العدد 1747 - الإثنين 18 يونيو 2007م الموافق 02 جمادى الآخرة 1428هـ

الحنين الأسطوري إلى «البحرين الأخرى»!

نادر كاظم comments [at] alwasatnews.com

.

أشرنا، في مقال الأسبوع الماضي، إلى أن فهم تجربة الشتات، وتفسير نجاح المشتتين الأوائل في التكيّف مع هذه التجربة القاسية، يتطلبان التنبه إلى مسألتين: الأولى وهي تتعلق بالركون إلى الائتلاف الطائفي وما يوفره للمشتتين من شعور بالأمان والاستقرار والانتماء، وهذا ما يخفف من وقع الشعور بالضياع والاقتلاع من الوطن.

أما المسألة الثانية فترتبط بضرورة الفهم التاريخي والنسبي أيضا لتجربة الشتات المؤسّسة لما أسميناه بالتاريخ المنشطر والمزاج الجماعي الموسوم بالضياع والشتات والفقد والحنين الأسطوري إلى «بحرين أخرى» وُجدت في لحظة ما من زمن ذهبي باهر وبرّاق ويأخذ الأبصار والألباب. فمن يقرأ حديث الشيخ ياسين البلادي والشيخ علي البلادي من بعده سينطبع في ذهنه أن البحرين - قبل الزلزال الأباضي والاقتتال المتصل الذي سنتحدث عنه في الأسبوع المقبل - كانت بلادا آمنة هانئة وذات خيرات وفيرة وعلم منتشر، وهي الحال التي جعلت من البحرين في هذا الزمن مركز جذب عاطفي لا لعموم شيعة العالم في ذلك الوقت، بل لعموم شيعة البحرين في القرون التي أعقبت الزلزال الأباضي وحتى هذه اللحظة حيث الحنين إلى البحرين القديمة ما قبل الزلزال والخراب حنين أسطوري مستعر بقوة. وخطورة هذا الانطباع اللاحق أنه يفرض على المرء أن يصغي إلى حال المشتتين الأوائل في ضوء هذا التصور أو هذا الانطباع المتأخر، كما أنه يفرض على المرء أن يستبطن شعور هؤلاء في ضوء أسئلة آتية من زمن متأخر من قبيل: كيف يمكن لامرئ أن يحتمل الشتات عن بلاد مثالية كهذه؟ أليست تجربة الشتات القهري هذه أشبه بخروج آدم من الجنة واستقراره في الأرض؟ أليست هي لعنة حيث اللعنة هي طرد قسري من النعيم؟

والحديث عن «البحرين الأخرى» بوصفها قطعة من الجنة ليس من بنات أفكارنا، بل هناك حكاية متداولة في مصنفات التراجم تدور حول هذه الفكرة تحديدا، وسنتخذ من هذه الحكاية منطلقا لمقاربة تاريخانية نسبية للتصور المتأخر عن البحرين بوصفها جنة آمنة ونعيما سرمديا.

ينقل هذه الحكاية الشيخ يوسف البحراني في كشكوله ومحمد علي آل عصفور ومحمد علي التاجر وآخرون. وتقول هذه الحكاية إن السبب في مجيء الشيخ حسين بن عبد الصمد (ت 984هـ/1576م) والد الشيخ البهائي إلى البحرين، أنه كان بمكة المشرفة وقد قصد المجاورة فيها، فرأى في المنام كأن القيامة قد قامت، وأن الله تعالى أمر بأن ترفع أرض البحرين إلى الجنّة، فأختار الانتقال من مكة المعظمة، وأتى البحرين وجاور أهلها حتى توفي ودفن في قرية المُصلَّى (الكشكول، ج:3، ص146، وأنوار البدرين، ص73، وعيون المحاسن، ص17، وعقد اللآل، ص35).

تشترك هذه الحكاية مع التصور المتأخر عن البحرين، فهي تُصوِّر أرض البحرين كقطعة رفعت إلى الجنة، أي أنها جزء من الجنة، وهو ما دفع الشيخ حسين بن عبدالصمد إلى تفضيل مجاورتها والموت فيها على مجاورة مكة المكرمة. إلا أن الفرق بين هذه الحكاية والتصور المتأخر يكمن في المدلولات التي تنطوي عليها تكملة هذه الحكاية؛ لأن هذه التكملة تقلب أفق التوقع الذي شكلته رؤيا الشيخ حسين عن البحرين، فبعد وصوله ومخالطة أهلها يتوصل هذا الشيخ إلى قناعة مؤداها أن هذا مجتمع كثير الجدال والسجال فيما لا ينفع، ومشتغل «بصغائر الأمور»، وكأنه بهذا تصدى «لمحو العلم». وهذا ما حمل الشيخ حسين على اعتزال هذا المجتمع حتى توفي. تقول التكملة أن الشيخ حين وصل البحرين، وسمع بقدومه علماء البحرين، وقد كان جملة من الفضلاء يجتمعون للدرس والتدريس في مسجد جد حفص، ومنهم العلاّمة الشيخ داود بن أبي شافيز، وكان ذلك الوقت قد خرج الشيخ داود من قرية جدحفص لمباغضة حصلت بينه وبين بعض علمائها، فلمّا سمعوا بقدوم الشيخ حسين بن عبد الصمد عرفوا أنه بعد مجيئه ربما يحضر إلى المسجد يوم الدرس، وكان الشيخ داود ذا يدٍ طولى في علم المناظرة والجدال، فمضوا إليه وصالحوه، وحضر المسجد كما كان سابقا. فلما ورد الشيخ حسين سأل عن محل مجمع الفضلاء في البلد، فأخبروه باليوم الذي يحضرون فيه إلى المسجد المذكور، فاتفق حضوره في بعض الأيام، وجرى البحث بينه وبين الحاضرين، فتولّى ذلك الشيخ داود وأطال النزال والجدال معه، فلمّا انصرف الشيخ أنشأ هذين البيتين ثم لم يحضر بعد ذلك حتى توفي:

أناس في أوالٍ قد تصدّوا

لمحوا العلم واشتغلوا بِلَمم

فإن باحثتهم لم تلقَ منهم

سوى حرفين لِمْ لِمْ لا نُسَلِّم

واللافت أن هذا الموقف من قبل الشيخ حسين سيتكرر فيما بعد، ولكنه سيتكرر مع مع واحد من أعظم علماء البحرين قاطبة وهو الشيخ سليمان الماحوزي أستاذ الشيخ عبدالله السماهيجي والشيخ أحمد بن إبراهيم آل عصفور، وهو الذي «انتهت إليه رئاسة بلاد البحرين في وقته» (لؤلؤة البحرين، ص7). فلهذا الشيخ قصيدة ذات قيمة رمزية مهمة، وتتضاعف هذه القيمة إذا عرفنا أن الشيخ سليمان توفي في العام (1121هـ/1709م) أي قبل استيلاء الأباضية على البحرين بثمانية أعوام، أي أنه ينتمي إلى «البحرين الأخرى» وإلى الزمن الذهبي القديم. أما المحيّر في هذه القصيدة (وهي من 60 بيتا، في: مخطوط أزهار الرياض للشيخ سليمان الماحوزي، ص217-219) فهو أن الشيخ سليمان يحثّ على الهجرة من البحرين، يقول:

انهض وحثّ اليعملات على السرى

واهجر محلّ الخسف يا أسد الشرى

وتجافَ صحـبة معشرٍ قد أطبقـوا

طرا على الشنعا وحبّـوا المنـكرا

لا تأسفنّ علـى فراقـهم فمـــا لك

في جوارهم سوى فصم العـرا

وتنطوي هذه القصيدة على ذم مقذع في أهل البحرين وأخلاقهم التي «لا يرتجى إصلاحها»، وطوافهم «حوال الظالمين»، و»استرسال أطماعهم» و»تبدّل أفهامهم» واتصافهم بالخداع ونكث العهود والخمول. بل إنه يرجع كل الهوان والتدمير الذي حلّ بالبحرين إلى ما اقترفته أيدي أهلها من قبيح الفعال، يقول:

ما ذاك إلا من قبيح فعالهم

حصدوا الذي زرعوا وهذا ما أرى» (البيت 33)

أما وجوده في البحرين فهو، في نظره، محض قدر، إلا أنه قدر غير ملزم على نحو أبدي، إذ بالإمكان الهجرة والرحيل، بل هذا هو الخيار الأجدر، وهنا يمثّل الشيخ سليمان مقلوب الشيخ حسين بن عبدالصمد، يقول:

قَدَرٌ أحلّك في أوالَ وإنني لأرى

اغترابك عن أوالٍ أجدرا (البيت 44)

هذه صورة «البحرين الأخرى» وأهلها في تصور الشيخ حسين بن عبدالصمد والشيخ سليمان الماحوزي. وبوضع هذه الحكاية والقصيدة إلى جوار نصوص المتأخرين ممن عاشوا تجربة الشتات وخراب البحرين أو من جاء بعدهم، سيتضح لنا حجم التحوّل الذي طرأ على هذه الصورة، وحجم التأثير الذي تسبب فيه الانطباع المتأخر الذي أسسته - في بادئ الأمر - نصوص المشتتين الأوائل ممن استفاقوا على وقع الشعور المتقد بالفقدان المبرم للوطن وانسجام الهوية، وهو ما صار شيعة البحرين المتأخرون يتعاملون معه كـ «حقيقة» لا تقبل المساءلة فضلا عن التشكيك. وللحديث صلة في الأسبوع المقبل.

إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"

العدد 1747 - الإثنين 18 يونيو 2007م الموافق 02 جمادى الآخرة 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً