العدد 1755 - الثلثاء 26 يونيو 2007م الموافق 10 جمادى الآخرة 1428هـ

ما بعد غزوة غزة هو الأخطر!

صلاح الدين حافظ comments [at] alwasatnews.com

العار... هي الكلمة الوحيدة المنطبقة على ما جرى ويجري في غزة، العار هو أن يذبح الأشقاء بعضهم بعضا، تصارعا على السلطة تحت رايات براقة وشعارات خادعة، تتحدث عن الديمقراطية والإسلام، عن الشرعية والدستورية، عن الأخلاق ومحاسن السلوك.

العار هو أن يتفق هابيل وقابيل معا، لأول مرة، على قتل أهلهم وتشريدهم واغتصاب حرياتهم وانتهاك خصوصياتهم، واستدعاء القوى الخارجية، بما فيها القوى المعادية، لنصرة جانب على حساب الآخر، ولوضع كلمة النهاية المأسوية، لقصة كفاح طويلة لشعب قاسى وعانى طلبا للحرية والاستقلال!

بعد أكثر من خمسين عاما من الكفاح، هاهو المشروع الوطني الفلسطيني، يرتطم بجذور انشقاقه بهذه الحدة ومن داخله، والمؤكد أن هذا المشروع القائم على أسس شرعية وواقعية وتاريخية، لم يعرف طوال مسيرته الشاقة، مثل هذا الانشقاق الدموي، الذي تورط في أتونه أهم فصيلين، هما: فتح وحماس، وبالتالي فإن الشرخ عميق والانشقاق شاذ والاقتتال مشبوه والنتائج كارثية ومأسوية.

ولسوء الحظ، بل لسوء التفكير والتدبير، فإن ما جرى بين فتح وحماس في فلسطين عموما، وفي غزة خصوصا، هو نتيجة مباشرة للصراع والانقسام العربي الشائع الضائع، بين معسكرين أو أكثر، معسكر المعتدلين المحافظين، ومعسكر المتشددين الثوريين أو المتمردين وفق التعابير الأميركية.

وبالمنطق نفسه فإن ما جرى بين فتح وحماس أخيرا، هو سبب إضافي لتعميق الانقسام العربي، ولإعادة ترتيب المعسكرين وحشد جهودهما لمزيد من الصراع.

ما جرى بين فتح وحماس، سبب ونتيجة في الوقت نفسه، من دون مواربة أو مناورة... وها نحن نرى الأطراف كافة تستغل كل ما جرى لاستنفار أسبابها وأسلحتها لتحقيق أهداف بعيدة عن حلم المشروع الوطني الفلسطيني، ولاقتناص مكسب من هنا أو مكافأة من هناك، بينما الضحية الوحيدة، هو شعب كامل لم يعد يعرف من أية تأتيه الضربات القاتلة!

ولعل من أخطر نتائج هذا الاقتتال الفلسطيني المشبوه، هو ما نراه اليوم من اصطفاف المعسكرين المتواجهين، خلف الفصيلين الفلسطينيين المتقاتلين، فثمة من يقف وراء فتح ورئيس السلطة الوطنية الفلسطينية محمود عباس، باسم مساندة الشرعية، وثمة من يقف خلف حماس وإسماعيل هنية رئيس الحكومة، حكومة ما يسمى الوحدة الوطنية، أيضا باسم الشرعية.

الشرعية هي السلاح المخادع الخاوي، الذي يحارب به كل طرف أصلي وكل طرف داعم ومساند، من دون أن يفسّر لنا معنى الشرعية، في ظل اقتتال دموي تمسكا بالسلطة، وصراعا على حكم لم تكتمل أركانه الشرعية الأصلية بعد، الكل تحت الاحتلال الصهيوني، يعاني إذلاله ومهاناته، فالأرض محتلة، والسلطة فاقدة لأركان شرعيتها من الأساس ؛لأنها تحت الاحتلال، والشعب فاقد لحريته واستقلاله بالتالي... فماذا بقى أو تحقق من المشروع الوطني الفلسطيني، الأرض محتلة، والسلطة شكلية، والشعب مشرد ضائع جائع!

فإن كان سلاح الشرعية قد سقط من بين أيدي فتح وحماس، أو السلطة في الضفة الغربية والحكومة في غزة، فإن سلاح الاحتماء بالقوى الخارجية لحسم الصراع، أو تأجيجه، يبدو الآن الأعلى صوتا، وإن كنا نعتقد أنه سيكون الأقل تأثيرا على المدى البعيد.

فلم يعد خافيا، إن السلطة الفلسطينية وفتح بقيادة محمود عباس، المحتمي برام الله، أصبحت أكثر التصاقا وأسرع التجاء إلى ما يسمى معسكر المعتدلين، في العالم العربي، ذلك المدعوم بالغرب الأوروبي الأميركي، المسنود بقوة من حكومة «إسرائيل» المهتزة الضعيفة، الباحثة عمن يدعمها في الأساس لتظل في السلطة، وها هي تسعى عبر معسكر المعتدلين، لمساندة وتعويم محمود عباس وسلطته، وفي أعماقها تستغل هذا الحدث المأسوي في الجانب الفلسطيني لتعويم إيهود أوالمرت وحكومته الهشة... غريق يستعين بغريق، وأعمى يقود أعمى في بحر الظلمات!

وفي المقابل، نرى حماس وحكومة هنية القابضة بقوة السلاح، وليس بقوة الشرعية على قطاع غزة، تسفر عن تحالفاتها على الجانب الآخر، وتستدعي دعم المعسكر الراديكالي، من الجماعات الإسلامية المتشددة إلى إيران زعيمة المواجهة مع الولايات المتحدة الأميركية خصوصا... ولم تكن الجماعات الإسلامية، المقاتلة منها والدعوية، لتترك فرصة اكتساح رفيقتها الكبرى (حماس) لغزة خلال ثماني وأربعين ساعة، تفلت من يدها، من دون أن تسارع إلى نجدتها بكل السبل المادية والمعنوية، فها هي البشرى تهب من غزة!

ولم تكن إيران تتقاعس عن اغتنام الفرصة والإمساك باللحظة النادرة هذه، لكي تدخل بقوة على الخط، دعما لحماس في الظاهر، ودعما لموقفها الصراعي مع الغرب الأوروبي الأميركي ومعسكر المعتدلين والمحافظين العرب، تأكيدا للعلاقة القوية بين حماس وطهران التي بنيت في هدوء حتى هبّت العاصفة لتخرج إلى العلن.

ولعلّ الهلع الحقيقي الذي أصاب حكومات ونظما عربيا وغربية وإسرائيلية، جرّاء انتصار حماس المفاجئ في غزة، يرجع إلى تلقي ضربة جديدة من الحركات والتيارات الإسلامية المتشددة، تلك التي تقاتل بشراسة في العراق مسنودة بإيران، وتصارع بقوة في لبنان، مسنودة أيضا بإيران، وها هي تحقق ما لم يحلم به أحد في غزة مسنودا بإيران أيضا وأيضا... فربما تكر المسبحة!

وبقدر ما يأخذ كثيرون، خصوصا من المعتدلين والمحافظين العرب، على حماس تحوّلها إلى مخلب لإيران في فلسطين وعلى حدود مصر، بقدر ما يرد أنصار حماس التهمة بتهمة مضادة لخصومها من أنصار للسلطة الفلسطينية بقيادة أبومازن، وهي أن هؤلاء أيضا عملاء للأميركيين وحلفاء للإسرائيليين وشركاء للمستبدين والفاسدين العرب... وكما أن الشرعية أصبحت بضاعة متنازع عليها فضاعت قيمتها ومعناها، فإن العمالة والخيانة أصبحت العملة المتداولة في ساحة الصراع على حساب الوطن والمواطنين، على حسابنا جميعا.

وعلى رغم اعترافنا بقوة تأثير القوى الإقليمية والدولية، في خلق أسباب، وترتيب نتائج الصراع الفلسطيني - الفلسطيني، وتخفيف صدامه مع المحتل الصهيوني، فإننا نعتبر أن لمصر دورا رئيسيا في هذا الصراع في هذه اللحظة المأسوية والمعركة الكارثية سارقة الحلم الفلسطيني والعربي.

فلسطين مسئولية أمن قومي مصري بالدرجة الأولى، في الماضي والحاضر والمستقبل، وغزة تحديدا مسئولية مصرية صميمة على الأقل بحكم الجوار الجغرافي اللصيق، وبقدر ما بذلت مصر من مجهودات وقدمت من تضحيات مادية وبشرية، في مسارات القضية الفلسطينية، عبر الماضي والحاضر، فإن مصر مطالبة اليوم أكثر من أي يوم آخر، وأكثر من أي طرف آخر، بلعب دور رئيسي وحاسم، غير دور الانحياز لطرف فلسطيني على حساب آخر، وغير دور تعويم رمز فلسطيني مقابل إغراق غيره.

دور مصر الحاسم المطلوب الآن، ليس مجرد دعم عباس باسم الشرعية، ومقاطعة حماس باسم فقدها الشرعية، وليس التنسيق مع أطراف عربية وإقليمية ودولية، لا ترغب إلا في تعميق الانقسام الفلسطيني الدموي حماية لـ «إسرائيل» وتعويما لأولمرة وبوش وباقي العصابة، لوكن دور مصر أن ترتقي فوق كل هؤلاء وأجنداتهم المشبوهة، لتعيد الصف الفلسطيني إلى سابق عهده من الوحدة والتماس وراء المشروع الوطني، بجوار القوة الناعمة، أو بحدة القوة الخشنة!

لقد كان لمصر جهودها في الحوار والتهدئة، قبل غزوة غزة، ولكن الجهد المطلوب الآن أبعد وأعمق من كل هذا، يبتعد بمسافة محسوبة عن الحسابات الضيقة لفتح وحماس، الحسابات الأكبر لإيران و»إسرائيل» وأميركا وأوروبا، وهو جهد غير متوافر من حيث القدرة والإمكان بل والمصلحة، لدولة أخرى، كما هو متوافر لمصر، التي لا يجب أن تستجيب لإغراءات بوش أو تلميحات أولمرت، أو تخويفات أحمدي نجاد أو لاستغاثات عباس واتهامات هنية، أو لدعوات المتطرفين بنفض يد مصر كليا وانسحابها من هذه الأزمة!

هذه لحظة حاسمة تنادي دورا مصريا رائدا حاسما في قضية صاخبة ملتهبة، إن قأقلقت الآخرين، فإنها تزعج مصر إزعاجا شديدا، لأنها ببساطة تقع على حدودها الشرقية... البوابة التاريخية لكل الحروب والغزوات التي هددت وحدتها وأمنها.

ولكم أن تتذكروا ما كتبناه في هذا المكان قبل شهور، عن المشروع الصهيوني المدعوم أميركيا، باستقطاع مساحة من سيناء المصرية، تصل إلى العريش، لتوسيع كانتون غزة، وترسيخا لتوطين اللاجئين الفلسطينيين، وتعميقا للشرخ الفلسطيني بين غزة والضفة الغربية، وكل منهما كانتون محاصر برا وبحرا وجوا، لا يقوى على البقاء والاستمرار... تنفيذا للحلم الإسرائيلي والحل الأميركي.

ثم لكم أن تتخيلوا إن لم تبادر مصر بدور مغاير، أن تظل غزة مختنقة تحت الحصار الإسرائيلي والتجويع الدولي وصراع الأشقاء المتناحرين، فإذا بها تقذف حممها البشرية بمئات الآلاف، تقتحم الحدود وتفرض أمرا واقعا جديدا داخل سيناء، لتقام فيها معسكرات جديدة للاجئين الهاربين من حصار الجوع والاقتتال العبثي!

ما بعد غزوة غزة، ليس أقل خطورة مما قبلها...

خير الكلام

قال عمرو بن كلثوم:

إذا ما الملكُ رام الناسَ خسفا

أبينا أن نُقر الخسفَ فينا

إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"

العدد 1755 - الثلثاء 26 يونيو 2007م الموافق 10 جمادى الآخرة 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً