العدد 1743 - الخميس 14 يونيو 2007م الموافق 28 جمادى الأولى 1428هـ

نظرة في عوامل الأمن الاجتماعي

الشيخ حميد المبارك hameed.almubarak [at] alwasatnews.com

فيما يلي -عزيزي القارئ - استعراض لبعض الأفكار التي شاركت بها منتصف الشهر الماضي، في ندوة نظمتها ممثلية المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي تحت عنوان «قيمة الأمن وواقع النزاع في القرآن الكريم».

ويجدر البدء بتعريف الأمن، فالشائع هو أنه شعور الإنسان بعدم الخوف على نفسه أوماله أوعرضه، وربط معنى الأمن بالشعور يجعله نسبيا بمعنى كون عوامل الشعور تختلف بحسب اختلاف الثقافة ومستوى الحياة، فلعل أمرا يكون سببا للقلق وعدم الأمن بالنسبة إلى مجتمع لكنه لا يوجب ذلك بالإضافة إلى مجتمع آخر، فالمجتمعات تتفق على طلب الحياة الكريمة ولكنها تختلف في مستويات التطلع بحسب ظروفها الثقافية والتاريخية، وكذا تتفق المجتمعات على حماية المقدسات لكنها تختلف في تعريفها وفي تطبيقاتها، ولذلك أمكن أن يقاس مستوى تطور المجتمع أوالفرد من خلال معرفة ما يقلقه ويشغل باله من الأمور.

ولأن الأمن الاجتماعي ليس سوى أمن الأفراد بالتضامن، لذلك فكل ما يؤدي إلى الإخلال بأمن الفرد فهو ينعكس في النتيجة على الأمن العام، وهذا معنى الربط في كلام مشهور للإمام علي عليه السلام بين الفتنة وبين «الحق المضيع» فليس متوقعا أن يبالي بحق غيره من وجد حقه مضيعا، ولذلك فإن أقصر الطرق إلى الأمن الاجتماعي هورعاية حق الأفراد، وهذا مدخل مهم إلى فهم أسباب تدهور الضمير الاجتماعي وحس احترام الحقوق في المجتمعات التي لم تعرف الترشيد في المجالين القانوني والسياسي، فالضمير في حقيقته هو «حس الالتزام» الذي يدفع إلى احترام الحق انطلاقا من حب الخير ومن روح الالتزام تجاه الآخر. ومن هذا الربط بين مقولة الضمير وبين الحس الاجتماعي يمكن أن ندرك الخلل في فهم الضمير على أساس استغراق الفرد في ما يراه صوابا بعيدا عن اقتضاءات النظم العام كما نراه في قول القائل:

همّي ضميري فإن أرضيتُه فعلى

رأي العبادِ سلامُ المستخفّينا

في حال أن مراعاة الشعور العام هو جزء من اقتضاءات الضمير إذ يرتبط بحق الآخرين، ونجد ذلك في النصوص الشرعية «خذ العفووأمر بالعرف» (الأعراف:199) وصولا إلى بسائط الأمور كالنصوص التي دلت على استحباب التزين وحسن الهيئة للناس، فقد نقل أن النبي (ص) كان يتجمل لأصحابه فضلا على تجمله لأهله، وقال إن الله يحب من عبده إذا خرج إلى إخوانه أن يتهيأ لهم ويتجمل. «وسائل الشيعة ( كتاب الصلاة) الباب 4 من أبواب أحكام الملابس)

كما ان للقانون دورا رئيسيا في تأكيد الأمن الاجتماعي، ولكن المقياس الحقيقي للقانون الجيد هوقابليته للتطبيق ضمن آليات فاعلة، فما لم يشتمل القانون على آليات حقيقية لتطبيقه على نحوعادل فلن يجدي نفعا بل قد ينعكس سلبا، اذ اللافت أنه كلما زادت نسبة القوانين الكسيحة زادت رغبة المتنفذين في معاكستها وكسر مضامينها.

وفي الوقت الذي ينبغي التأكيد على مصدرية الدين للتقنين في مجال الحقوق «وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم» (الأحزاب: 36) إلا إن ذلك لا ينبغي أن يعوق التطلع إلى تطوير التقنين انطلاقا من المساحة التي تركها النص للاجتهاد عبر العصور، وذلك ما أطلق عليه الشهيد السيد محمد باقر الصدر (منطقة الفراغ)، اذ يجعل من الممكن للفقيه أن يفرع قوانين بحسب الأوضاع المستجدة واستنادا إلى آراء متخصصين في الشأن العام شريطة اندراجها تحت الضابطة الشرعية العامة «إن الله يأمر بالعدل والإحسان» ( النحل:90) ولقد أعجبني حقا ما قاله ابن القيم في كتابه «الطرق الحكمية»: (إن الله سبحانه أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط، وهوالعدل الذي قامت به الأرض والسماوات، فإذا ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان فثَم شرع الله ودينه) وهذا يتصل ببحث المقاصد أوالمفاهيم التأسيسية كما يسميها بعض الفقهاء المعاصرين.

ولا شك في أن تقدم القوانين الاجتماعية ومدى فاعليتها من حيث آليات التطبيق من جهة ومن حيث مواكبتها للحاجات المستجدة للمجتمعات من جهة أخرى هي المقياس الأهم للتطور الحضاري لأية أمة من الأمم، وأوضح ذلك القوانين التي تهدف الى تحقيق التكافل الاجتماعي بين الأجيال المتعاقبة أوبين فئات الجيل الواحد نظير قوانين الضمان الاجتماعي وما يتصل بها، فكل ذلك يندرج تحت قاعدة العدل المتقدمة، بل قد نجد له إشارات في بعض النصوص الفرعية أيضا كما نقل أن الإمام علي - عليه السلام - كان يسير في أسواق الكوفة ذات مرة فشاهد رجلا كبير السن كفيف البصر يستعطي فالتفت إلى من معه قائلا: ما هذا؟ فقيل: إنه نصراني فقال: استخدمتموه شابا ولما كبر وعجز تركتموه، فأجرى له راتبا.

وقد أصبحت آليات الضمان الاجتماعي بكل أشكالها - مضافا الى كونها معيارا لمستوى رفاهية المجتمع - عاملا مهما وأساسيا في ترسيخ عوامل الأمن الاجتماعي، إذ من الواضح وجود علاقة بين الأمن الاقتصادي وبين الاستقرار المعنوي والنفسي وبالتالي استعداد الفرد للمساهمة في عوامل الأمن العام، ونلاحظ أن الآيات في سورة قريش قرنت بين الأمن الاقتصادي والنفسي وبين العبادة كمؤشر على المستوى المعنوي للفرد «فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ» (قريش: 3-4) .

كما انه من المهم جدا العناية بأسباب الربط الاجتماعي خصوصا في هذا العصر الذي تنشط فيه عوامل التفكك إذ التطور التقني والانشغال بالآلة وتراكم متطلبات الحياة علميا وعمليا، يضاف الى ذلك الاكتساب الثقافي المتسارع والذي نتج عنه عجز في الوعي العام عن الموازنة بين الموروثات والمكتسبات، إذ قد تسبب في إرباك على المستويين الثقافي والاجتماعي تزداد حدته يوما بعد يوم، فمن الذي لا يلاحظ تفاقم مظاهر الانفلات الديني والاجتماعي لدى فئة من الناس الى جانب تعاظم مظاهر التعصب الديني والاجتماعي لدى فئة أخرى الى مستوى التصادم الخطير والذي من المتوقع أن نشهد له تصاعدا في الفترة المقبلة، فقد أججت نيرانه المتوحشة في العراق (ما يجري في العراق ليس فقط صراعا طائفيا أوسياسيا بل جزءا كبيرا منه يرتبط بالصراع الديني العلماني) وكذا النزاع المسلح بين منظمتي فتح وحماس في فلسطين، بل بدأت فتنة هذا الصراع بالاشتغال في كل حواضر الإسلام وبأشكال مختلفة خفية وظاهرة، ومن يدري فلعله المخاض الذي تعقبه الولادة السعيدة!

وكذا لا مناص عن الإذعان بالربط بين الأمن الاجتماعي وبين وجود مؤسسات رقابية فاعلة تهتم بالحق العام وحقوق الأفراد، وكذلك وجود مؤسسات تعنى بالتعرف على الطاقات واستيعابها، فقد ذكر في بعض التقارير أن من أبرز الدول التي تنخفض فيها نسبة الجريمة على مستوى العالم هي اليابان، وذلك لأنها من أبرز الدول التي تحتضن مؤسسات اجتماعية تعنى بالشباب، ومن بينها مؤسسة يُطلق عليها (وحدة الإرشاد والتوجيه للشباب) تضم 126 ألف عضومتطوع. وكذلك (مؤسسة المرأة لإعادة التأهيل) تضم 320 ألف متطوعة. فكل مشكلة من المشاكل تجد لها مؤسسة متخصصة بدراستها وبوضع الخطط لمواجهتها وبالتحرك تجاهها، بينما لا يتجاوز الاهتمام عندنا مجال الحديث عن المشكلة دون أن نندفع باتجاه تأسيس المؤسسات واللجان المتخصصة لدراستها والبحث عن حلولها.

ويتصل بدور المؤسسات الاجتماعية ما يعرف في الفقه الإسلامي بـنظام - الحسبة - وتعني العمل للصالح العام بدافع الله والضمير، ولها ضوابط كضوابط الأمر بالمعروف بل هومن تطبيقاتها ومصاديقها، ولذا فمن أبرز شروطها توفر المصلحة، والتي تستدعي حفظ النظام الاجتماعي وأولوية العلاقات البينية، خلافا لما تقوم به الكثير من الفئات التي تنسب نفسها الى الدين لكنها تغفل أوتتغافل عن ذلك الأصل الإنساني والديني الهام فتقع في ممارسات تزرع الفتنة وتوجب الفرقة بذريعة العمل لمصلحة الدين والمجتمع فتجعل من اختلاف الرأي منطلقا للفتنة والتفرق وهتك الحرمات وتدنيس المقدسات، وهكذا نجد أن اختلاف وجهات النظر لدينا لا ينتج آراء تتفاعل فيما بينها بل يولد مواقف تتصارع لتصبح مشكلة تنعكس سلبا على كرامة الفرد وشعوره بالأمن وبالتالي على المجتمع، حيث أصبح التعبير المتعارف لإبداء الرأي - لدى القوى المتنافسة - هوالعنف القولي والفعلي ضد الآخر والتخريب المتعمد لكل دواعي الاستقرار والنظام.

إقرأ أيضا لـ "الشيخ حميد المبارك "

العدد 1743 - الخميس 14 يونيو 2007م الموافق 28 جمادى الأولى 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً