العدد 1719 - الإثنين 21 مايو 2007م الموافق 04 جمادى الأولى 1428هـ

سيرة التشكيك في الولاء

نادر كاظم comments [at] alwasatnews.com

.

إذا كانت مقولة «الولاء الوطني» مرتبطة بظهور الحاجة إلى التضامن الجماعي في الدولة الوطنية الحديثة، فإن مقولة ازدواج الولاء - وما يستتبع ذلك من التشكيك فيه - مرتبطةٌ بظهور دولة قومية تستقطب ولاء جماعات من المواطنين الذين ينشطر ولاؤهم بين دولتهم الوطنية من جهة، ودولتهم القومية التي قد تكون وطنَهم الأصلي من جهة أخرى. وهذه وضعية تواجه يهود العالم بعد قيام «إسرائيل»، وتواجه الأرمن في تركيا بعد استقلال أرمينيا، والصينيين في دول جنوب شرق آسيا والعالم، والفرنسيين من أصول مغاربية... وهذه حالة عامة قد تُبتلى بها كل جماعة تعيش ممزقة بين دولة وطنية تعيش فيها، ودولة قومية تحنّ إليها أو ترتبط بها عاطفيا بجملة من الروابط الأولية. ثم إن مسألة ازدواج الولاء والتشكيك فيه لا تظهر على نحو جليّ إلا في لحظات الطوارئ والأزمات التي يتعرض لها الأمن الوطني. هذا ما حصل للأرمن في تركيا في الحرب العالمية الأولى، وهو ما حصل للأميركيين من أصول يابانية إبان الحرب العالمية الثانية، وهذا عينه ما حصل لشيعة الخليج بعد قيام دولة شيعية في إيران في العام 1979، وتجدد ذلك بعد الإطاحة بنظام صدام حسين وصعود الشيعة لتسلم الحكم في العراق في العام 2003. وهو ما يمكن أن يحصل في أية دولة شمولية كانت أو ديمقراطية.

ويبدو أن سيرة التشكيك في الولاء الوطني في البحرين قد بدأت مع ظهور التوترات السياسية المنظمة في البلاد. وقد كان هذا التشكيك جليا إبان الخمسينات بحكم التوترات والاضطرابات السياسية التي تزامنت مع ظهور دولة قومية قوية («الإقليم القاعدة» بحسب مصطلحات القوميين العرب) استقطبت انتماء فئة كبيرة من المواطنين الذين كانوا وراء التحركات المطلبية في الخمسينات، وأقصد بذلك زعماء هيئة الاتحاد الوطني (1954-1956) وارتباطاتهم القومية بمصر وقيادتها السياسية. وسبق لمستشار الحكومة آنذاك تشارلز بلغريف أن اتهم قادة الهيئة بأنهم أدوات في أيدي الآخرين، وهو يقصد القيادة المصرية التي رسّخت «القناعة في نفوس أعضاء الهيئة بأنهم الآن مؤهلون للقيادة ولاستلام السلطة» (السيرة والمذكرات، ص 404).

ثم تغيّر المستهدفون بالتشكيك في ولائهم الوطني من قادة الهيئة وولائهم القومي لمصر، إلى الشيوعيين وولائهم الايديولوجي للاتحاد السوفياتي والدول الشيوعية. وفي هذه الأثناء كان العجم (الإيرانيون والبحرينيون من أصول إيرانية) مستهدفين بالتشكيك في ولائهم السياسي، وكان القوميون العرب هم من قاد حملة التشكيك هذه، ولعل عبدالرحمن الباكر هو أبرز من عبّر عن هذا التشكيك حين اعتبرهم أعداء ودخلاء و «طابور خامس». وبالغ أحد محرري مجلة «صوت البحرين» في العام 1954 حين وصف الوافدين الإيرانيين والبلوش والهنود بـ «الغزاة» الذين يفدون إلى البحرين من إمارات الخليج العربي ليستزفوا «خيرات هذه البلاد» (صوت البحرين، ع: 5، 1954، ص 37). والغريب حقا هو أن يلتقي قوميو البحرين مع الإنجليز في نظرتهم إلى العجم، فالإنجليز - حسبما يذكر ريشارد ليتلفيلد - كانوا يعتقدون بأن للعجم دورا مزدوجا، فهم «حزب معارضة وطابور خامس» (P.45 Bahrain as a Persian Gulf State). وتزداد حدة التشكيك مع كل مطالبة إيرانية بتبعية البحرين إلى إيران.

وفي هذه السيرة لم تكن معضلة الولاء مطروحة بقوة على أنها أزمة وطنية كبرى؛ ويرجع ذلك إلى حقيقة مهمة وهي أن أصل حاجة الدولة إلى الولاء يكمن في هشاشة الدولة الحديثة وضعفها وخوفها المزمن من عوامل التدمير الداخلية والخارجية. وبما أن الاتفاقات مع بريطانيا كانت توفّر الحماية لهذا الكيان الجديد حتى تاريخ الاستقلال في العام 1971، فإن هذا الكيان كان يشعر بعدم حاجته إلى تأمين التضامن الجماعي من قِبل المواطنين. ولكن الحال تغيّرت بعد خروج بريطانيا من الخليج، فصار على هذا الكيان الطريّ أن يكوِّن له جيشا مستقلا ويعيد تأهيل قواه الأمنية؛ لتأمين الحماية والسلم الأهلي العام ومواجهة عوامل التدمير الداخلية المحتملة. وفي هذه اللحظة سيكون تعامل الدولة مع قوى المعارضة تعاملا مختلفا لا بسبب صدور مرسوم بقانون أمن الدولة سيئ السمعة في العام 1974؛ بل لأن الدولة صارت - أو هكذا يفترض - بأَمَس الحاجة إلى تأمين الولاء السياسي والتضامن الجماعي؛ لحماية هذا الكيان الجديد. ومنذ هذه اللحظة ستكتسب معضلة الولاء وازدواجه والتشكيك فيه أبعادا خطرة، وستدخل هذه المعضلة في مسار جديد لم تعرفه كل السنوات الممتدة بين عامي 1923 و1971.

وفي طوال هذه الفترة لم يكن ولاء شيعة البحرين موضعَ تشكيك من قِبل نظام الحكم أو الموالين له. إلا أن سوء حظ الشيعة العاثر أبى أن يبتسم لهم، فقد ظهرت الحاجة إلى الولاء بعد الاستقلال، وقبل سنوات معدودة من قيام الثورة الإسلامية في إيران. ولمّا تزامنت هذه الحاجة مع قيام الثورة، صار التشكيك في ولاء الشيعة هو الاستراتيجية المعتمدة، وغطّى هذا التشكيك على كل التشكيكات التي سبقته.

ويذكر ألبرت حوراني أن قيام الثورة في إيران قد تسببت بنشوء «موقف شديد الخطورة والتعقيد في البلاد ذات التعداد الشيعي الكبير في العراق والكويت والبحرين والسعودية وسورية ولبنان. فقد بدا الأمر كما لو أن الثورة الإيرانية ستثير إحساسا قويا بالهوية الشيعية» (تاريخ الشعوب العربية، ص 300). أما الحرب العراقية/ الإيرانية، فكانت - بحسب حوراني - يمكن «أن تهزّ نظام المجتمع في البلدان ذات الغالبية الشيعية» (ص 296). وهذا هو ما حصل فعلا، فقد كانت لهذين الحدثين (الثورة والحرب) تداعيات سياسية واجتماعية ودينية كبيرة على البحرين، إذ استثير ذاك الإحساس القوي بالهوية الشيعية، واهتزّ «نظام المجتمع» بصورة كبيرة.

وقبل هذا الاهتزاز لم تكن لدى الشيعة دولة لا ضعيفة ولا قوية حتى تظهر مسألة ازدواج الولاء أو ليجري التشكيك في ولائهم الوطني لبلدانهم. وهنا ينبغي الالتفات إلى حقيقة مهمة وهي أن التشكيك في الولاء لا يقوم على إثبات أن ولاء جماعة بعينها منعدم للوطن الذي تعيش فيه، بل عادة ما يتركّز التشكيك على حالة أخرى وهي ظاهرة «الشرك في الولاء» التي تتمثل في تسريب طاقة الولاء أو (فائضها) إلى وطن آخر أو دولة خارج حدود الوطن. ولكن، إذا عُدِمت هذه الدولة التي تستقطب الولاء فإن التشكيك في ولاء جماعة من المواطنين يكون بلا قيمة ولا معنى له أصلا، إلا إذا كان التشكيك منصبا على انعدام الولاء من الأساس، وهذه وضعية لا يتصور وجودها بين شيعة البحرين؛ لأنها حالة خاصة بجماعات تشعر بأنها مقطوعة من دون دولة قومية من جهة، ومن دون ارتباط تاريخي وثقافي وفعلي بالوطن الذي تعيش فيه؛ لكونها جماعات مهاجرة وتعيش حالة شتات (دياسبورا) واسعة في العالم. وعموما، إن هذه الحالة لا تنطبق على شيعة البحرين بحكم ارتباطهم الفعلي والتاريخي الممتد والمتجذر في هذه الأرض. وإذا انتفت تهمة «الكفر بالولاء» لم يبقَ من بين التهم التي توجه إلى هؤلاء غير تهمة «الشرك في الولاء» أو ازدواجه، أي انشطاره بين موقعين: وطن سياسي داخلي من جهة، ووطن طائفي خارجي من جهة أخرى.

وقد تصدّى الشيخ محمد مهدي شمس الدين لتِبيان مسألة الولاء الوطني عند الشيعة على المستوى الفقهي، ويُعَد شمس الدين أهم عالم دين شيعي تنبّه إلى العواقب السلبية لمسألة «ازدواج الولاء» لدى الشيعة، وطالب بضرورة اندماجهم في محيطهم الوطني، والالتزام بحفظ النظام العام والسلم الأهلي في أوطانهم والابتعاد عن أي سلوك سلبي انكفائي أو هجومي. وقال في إحدى وصاياه إلى عموم الشيعة في العالم: «أوصي أبنائي وإخواني الشيعة الإمامية في كل وطن من أوطانهم وفي كل مجتمع من مجتمعاتهم أن يدمجوا أنفسهم في أقوامهم وفي مجتمعاتهم وفي أوطانهم وأن لا (ألا) يميزوا أنفسهم بأي تمييز خاص وأن لا (ألا) يخترعوا لأنفسهم مشروعا خاصا يميزهم عن غيرهم». ومن جملة التعبيرات السياسية لدى شمس الدين قوله إن «الشيعة في لبنان لبنانيون أولا، ومسلمون ثانيا، وشيعة ثالثا. وإن لبنانيتهم قاعدة أساسية في حقيقة وجودهم» (خيارات الأمة وضرورات الأنظمة عند الشيخ محمد مهدي شمس الدين، ص 225).

ويحسم حديث شمس الدين هذا الازدواج المفترض بين الدولة الوطنية من جهة، والمرجعية الدينية الشيعية من جهة أخرى. فإذا كان البعض يتصور أن «المرجعية الشيعية» بمثابة «دولة داخل الدولة» أو «دولة تزاحم الدولة»، فإن تفكيك هذه المزاحمة كفيل بتِبيان حقيقة هذه الأوهام؛ لأن موضوع المزاحمة هنا هو «ولاء المواطنين»، وبحسب هذا التصور فإن «المرجعية الشيعية» تزاحم الدولة الوطنية في ولاء مواطنيها الشيعة، ولكن لو سألنا عن حقيقة هذا الولاء الذي هو موضوع المزاحمة فسيتبيّن أن ولاء المواطنين تجاه المرجعية ولاء ديني يتمثل في اتباع فتاوى المرجع الديني فيما يتعلق بالعبادات والمعاملات العامة. في حين أن الولاء الديني لا يحلّ محل الولاء الوطني الذي حددنا صيغته في «الوطنية الدستورية». و «الوطنية الدستورية» صيغة عامة تنظّم الولاء السياسي في تجليات واضحة وغير عائمة ولا مشوشة ولا تسمح بالتشكيك في هذا أو ذاك؛ ما لا يسمح بتحويل مسألة «الولاء الوطني» إلى عامل من عوامل إنتاج الأزمات السياسية لا بالتشكيك فيه ولا بالمتاجرة به. والأهم أن «الوطنية الدستورية» لا تحكم على المواطنين بضرورة تقطيع كامل انتماءاتهم الدينية والقومية حتى القبلية، وخصوصا أن «الجنس والأصل واللغة والدين والعقيدة» - وهي مراكز استقطاب الولاءات الأخيرة - هي من الموضوعات الحيادية في نظر الدولة. وينص الدستور على أن «الناس سواسية في الكرامة الإنسانية، ويتساوى المواطنون لدى القانون في الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة» (مادة 18). فإذا كانت الدولة حيادية تجاه هذه الانتماءات الجنسية والعرقية والقومية والدينية والايديولوجية فبأي حق تتدخّل لتفرض على المواطنين تقطيع هذا النوع من الانتماءات بحجة ازدواج الولاء؟ إلا إذا كان الولاء الوطني الذي تفرضه الدولة ينطوي على انتماء من نوع خاص يقوم على أصل جنسي أو قبلي أو عرقي أو ديني أو طائفي، وهو ما يعد «تمييزا» مرفوضا بنص الدستور.

وللحديث صلة في الأسبوع المقبل.

إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"

العدد 1719 - الإثنين 21 مايو 2007م الموافق 04 جمادى الأولى 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً