العدد 1726 - الإثنين 28 مايو 2007م الموافق 11 جمادى الأولى 1428هـ

سيرة الشتات في بلاد «المؤمنين»

نادر كاظم comments [at] alwasatnews.com

.

ابتدأت سيرة التشكيك في ولاء شيعة البحرين بعد قيام الثورة في إيران، وبعد اندلاع الحرب العراقية/ الإيرانية. ثم انبعثت هذه السيرة من جديد بعد الإطاحة بنظام صدام حسين في العام 2003، وفي أعقاب تصريحات ملك الأردن عبدالله الثاني عن «الهلال الشيعي» الذي يضم إيران والعراق والخليج ولبنان. إلا أنها انفجرت بقوة بعد الحديث الصريح الذي أدلى به الرئيس المصري محمد حسني مبارك لقناة «العربية» يوم السبت 8 أبريل/ نيسان 2006، حين قال ردا على سؤال عن التأثير الإيراني في العراق: «بالقطع إيران لها ضلع في الشيعة... الشيعة 65 في المئة من العراقيين وهناك شيعة في كل هذه الدول وبنسب كبيرة والشيعة دائما ولاؤهم لإيران. غالبيتهم ولاؤهم لإيران وليس لدولهم». وهو الحديث الذي أثار استنكارا واسعا في إيران والعراق ولدى شيعة لبنان والكويت والسعودية والبحرين.

وفي البحرين، خصص رئيس المجلس الإسلامي العلمائي الشيخ عيسى أحمد قاسم خطبة الجمعة في 14 أبريل 2006 للرد على هذا الحديث وتأكيد ولاء شيعة البحرين لوطنهم. وفي هذه الخطبة نفى الشيخ التعارض بين الولاء الوطني والحب الوجداني لأقطار العرب والمسلمين، ومع هذا فهو يؤكد «هناك حبٌّ آخرُ أشرق وأركز وأوعى وهو حبي للبحرين؛ لأنها بلد الإسلام والإيمان، وهذا الحب منتشر على كل شبر من الأرض الإسلامية الكبرى» (موقع المجلس الإسلامي العلمائي).

والحق أن إشارة الشيخ عيسى قاسم إلى البحرين بوصفها «بلد الإيمان» إشارة مركزية وبالغة الدلالة؛ لأنها إشارة كاشفة وتحيل مباشرة إلى تراث «بحراني» مستفيض عن هذه القضية تحديدا. ونحن تعنينا هذه الإشارة لكونها ستسمح لنا بالحفر في مسألة مغيّبة إلا أنها بالغة التأثير على الوجدان الجماعي و «المزاج العام» لدى شيعة البحرين، وهي مسألة تأسيسية فيما يتعلق بقضية الولاء لدى شيعة البحرين. وأنا أتحدث هنا عن «شيعة البحرين» لكونهم يمثلون حالة خاصة ومتفردة تميّزهم تاريخيا حتى نفسيا من شيعة القطيف ولبنان والكويت وإيران وغيرها. ولا يشترك معهم في هذه الحالة إلا شيعة العراق في العقود الأخيرة. وهذه الحالة هي حالة الشتات البحريني الجماعي، وهو شتات يمثّل «دياسبورا» (Diaspora) قوية امتدت على مدى قرنين كاملين. ومن المعروف أن الدياسبورا تخلق حالة نفسية معينة تطبع هوية ومزاج الجماعات التي تعاني الشتات، والأهم أن هؤلاء المنفيين والمُهَجَّرِين والمُشَتَّتِين في الأرض يتحوّلون مع تقدم الزمن إلى أداة ضغط في وجه الأنظمة السياسية في أوطانهم الأصلية. هذا ما حدث مع الألمانيين المُهَجَّرِين والمنفيين في الولايات المتحدة إبان الحرب العالمية الثانية، وهذا ما حدث مع اليهود في العالم، وهو ما حدث مع الروس المنفيين في الولايات المتحدة الأميركية إبان الحرب الباردة، وهو كذلك ما حدث مع العراقيين المقيمين في الشتات قبل الإطاحة بنظام صدام حسين.

ومع هذا، فإن الدياسبورا البحرينية تمثل حالة استثنائية؛ لأنها «دياسبورا» قوية - وهذا ما سنبيّنه بعد قليل - إلا أنها لم يكن لها دورٌ ملموسٌ على هذا الصعيد؛ والسبب أن شيعة البحرين كانوا يندمجون في الأقطار التي تشتتوا فيها في القطيف والإحساء والبصرة وكربلاء والنجف والمحمرة وأصفهان وشيراز وبهبهان ولنجة وبوشهر وغيرها، بحيث تتناسى الأجيال اللاحقة أصولها البحرينية التي لم يتبقَ من شيء يذكر بها إلا لقب من بقايا بلده الأصلي مثل: «البحراني» أو «الغريفي» أو «البلادي» أو «الساري» أو «الستري» أو «التوبلاني» أو غيرها من الألقاب المنسوبة إلى منطقة معينة في البحرين، وفي كثير من الأحيان تنقرض الألقاب ويجري تناسي الأصول وخصوصا في الشتات الهائل الذي يكون عادة إبان الحروب والهجمات المتعاقبة التي لم تهدأ منذ القرن الثامن عشر. وهذه ظاهرة أشار إليها الشيخ علي البلادي في افتتاحية كتابه حين تحدث عن «تشتت» أهل البحرين في البلدان «بما لعبت بهم أيدي الزمان، وما نالوه من البلاء والهوان من أهل الجور والعدوان، والحوادث والوقائع التي أخلت منهم الأوطان وبددت شملهم في كل مكان (...) حتى بلغ الحال أن كثيرا من الأولاد لم يعلموا بآثار آبائهم ولم يدروا بأنسابهم وأقربائهم» (أنوار البدرين، ص 18)، وهذه ظاهرة لافتة وتستدعي التحليل والتفسير.

وحين يتحدث الشيخ عيسى أحمد قاسم عن البحرين بوصفها «بلد الإيمان»، فإنه يعبّر عن حاجة «لاوعية» إلى الاندماج ضمن تراث أبعد، وضمن ماضٍ يحيط بنا من كل جانب. وتكشف هذه الإشارة عن أننا أسرى شراك هذا الماضي الذي نَحُنُّ للانتظام فيه من دون أن ندرك ذلك. ولعل أقدم إشارة جاء فيها وصف البحرين بأنها «بلد الإيمان»، وأن أهلها هم «أهل الإيمان» هي تلك التي جاءت في مكتوب الشيخ عبيد آل مذكور الذي حرّره إلى الشاه عباس الصفوي يستنهض بها همته ويحثّه على القيام لطرد البرتغاليين من البحرين. وقد جاء فيه: «أما بعد فكيف رضيت همته العلية وشيمته القدسية بالجلوس في دار أصفهان والإغضاء عن جلب الشقاء على أهل الإيمان» (قلائد النحرين، ص 198، وعقد اللآل في تاريخ أوال، ص 95).

وتعود هذه الإشارة إلى القرن السابع عشر الميلادي، وستتعزز هذه الإشارة في القرن الثامن عشر الذي يعد قرن الشتات الأعظم في تاريخ البحرين، ولقد كان لهجمات العمانيين الإباضية الأثر الأكبر في هذا الشتات العظيم. وفي هذا السياق يذكر الشيخ ياسين بن صلاح الدين البلادي البحراني في ديباجة رسالته المسماة «القول السديد في شرح كلمة التوحيد»، قال بعد كلام طويل في وصف الشتات البحريني: «فأضرمت نيران الفتن، في مرابع أهل الايمان، وشُنّت الغارات والمحن في معالم ذوي العلم والإحسان» (عيون المحاسن، ص 66). وفي فترة قريبة من هذا كتب الشيخ علي البلادي كتابا في تراجم علماء البحرين، وقال: «ومن هؤلاء وأضرابهم سميت البحرين ببلاد المؤمنين والإيمان، واشتهرت بذلك في كل مكان» (أنوار البدرين، ص 50). ويذكر ناصر الخيري أن البحرين «في عرف الشيعيين من الأماكن المقدسة» (قلائد النحرين، ص 204).

والمرجّح أن يكون القرن السابع عشر هو الزمن المرجعي لهذه الإشارة، ويعود ترجيحنا هذا إلى حقيقة تاريخية وهي أن البحرين دخلت في مدار النفوذ الصفوي في هذا القرن تحديدا (1602م). وهذا يعني أنه لأول مرة في التاريخ يظهر حليف إقليمي قوي لأهل البحرين، وأكثر من هذا فهو حليف شريك لهم في المذهب؛ ما يعني أنه لن يألوَ جَهْدا في حمايتهم والذود عنهم ضد الهجمات المتعاقبة التي تستهدفهم، والعلة في هذا كما يذكر محمد علي التاجر هو «أن عواطف العقائد الدينية هي أقوى رابطة تربط أهالي البحرين لذلك العهد بشاهات الدولة الصفوية» (عقد اللآل، ص 95).

وبادر أهل البحرين إلى مكاتبة الدولة الصفوية؛ للتخلّص من البرتغاليين والهجمات المتعاقبة التي تشيع الفوضى والاضطراب في البلاد، ويذكر ناصر الخيري أن ظهور الدولة الصفوية واشتهارها «بعطفها على المذهب الشيعي» ومناصرته قد حمل أهل البحرين على «مكاتبة ملوكها واستصراخهم بها سرّا وعلانية» (قلائد النحرين، ص 197). وإذا عرفنا أن تعبير «أهل الإيمان» يتطابق مع «الشيعة» في الاستخدام اللغوي العرفي لدى شيعة هذه الحقبة بحيث يكون معنى «الذين آمنوا هم الشيعة أهل الولاية» (السيدشرف الدين الحسيني، تأويل الآيات الظاهرة، ص 268، وانظر: نورالله الشوشتري، الصوارم المهرقة، ص 296)، أقول: إذا كان ذلك كذلك فإنه لن يكن من العسير الاستنتاج أن تعبير «أهل الإيمان» كان جزءا من حيلة خطابية تستهدف استنهاض الدولة الصفوية لإنقاذ أهل البحرين و «عقيدة التشيع» التي يصور حالها عبيد آل مذكور في خطابه إلى الشاه عباس بقوله: «فحسبك بتشتّت شملها واضمحلال أثرها واندراس معالمها (...) ولم يبقَ من أطلالها إلا عروش خاوية وآثار متداعية، ومع ذلك فقد اكتفينا من عمارها بالخراب، ومن مائها بالتراب» (قلائد النحرين، ص 198).

وفي القرن السابع عشر أيضا عادت الإمامة إلى مجتمع الأباضية في عمان، حيث عُقِدت الإمامة في العام 1034 هـ (1624م) لناصر بن مرشد اليعربي، وهو أول إمام من دولة آل يعرب. ومن نسل هذا الإمام سيخرج سلطان بن سيف الذي عقدت له الإمامة في العام 1711. وقد صرف هذا الإمام عنايته لحرب الدولة الصفوية، وانتزع من أيديها جزيرة قشم والبحرين ولارك وجاش وبندر عباس بعد حروب طاحنة، وأهمها وقعة البحرين في العام 1717. وعلى هذا، فقد كُتِبَ على أهل البحرين أن يتواجهوا - ولأول مرة أيضا - مع عدو مذهبي قوي، نجح في التغلب على بلادهم لأكثر من مرة، وهذا العدو المذهبي هو إمام مسقط والعمانيون الأباضيون (أو الخوارج بتعبير مؤرخي البحرين في تلك الفترة). ويصوّر ناصر الخيري هذا العداء المذهبي بين الشيعة والأباضية حين يقول: «وأنّى للأباضي أن يتفق مع الشيعي، وذلك يبالغ ويسرف في بغض علي بن أبي طالب بينما هذا يبالغ في مودته ويكاد أن يجعله إلها، فهم لهذا على طرفي نقيض، ومحال أن يجتمع الضدان ويأتلف النقيضان» (قلائد النحرين، ص 204).

وإذا تذكرنا إشارة ألبرت حوراني عن دور الثورة في إيران وحرب الخليج الأولى في استثارة الإحساس القوي بالهوية الشيعية واهتزاز نظام هذه المجتمعات، فإننا نقول: إن هذه الاستثارة لم تكن هي الأولى، كما لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يهتزّ فيها «نظام المجتمع» في البحرين. ولهذا سنعمد إلى الحفر «الأركيولوجي» في تاريخ هذه الاستثارة وهذا الاهتزاز. وسيفيدنا هذا الحفر في إضاءة الكثير من المناطق المظلمة والمجهولة فيما يتعلق بمعضلة الولاء وازدواجه، وفيما يتعلق بدور هذه الاستثارة وهذا الاهتزاز في صوغ الوجدان الجماعي و «المزاج العام» تجاه فكرة «الوطن» أو «اللاوطن/ الشتات» لدى شيعة البحرين. وفي هذا الحفر سيمتزج الماضي البعيد بالماضي القريب، وهذا الأخير بالحاضر. وبحسب فرناند بروديل، فإنه «إذا كان الماضي مقطوعا عن الحاضر عبر سلسلة من العقبات - التلال والجبال والفجوات والتباينات - فإنه يملك أيضا سبلا ووسائلَ لاستعادة الاتصال - طرقا ودروبا وأنهارا - والماضي يحيط بنا من كل جانب، خفيا وهامسا، ونحن أسرى شراكه دون أن ندرك ذلك في جميع الأحوال» (هوية فرنسا، ج: 1، ص 17). وسيتبيّن لنا في نهاية عملية الحفر هذه أن هذا التاريخ حاضر بقوة في حاضرنا، وأن كثيرا من هواجسنا ومخاوفنا وعقدنا النفسية اليوم إنما تضرب بجذورها في هذا التاريخ البعيد والقريب الذي يتحرك من تحت أقدامنا من دون توقف.

إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"

العدد 1726 - الإثنين 28 مايو 2007م الموافق 11 جمادى الأولى 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً