الندرة) والذي يدخل في كل شئون الحياة، فمضاعفة الوظائف لا تنتهي لصالح الإنسان بل تزيد في إرباكه وحيرته.

ويزيد المشكلة تعقيدا، إصرار المنظرين الدينيين على اشتمال نصوص التشريع الإسلامي على تفاصيل النظم السياسية والاقتصادية والقانونية، التي يحتاج إليها الإنسان في كل الظروف والعصور، مع إن الأمر الآن اختلف كثيرا، إذ كان من الممكن في زمان سابق أن يدار المجتمع من خلال الحلال والحرام الذي يتكفل بمراعاة النظم والعادات والأعراف والتقاليد، وكان نظام الحلال والحرام الشرعيين كافيا لإشباع هاتين المساحتين (النظم والأعراف) وخصوصا أن الشريعة - بهيبتها الهائلة - قادرة على بناء عادات وأعراف متناسبة مع غاياتها وأهدافها، ولكن هذا الحال كان قبل هجوم المدنية بكل أبعادها الثقافية والسياسية والاجتماعية. حيث أصبحت الهويات بعد ذلك مشوشة وغير محددة سلفا، فلا يمكن إخضاعها لقواعد ثابتة ودائمة، فالمدنية الجديدة تعني الانبثاق الدائم لآفاق جديدة غير معلومة النتائج، كما إنها أوجدت واقعا جديدا ومتحركا لا مناص عن التأقلم معه والتناسب مع مقتضياته، وأصبحت التنمية بأنواعها مرتبطة بخطط طويلة الأمد لا يمكن التعرف على تفاصيلها من الفقه السائد، فهي ترتبط بمحاسبات لا تتطرق إليها الضوابط الدينية، ولا تستنبطها الصناعة الفقهية، إذ ليس من شأنها تحليل الواقع الموجود ولا وضع خطط طويلة الأمد لتطويره أو التعامل مع تعقيداته.

بهذا الكلام أو نظيره يحاول مدعو التضاد بين المدنية والدين إثبات مدعاهم، ولكن يجب أن نقول بأن الأطياف المحسوبة على الفكر الديني تختلف في تعاطيها مع هذه الدعوى، فالمحافظون يقولون إننا لا نبالي بدعوى التضاد هذه وكونها صحيحة أم لا، فلسنا أمام خيارات متعددة لكي نحتاج إلى بحثها وذلك لأنه لا مناص - على فرض التضاد - عن حسم الموقف لصالح الدين (الإلهي)، الذي لو أردنا التعرف على حقيقته للزمنا الرجوع إلى مصادره الأصلية وهما الكتاب والسنة، فهما اللذان يعبران عن مضمونه ومقاصده. والطريق إلى تلك المصادر هي صناعة الاستدلال بشقيه الكلامي والفقهي، فلو رجعنا إلى الصناعة الكلامية لوجدنا أنها ترشدنا إلى أن الحياة الأخروية، هي الجزء الأهم والأرقى في مستقبل الإنسان ومصيره الحقيقي «وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا» (القصص: 77)، فلا عيب في أن يسخر لها الإنسان جل طاقاته، ولو على حساب التطوير الدنيوي.

كذلك تدلنا الصناعة الكلامية على وجوب أن يدبر الإنسان حياته كما يريدها الله الذي هو المالك الحقيقي، وليس كما يريدها الإنسان الذي هو خليفته العامل بأمره فحسب، ولذلك فالمدنية الحقيقية هي طريقة الحياة التي تحقق إرادة الله في الأرض وليست إرادة الإنسان ورغباته وأهواءه، وبعد ذلك يأتي دور الصناعة الفقهية، لتعريف الإنسان بالشيء الذي يريده الله منه.

ونتيجة ذلك هي إنه لا مناص في سياق معرفة الدين - من خلال مصادره - عن الرجوع إلى ما يقرره علماء الكلام وأساطين الفقه، وما عدا ذلك فهو تنظير من خارج الدين وليس من داخله، كما وإن الدليل على دخالة الدين في تفاصيل الحياة، هو اشتمال نصوص الكتاب والسنة على بيان ما يحتاج إليه الناس من المعاملات والسياسات وأحكام العقوبات. ولكن هذا الاستدلال على متانته، لا يمثل نهاية الجدل، إذ يوجد في قبالة استدلال آخر، يقول عن هذا النمط من التفكير، بأنه متأثر بسبقيات تفترض أن كل ما اشتملت عليه نصوص الكتاب والسنة هو جزء من الدين الواجب الإتباع في كل زمان ومكان، مع إن هذه الفرضية قابلة للمناقشة، إذ لابد من النظر أولا في الغايات، التي تضطلع بها نصوص الكتاب والسنة، فهل هي برمتها بصدد بيان المضمون الديني المطلق فحسب؟ أم تشتمل على مضامين أخرى ترتبط بالتنظيم المدني خارج الإطار الديني الثابت؟

هذا البحث يجب أن يسبق البحث الفقهي الاستنطاقي الدلالي، لأنه يحدد في مرحلة سابقة مدى علاقة النص بنا، فكيف يصح الاستغراق في الفرع قبل تحكيم الأصل؟ ففي مورد النصوص التي جعلت إطعام المساكين وعتق الرقاب ضمن خصال الكفارة، يجب البحث أولا في تصنيف تلك النصوص، وذلك قبل البحث التفصيلي في ما هو المقصود بالمساكين وما هو المقصود بالرقاب، فهل مضامينها من قبيل المبدأ الثابت أم التطبيق الذي لاحظ الأولويات وقت صدور النص؟

وعليه فالمحافظون يرتكبون مغالطة مكشوفة عندما يفترضون الفراغ عن هذا البحث الأساس، مع إنهم لم يحاولوا علاجه ولم يتطرقوا إليه بشكل جاد لحد الآن.

ومن خلال هذا العرض المقارن، يمكن للقارئ أن يدرك مستوى الآفاق التي من المحتمل أن ينفتح عليها المنهج النقدي التوسيطي، تجاه فهم وتلقي مضامين الكتاب والسنة، ولكنه مع ذلك لا يجب أن يلغي دور الأيديولوجيا الصارمة ولا يقلل من أهميتها، فلكل واحد منهما دوره في الصنع الثقافي والحضاري ولا يستغنى بأحدهما عن الآخر.

إقرأ أيضا لـ "الشيخ حميد المبارك "

العدد 1680 - الخميس 12 أبريل 2007م الموافق 24 ربيع الاول 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً