العدد 1740 - الإثنين 11 يونيو 2007م الموافق 25 جمادى الأولى 1428هـ

الشتات البحريني وفقدان الانسجام في الهوية

نادر كاظم comments [at] alwasatnews.com

.

لقد تسبب الهجوم الأباضي في خراب البحرين وتشتيت أهلها في الأقطار، وتأسيس «بنية مزاجهم الجماعي» القائمة على الشعور المزمن بالضياع والتشتت وفقدان الوطن، والأهم فقدان الصفاء القديم والانسجام المعهود في هويتهم، وهم الذين كانوا حتى القرن السابع عشر شيعة لا يزاحمهم «آخر مختلف» ذو شأن يعكر هذا الصفاء والانسجام في الهوية، فضلا عن «آخر مختلف» يمثل بالنسبة لهم تهديدا جديا على هويتهم كما هو الحال مع «الآخر الأباضي». ولم يكن الجديد في الهجوم الأباضي أنه سيمهد لسلسلة جديدة من الاستيلاءات؛ لأن تاريخ البحرين السياسي أشبه بسلسلة متصلة من الاستيلاء والاستيلاء المضاد، لكن الجديد في هجوم الأباضية أنه أول هجوم معادٍ يستهدف هوية شيعة البحرين ويسعى لاقتلاع وجودهم، فلم يكن مجرد استيلاء على الحكم وانتفاع بخيرات البلاد.

وقد كان القدماء على وعي بميزة هذا الانسجام في هوية البحرين دون بقية مناطق الشيعة في العالم، فلم تكن منطقة ما شيعية «خالصة» ودونما مزاحمة من الآخرين إلا إقليم البحرين (أوال، القطيف، الإحساء)، واعتبر هذا الصفاء من «فضائل البحرين» التي نالتها بفضل «اللطف الإلهي». وفي هذا الشأن يذكر الشيخ يوسف البحراني (1107 - 1186هـ) أن «تشيّع أهل البحرين وقصباتها مثل القطيف والحسا من قديم الزمان إلى هذه الأيام ظاهر شائع، ومنشأ ذلك شمول اللطف الإلهي لأهل تلك الديار» (الكشكول، م:3، ص 142). وفي الشأن ذاته ينقل الشيخ علي البلادي (ت 1340هـ) عبارة الشيخ يوسف (أنوار البدرين، ص 27)، ويضيف في موضع آخر أن «أهل البحرين من قديم الزمان من الشيعة المخلصين، والموالين لمولانا علي أمير المؤمنين» (أنوار البدرين، ص 18، وص 20). إلا أن هذا الصفاء والانسجام في الهوية قد تقوّض بصورة مؤلمة بعد الهجوم الأباضي المدمّر، وقد اقترن تقوّض هذا الانسجام بتجربة الشتات والفقدان المبرم للوطن. وهي تجربة لم يكن المشتتون الأوائل قادرين على التكيّف والتعايش معها. بل كان هؤلاء المشتتون يتعاملون مع شتاتهم هذا كضرورة مؤقتة، أو هو بمثابة رحلة قسرية إلا أن العودة خيار وارد إذا ما سمحت الظروف بذلك. وبمعنى آخر، لم يكن هؤلاء يتصورون أن هذه الرحلة القسرية «رحلة في اتجاه واحد». والحق أن هذه حال معظم المشتتين والمهاجرين الأوائل مثل المهاجرين المكسيكيين في الولايات المتحدة، والأتراك في ألمانيا، والمسلمون الروس في الإمبراطورية العثمانية. وبتعبير إدوارد سعيد فإن المنفيّ يعيش «في حالة وسطية، لا ينسجم تماما مع المحيط الجديد، ولا يتخلّص كليا من عبْء البيئة الماضية» (صور المثقف، ص 58). وهذا بالضبط هو حال الشيخ ياسين البلادي حيث ظلّ مسكونا بتجربة الشتات التي كانت له كالهمّ المقيم المقعد الذي لا سبيل إلى نسيانه أو التسلي عنه. كما كان الشيخ أحمد بن إبراهيم آل عصفور يتعامل مع تجربة الشتات كتجربة فراق قسري عن الوطن إلا أنه فراق مؤقت بدليل أنه أمر ابنه الشيخ يوسف أن يبقى في البيت الذي كان لهم في قرية الشاخورة حيث كان فيه «بعض الخزائن المربوط فيها على بعض الأسباب من كتب وصفر وثياب» (لؤلؤة البحرين، ص 443، وعيون المحاسن، ص 167)، ويذكر الشيخ يوسف أن والده ضاق عليه الحال في القطيف فقرر الرجوع إلى البحرين حتى لو كانت في أيدي «الخوارج»، إلا أن المنية عاجلته قبل الرجوع حيث «حُرقت البلاد، وكان من جملة ما حرق بالنار بيتنا في القرية المتقدمة (الشاخورة)، فازداد الوالد - رحمه الله - غُصة لذلك حيث إنه خرج على بنائه مبلغا خطيرا، وصار هذا سبب موته» (لؤلؤة البحرين، ص 443 - 444). وكذلك كان الشيخ عبد الله السماهيجي يعيش تجربة الشتات كتجربة بُعد مؤقت في بهبهان، وإلا لو كان يتعامل مع الشتات كتجربة نفي نهائي وضياع مبرم للوطن الأصلي لما فكّر في الذهاب إلى الشاه في أصفهان لطلب المساعدة وإنقاذ البلاد من أيدي الأباضية.

أما الشيخ يوسف البحراني فقد عاش أكبر تجربة شتات بين علماء البحرين حيث تنقّل بين القطيف وكرمان وشيراز وتوابعها وفسا والإصطهبانات حتى استقر في كربلاء وتوفي فيها في العام 1186هـ/ 1772م (انظر: لؤلؤة البحرين، ص 445). ويصوّر الشيخ يوسف تجربة الشتات البحريني الجماعي في كتاب حرره للعلامة محمد رفيع المجاور للمشهد الرضوي، يقول فيه: «فلما تداولتني في هذا الزمن أيدي الحل والترحال، وترامت بي عن الوطن حوادث الأيام والليال أعظم ما جرى علي في تلك البلاد، بل على جملة من فيها من العلماء الأمجاد والكبراء من ذوي الفضل والسداد على أيدي ذوي النصب والفساد الشاربين بكأس الكفر والإلحاد حتى خرقوا شملهم بأقاصي البلدان، ومزقوا جمعهم بحسام الجور والطغيان بعد أن جرعوهم غصص المصائب والعدوان، وأذاقوهم كؤوس النوائب والخذلان، وكنت ممن رمته أيدي تلك المصائب الشنعاء في دار الأمان، وقذفته منجنيقات تلك الحوادث الشوهاء في هذا المكان المعمور بالإخوان والخلاّن» (الكشكول، م:2، ص 305).

ويبدو أن تجربة الشتات الهائلة التي عاشها الشيخ يوسف قد انعكست على موقفه المبدئي من الآخر عموما، عدوا كان أو صديقا، حيث طبعت هذه التجربة موقفه من الآخر بطابع سلبي واضح سواء كان هذا الآخر عدوا كـ «الخوارج» و»النواصب» الذين صنّف فيهم كتابه «الشهاب الثاقب في بيان معنى الناصب»، أو صديقا كما في كتاباته التي يذمّ فيها الأصحاب والأحباب ويشبّههم بالكلاب والذئاب، يقول: «ولعمري لا جليس ولا أنيس أحسن من الكتاب، ولا أمين ولا معين أعود نفعا منه في هذا الباب، ولاسيما في زماننا هذا الذي قد التبست فيه الأصحاب بالذئاب، وتبدلت فيه الأحباب بالكلاب، وحاشا الكلاب والذئاب مما عليه أولئك الأحباب والأصحاب من قبح البواطن والسرائر» (الكشكول، م:1، ص 6). ويعزّز هذا الموقف المتشكك في الأصحاب والأحباب في وصيته لابنه محمد حيث يقول: «واتخذ الخلوة والعزلة حجابا عن البشر فليس في الصحبة إلا الوبال والضرر» (الكشكول، م:2، ص 194).

ولكن، علينا أن ننتبه إلى مسألتين فيما يتعلق بتقييمنا لنجاح أو فشل هؤلاء المشتتين في التكيّف مع تجربة الشتات التي تعيشها البحرين لأول مرة في تاريخها الوسيط والقريب. وتتعلق المسألة الأولى بضرورة الفهم التاريخي والنسبي للإحساس الوطني الذي يجعل المرء ملتصقا بحرارة متقدة بوطنه الأصلي لا بوصفه مسقط الرأس ومحل التنشئة بل بوصفه وطنا سياسيا، فهذا إحساس طارئ في تاريخ البحرين، ويرجع تاريخ ظهوره إلى زمن بناء الدولة الحديثة في أوائل العشرينات من القرن الماضي. وقبل هذا كانت الطائفة هي المركز الذي يستقطب الولاء ويؤمّن الإحساس بالانتماء. وعلى هذا كان من الممكن للدياسبورا البحرانية أن تندمج بسهولة في الأقطار التي تشتت فيها؛ لسبب بسيط وهو أن كل هذه الأقطار كانت شيعية أو ذات غالبية شيعية: القطيف، والإحساء، والبصرة، والنجف، وكربلاء، والمحمرة، وأصفهان، وبهبهان، وبوشهر، ولنجة وغيرها. وقد هوّن هذا الانتماء الطائفي الموحّد من الألم الذي يسببه شعور المرء بأنه مقتلع وبلا وطن. كانت الطائفة هوية هؤلاء المشتركة، وهي لهم بمثابة الوطن الرمزي الكبير الذي تأتلف عنده الأرواح المتشابهة، ولهذا كان قادرا على استيعاب كل المشتتين والمهاجرين والمنفيين إذا ما اضطرتهم الظروف إلى البعد عن الوطن الجغرافي المحدود.

ويبدو أن الركون إلى الائتلاف الطائفي وما يوفره للمشتتين من شعور بالأمان والاستقرار والانتماء، قد عطّل كل مبادرات التحرك لاسترداد الأرض من أيدي المتغلبين عليها. وإذا تجاوزنا مبادرة الشيخ عبد الله السماهيجي فإن التاريخ يحدثنا عن محاولة يتيمة لم يكتب لها النجاح وهي تلك التي قام بها السيد شبّر الستري الغريفي نزيل البصرة والمحمرة. ويذكر الشيخ علي البلادي أن السيد شبر في آخر عمره قد «أخذته غيرته الإيمانية على ما جرى على أهل البحرين من الحكام المتغلبين عليها من الظلم والعدوان وغصبهم الأموال وتشتتهم في كل مكان، وأدّاه نظره واجتهاده، وإن لم يوافقه عليه أكثر علماء زمانه، إلى جمع العساكر من أهل البحرين والقطيف الساكنين هناك لأخذ البحرين من أيدي أولئك المتغلبين» (أنوار البدرين، ص 209).

والسؤال هو لماذا لقيت هذه المحاولة اليتيمة معارضة من أكثر علماء ذلك الزمان؟ واللافت أن هذا الموقف من قبل العلماء يذكّر بحديث الشيخ يوسف البحراني الذي صنّف كتابه الفقهي الضخم «الحدائق الناظرة» وهو في الشتات ومع هذا فقد أعرض عن ذكر كتاب الجهاد، يقول: «وأعرضت عن ذكر كتاب الجهاد وما يتبعه لقلة النفع المتعلق به الآن تبعا لبعض علمائنا الأعيان، وإيثارا لصرف الوقت فيما هو أحوج وأحقّ لأبناء الزمان» (لؤلؤة البحرين، ص 446). ولكن هل هناك أحوج وأحق من كتاب الجهاد والدعوة إليه لتحرير الوطن والأرض، وخصوصا بالنسبة لمن ذاق مرارة الشتات والاقتلاع من الأرض كالشيخ يوسف البحراني؟ ثم كيف اتفقت كلمة هؤلاء «العلماء الأعيان» على «قلة النفع» المتحصل من كتاب الجهاد وما يتبعه؟ هل يعود هذا إلى مركزية الطائفة وأولويتها على الوطن والأرض في الفكر الشيعي؟ ربما يكون هذا صحيحا، إلا أن المسألة لا تخلو من موقف اعتقادي يرتبط بالموقف الشيعي من الولاية والحكم والسلطة في فترة غياب الإمام المعصوم. والحاصل أن جميع فقهاء ذلك الزمان قد ذهبوا إلى عدم وجوب السعي «لتصحيح السلطة، وإعادتها من صورتها القائمة إلى الصورة المشروعة» (ضد الاستبداد: الفقه السياسي الشيعي في عصر الغيبة، ص 155). وهذا ما عمّق لديهم فكرة الاعتزال وتبرير القعود (ص 157)، ويبدو أن مواقف العلماء من حركة السيد شبّر ومن كتاب الجهاد الذي أعرض عنه الشيخ يوسف لقلة نفعه، إنما يعود إلى تجذّر فكرة الاعتزال والقعود وعدم وجوب السعي لتصحيح السلطة في الفكر الشيعي في ذلك الوقت.

أما المسألة الثانية فيما يتعلق بتقييم تجربة المشتتين الأوائل فستكون مدار الحديث في الأسبوع المقبل إن شاء الله.

إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"

العدد 1740 - الإثنين 11 يونيو 2007م الموافق 25 جمادى الأولى 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً