العدد 1803 - الإثنين 13 أغسطس 2007م الموافق 29 رجب 1428هـ

شيعة القرى وايديولوجيا التضامن الجماعي

نادر كاظم comments [at] alwasatnews.com

.

يتحمّل ملف التجنيس والمخاوف الجماعية التي أثارها الوزرَ الأكبرَ في المآل الذي انتهت إليه سياسات الهوية عندنا، إلا أنه لا يسعنا هنا أن نتجنب هذا السؤال الذي لا يخلو من سذاجة والذي أشرنا إليه في مقال سابق، وهو: إذا كان النوع البشري غير مهدد بالانقراض حين تتحول جماعة ما إلى أقلية فما مبرر هذا الخوف إذا؟ أتصور أن دوافع هذا الخوف لا تكمن في الخوف الغريزي (أو توهّمه) من الانقراض الجماعي فحسب، بل إن هذا النوع من الخوف يضطلع بوظيفة مهمة وهي إيقاظ الشعور الطاغي بالهوية داخل الجماعة بحيث يصبح حضور الجماعة مركزيا لدى الأفراد المنضوين داخلها.

فإذا كان المرء يتعرّض للإساءة لا لشيء سوى أنه ينتمي إلى هذه الجماعة أو تلك، فإن النتيجة هي أن المرء يكرّس عضويته الأكيدة داخل الجماعة. والمثال البارز على هذه الظاهرة يتضح في «حالة اليهود الذين عاشوا في ألمانيا في الثلاثينات من القرن العشرين باعتبارهم ألمانا إلى أن تعرّضوا لمعاملة مشتركة من جانب المجتمع الألماني باعتبارهم يهودا، عندها تكرّست لديهم العقيدة اليهودية باعتبارها أساسا وحيدا لهويتهم» (القومية والعقلانية، ص40).

إلا أن المغفول عنه في هذه العملية أنها تقوم باختزال الأفراد إلى قيمتهم الكمية والعددية الصمّاء، بحيث لا يكون لهؤلاء من قيمة سوى كونهم أعضاء (وأعضاء فقط) في جماعة تتعرّض للإساءة. والحق أن هذا الاختزال مهمة مشتركة يضطلع بها نظام السلطة الذي يتقصد الإساءة إلى هذه الجماعة بعينها، وكذلك الجماعة ذاتها التي تحرص على الحفاظ على قيمة أفرادها العددية.

ثم هناك دوافعُ خفية أعمقُ من هذا الإيقاظ الذي ينطوي على الاختزال، وهذه الدوافع تتوسّل بإثارة الخوف الجماعي من الانقراض والفناء لمآرب أبعد مما نتصور. ويعود جزء مهم من هذه الدوافع إلى مسألة العدد والكمية. غير أن هذه المسألة الأخيرة تصبح هي مدار الصراع والتنافس، وذلك حين يكون عدد النفوس ذا قيمة إيجابية فيما يتعلق بتحصيل - وتثبيت - أسباب القوة المادية والرمزية، أو على الأقل التعبير الرمزي عن امتلاك هذه القوة.

فالجماعة التي تخشى من التحول إلى أقلية يُفترض أنها تتمتع بامتيازات خاصة تتحصل عليه لكونها تمثل الغالبية (أي الجماعة الأوفر عددا). وفي مثل هذه الحالة فإن تحول هذه الجماعة إلى أقلية لا يعني لها إلا شيئا واحدا، وهو التهديد بزوال هذه الامتيازات الخاصة التي تحصلت عليها لكونها غالبية.

فيا ترى هل لدى شيعة البحرين امتيازات خاصة تحصّلوا عليها لكونهم يمثّلون «غالبية سكان البحرين» كما يتصورون؟ وهل إن حرية إقامة الشعائر الدينية ومواكب العزاء التي يتمتع بها شيعة البحرين هي امتياز خاص تحصلوا عليه لكونهم «غالبية»؟

الجواب عن هذا السؤال صعب ومتشعب، إلا أن الثابت أن شيعة البحرين يتعاملون مع مواكب العزاء والاحتفالات الدينية على أنها مصدر مهم من مصادر «الهيبة» السياسية والاجتماعية. إلا أن هذا التعامل مشوب بخوف متجذر من تضييق محتمل قد تمارسه الدولة على هذه «الهيبة» وحرية إقامة الشعائر الدينية في أي وقت. ومما يعزز من وجاهة هذه النظرة المشوبة بالخوف أن هؤلاء يعرفون جيدا أن الشيعة في كل دول الخليج العربية لا يتمتعون بما يتمتعون هم به من حرية دينية في إقامة الشعائر وخصوصا في عشرة محرم (1-10 من شهر محرم الحرام)؛ والسبب من منظور هؤلاء يكمن في حقيقة أن الشيعة أقلية في هذه البلدان، على حين أنهم «غالبية» في البحرين.

والاستنتاج المنطقي من هذه المقارنة يعزّز الافتراض القائل بوجود تناسب طردي بين الحرية الدينية ونسبة الشيعة في كل بلد. فالشيعة يتوفرون على حريتهم الدينية في البلدان ذات الغالبية الشيعية مثل إيران والعراق ولبنان، على حين أن هذه الحرية مقيّدة في البلدان التي يوجد فيها الشيعة أقلية (بقية دول الخليج).

وعلى هذا، فإن الخوف من فقدان هذه الحرية هو أحد أهم الدوافع الخفية المهمة التي تحرّك خوف شيعة البحرين من تحولهم إلى أقلية. إلا أننا سنبيّن فيما بعد أن هذا الخوف يتأسس على معادلة مغلوطة؛ بدليل أن الغالبية الشيعية في العراق لم تكن تتمتع بالحرية الدينية إبان حكم نظام البعث؛ ما يعني أن الغالبية وحدها غير كافية لضمان الحرية الدينية.

ثم هناك امتياز آخر يرتبط بعدد الوزراء وأعضاء مجلس الشورى وشاغلي المناصب الرسمية العليا في الدولة. ولا ينبغي أن يغيب عن بالنا أن أهم امتياز تتحصل عليه أية جماعة تشعر أنها «غالبية» يتمثل في عدد النواب الذين سيصلون إلى مجلس النواب في حال صار الانتخاب حرا، وأصبحت أصوات الناخبين متعادلة في الوزن والقيمة. ثم أليس لافتا أن هذا الخوف لم يظهر لدى الشيعة إلا مع الانتخابات النيابية الأولى (2002) والثانية (2006)، وهذه الفترة هي التي يقول «النائب الوفاقي الشيخ حسن سلطان إن الحكومة أقدمت على منح أكثر من 38 ألف شخص الجنسية البحرينية فقط خلال فترة تقل عن أربع سنوات (منذ نهاية العام 2002 حتى نهاية العام 2006)»، وفي تصوره أن «الحكومة ضخت هذه الأعداد الهائلة بهدف تغيير الواقع الديمغرافي والتركيبة السكانية، إضافة إلى تعويم الجانب السياسي والانتخابي في البحرين» (صحيفة «الوسط»، العدد 1662، 26/3/2007، ص8)؟

يعبّر هذا الخوف الأخير عن خوف شائع بين الجماعات، وهو خوف يدور حول فقدان القوة وأسبابها، وعلى هذا فإن الخوف من تحول الشيعة إلى أقلية يعكس خوفا على فقدان ما تمثّله الكثرة و «الغالبية» من قوة مادية ورمزية. وعلى رغم أن وزير الداخلية صرّح بأن عدد الذين استوفوا الشروط والمتطلبات القانونية التي حددها قانون الجنسية البحرينية بلغ نحو 5 آلاف شخص، فإن القراءة الشيعية - ومن وراءها القراءة المعارضة عموما - مستمرة في تفسير إقدام الحكومة على تجنيس هذه الأعداد الهائلة على أنه رغبة في تغيير «التركيبة الديموغرافية» وخلق واقع انتخابي مصطنع وغير حقيقي ومضبوط سلفا وفق قسمة طائفية (شيعة/ سنة) وسياسية (معارضة/ موالاة). كما أنه يعكس الخوف الرسمي من مصادر القوة المتوافرة في أيدي الشيعة بحكم العدد والنسبة. أما الهدف الاستراتيجي فهو ضرب صدقية التشكيك الشيعي العام في مشروعية أية ديمقراطية تتأسس على التمييز ضدهم وهم «الغالبية». وبهذا القراءة يتواجه، من جديد، خوف الحكومة مع خوف الشيعة، ومدار هذه المواجهة هو العدد والنسبة بحسب القراءة السطحية، والقوة ومصادرها بحسب القراءة العميقة.

ومهما يكن مقصد الدولة الحقيقي من وراء التجنيس، فإن الثابت أن عمليات التجنيس الكبيرة ترسل رسائلَ سلبية إلى عموم المواطنين مضمونها أن «الدولة ترفضنا وتنحاز ضدنا». والأهم أن على الدولة أن تكون أكثر انفتاحا لتعرف أن قوة التشكيك في الشرعية لا تأتي من الغالبية فحسب، بل إن ظلم الأقليات والتمييز ضدها هو واحد من أكثر عوامل التشكيك في شرعية أية ديمقراطية، وعلى هذا فسواء تحوّل الشيعة إلى أقلية أو بقوا غالبية كما يعتقدون، فإن استمرار شعورهم بالمظلومية يعني استمرار التشكيك في الديمقراطية، وهذا يعني استمرار الحجاج الذي تشهره الجهات الدولية ومنظمات حقوق الإنسان في العالم.

ومع هذا، فإذا كان خسران الثقل التمثيلي في مجلس الوزراء والمناصب العليا ومجلس النواب يعني فقدان مصدر مهم من مصادر القوة، فالخوف من فقدان هامش الحرية الدينية يعبّر عن خوف متجذر من فقدان الهوية الثقافية؛ لأن هؤلاء يتعاملون مع شعائرهم الدينية على أنها بمثابة الحدود الرمزية والمادية التي ترسم مناطق نفوذ هذه الهوية وتضبط امتداداتها، وأكثر من هذا فإن حجم الشعائر في عاشوراء وهيبتها التي تتصاعد كل عام، كل هذا يمنح هؤلاء شعورا طالما افتقدوه وانتظروه وهو الشعور بالمكانة والقوة داخل الفضاء العام.

ومن هنا، فإن الخوف من فقدان هذه الشعائر يعكس الخوف على الهوية من الضياع والاضمحلال والاختلاط، وكذلك الخوف من فقدان ما تنطوي عليه هذه الشعائر من قوة. والحق أن بقاء جذوة هذا الخوف من الفناء الجماعي متقدة إنما هو جزء من آليات الجماعة من أجل الحفاظ على هويتها الثقافية، وبحسب إدوارد سعيد فإن شعور الجماعة بأنها مهددة بالفناء «لا يعني بقاء الذعر الجماعي مستعرا، وإنما يعني أيضا تعزيز هويتنا (نحن) وكأنها محاصرة ومعرضة للخطر» (صور المثقف، ص 45)، وأكثر من هذا فإن الشعور بأن شعبك مهدد بالفناء السياسي أو الفعلي يستثير «الهوية الدفاعية»؛ لأن هذا الشعور «يلزمك بالدفاع عنه - أي الشعب - وببذل أقصى طاقتك لحمايته، أو لمقابلة أعداء الأمة» (ص 52).

ونجح شيعة القرى من خلال إبقاء الذعر الجماعي مستعرا لا في حفظ هويتهم التي يمثّل الشعور بالضياع والشتات والمظلومية جزءا أساسيا منها فحسب، بل في توسيع حدودها من خلال إضافة شيعة المدن إلى تجربة الشتات والمظالم والتعديات الجماعية، على حين أن معظم هؤلاء لم يكونوا جزءا من هذه التجربة التي يتفرد بها شيعة القرى بالدرجة الأولى. فالثابت أن هؤلاء الأخيرين هم من ذاق مرارة المظالم والتعديات والسخرة، على حين «أن شيعة المنامة لم يتعرضوا إلى ما تعرض له أشقاؤهم الشيعة في المناطق الريفية. من جهة ثانية فهناك فئة من الشيعة حظيت بمعاملة أفضل من غيرها. وهذه الفئة تتكون من أهل الحرف بمن فيهم الصاغة والبنّاءون والحيّاكون والحدّادون الذين شجعهم الشيخ عيسى بن علي على الهجرة إلى البحرين من الجزيرة العربية واستقر معظم هؤلاء في جزيرة المحرق، العاصمة حينها، بالقرب من مقر الحاكم. وفي حين أنه يمكن فهم أسباب الحماية التي تتمتع بها شيعة المحرق وبخاصة الحرفيين منهم، فإن هناك عدة عوامل أخرى أسهمت في حماية شيعة المنامة. من أهم هذه العوامل الحماية التي قدمتها السلطات البريطانية أنها اعتبرت مواجهة احتمالات التدخّلات الفارسية والوهابية عن طريق المحافظة على الاستقرار والسلام في مقدمة اهتماماتها» (بناء الدولة في البحرين، ص 19-20).

لم يكن شيعة المنامة جزءا من تجربة المظالم والتعديات وأعمال السخرة كما هي حال شيعة القرى، كما لم يكن الشيعة الحرفيون في المحرق جزءا من هذه التجربة حتى من تجربة الشتات الهائل والخراب العظيم الذي ضرب البحرين منذ القرن الثامنَ عشرَ. ولهذا كان لشيعة القرى معاناة متفردة بين هؤلاء، ولأجل هذا اختصوا بتسمية «حلايل» دون شيعة المنامة والمحرق، وهي تسمية ازدرائية ذات دلالة دونية بغيضة، ويرجّح أنها تعود إلى أيام الهجمات الأباضية المدمّرة حيث كان هؤلاء يستحلون دم الشيعة البحرينيين بدافع التعصب المذهبي والتنافس الإقليمي مع الدولة الصفوية آنذاك، فصار هؤلاء «حلائل» وخُفّفت الكلمة بتسهيل الهمزة فصارت «حلايل». وإن كان هناك من يذهب إلى أن هذه التسمية مشتقة من كلمة «حِلّة» بمعنى «محلة» كما في أسماء بعض القرى والمناطق في البحرين مثل «حلة عبدالصالح»، و «أغلب الظن أن (حلايلي) مشتقة من حلة اشتقاقا عاميا على غير قياس بمعنى ساكن (الحلة) أو (الحالة) أو القرية».

وبعيدا عن هذه الظنون، فإنه من المؤكد أن شيعة المنامة والمحرق مندمجون اليوم مع شيعة القرى في تمثّل هذه التجربة لا جزءا من تجربة ماضية خبرها شيعة القرى ممن وُجِدوا هناك في القرنين الثامنَ عشرَ والتاسعَ عشرَ، بل جزءا من هويتهم الثقافية المعذّبة والمهددة، كما يتصورون دائما، بالفناء والانقطاع! ولعبت شعائر عاشوراء - التي كانت المنامة مركز إقامتها منذ العشرينات - دورا كبيرا في تعميق شعور هؤلاء بالانتماء إلى جماعة متميزة، وفي تعزيز التضامن الجماعي الذي يفضي بهم إلى الشعور بحال «من الوحدة الوجدانية» التي تؤسس لـ «بنيان جماعي متراص». والحق أن هذا الشعور بحد ذاته ينطوي على خوف متجذر من التفكك والاضمحلال والتمزق والاختلاط بالآخرين أو الذوبان في نسيج هوياتهم. وهذا خوف تتحرر منه الجماعات القوية التي لا تشعر بالتهديد من قِبل الآخرين؛ ما يجعلها تتعامل بلامبالاة وبلا اكتراث مبالغ فيه بوحدتها وتراص بنيانها وتضامن أعضائها، أو على الأقل فإنها لا تعرف انتعاشا لأيديولوجيا التضامن الجماعي، ولا خوفا مَرَضيا على وحدتها كالذي ينتاب الجماعات المهددة.

وعلى سبيل المثال فإن شيعة إيران أقل اكتراثا بهويتهم الشيعية إذا ما قيسوا بشيعة البحرين والعراق والمنطقة الشرقية بالمملكة العربية السعودية. كما أن أتراك تركيا أقل اكتراثا بهويتهم التركية إذا ما قيسوا بتركمان العراق وإيران. والصينيون داخل الصين أقل اكتراثا بهويتهم الصينية إذا ما قيسوا بالأقليات والجاليات الصينية المنتشرة في دول جنوب شرق آسيا. والكنديون المتحدثون باللغة الإنجليزية أقل اكتراثا بهويتهم وتضامنهم الجماعي إذا ما قيسوا بأهالي كوبيك الفرنسيين، وبحسب ستيفان ديون فإن الذي بعث الشعور القومي في الحركة الانفصالية في كوبيك هو «هشاشة اللغة الفرنسية في أمريكا الشمالية»، ومن هذه الهشاشة «ينبع خوفهم من التلاشي والاضمحلال كجماعة عرقية متحدثة بالفرنسية» (القومية والعقلانية، ص 213). وهذه حال معظم الجماعات التي يستبد بها شعور مزمن بالهشاشة.

إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"

العدد 1803 - الإثنين 13 أغسطس 2007م الموافق 29 رجب 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً