العدد 1815 - السبت 25 أغسطس 2007م الموافق 11 شعبان 1428هـ

واشنطن والتعايش مع «الصداع الإيراني»

محمد صادق الحسيني comments [at] alwasatnews.com

أن تتفق طهران والوكالة الدولية للطافة الذرية على إطار زمني محدد لفك «الغموض» الذي يلف الملف النووي الإيراني، كما يقول «المجتمع الدولي» المحفز أميركيا طبعا ضد كل ما هو سلوك إيراني يغرد خارج السرب! يفترض أن يلقى ترحيبا حارا من قبل «رعاة» هذا المجتمع الدولي والأهم من ذلك أن يعطى الفرصة الكافية ليجرب حظه العملي كما هو معلن من قبل الطرفين اللذين اجتمعا في طهران في الجولة الثالثة من محادثات مضنية وصعبة لكنها شفافة وجدية ومثمرة وبناءة بكل المقاييس وخصوصا بمقياس ومعيار الوكالة الدولية نفسها صاحبة المرجعية القانونية التي لم تخف سرورها بالإنجاز الكبير الذي حققته كما جاء في تصريحات مساعد محمد البرادعي في العاصمة الإيرانية طهران أواسط الأسبوع الماضي.

لكن السؤال الذي حير المراقبين هو رد الفعل الأميركي المشكك والمتسرع على الاتفاق والذي ترافق مع الاستمرار في تهديد طهران وإعلان واشنطن الصريح في أنها ماضية قدما في العمل على إقرار الوجبة الثالثة من العقوبات المشددة ضد إيران عبر مجلس الأمن الدولي!

غير أن العارفين ببعض خفايا الأمور ومن بينهم مؤسسات غربية باتت تفصح عن قراءاتها علنا كما حصل أخيرا في تقرير نشرته هيئة الإذاعة البريطانية، باتوا يجمعون على أن الإدارة الأميركية الراهتة وبما أنها عاجزة عن التفرغ تماما للنزاع مع طهران وعاجزة أيضا عن حسم هذا النزاع الذي بات يشكل بالنسبة لها بمثابة «الصداع المزمن» الذي لا تعرف له دواء ناجعا لا بالسياسة ولا بالعسكر! فإنها قررت التعايش معه من خلال تحويله إلى «صداع مضاد» يؤرق النظام الإيراني ومن ثم ترحيله إلى الإدارة الأميركية المقبلة!

وعليه فإن المهمة الوحيدة المتبقية عمليا أمام الإدارة الأميركية الراهنة هي وضع العصي في دواليب أية عربة تحمل الحل المفترض لهذا الملف من أية جهة كانت حتى وإن أتت من جهة يفترض بها أن تكون صديقة أو مطيعة أو على الأقل ليس في نيتها التمرد على القرار الأميركي أو التغريد خارج سربة! والدليل على ذلك هو عدم اقترابها من الملف النووي الإسرائيلي على رغم مخالفته الصريحة والوقحة لكل المعايير الدولية وعلى رغم كونه واحدا من أهم دواعي القلق والشك والارتياب الذي يحيط بأي مشروع نووي إقليمي بالمطلق.

إن واشنطن تعرف قبل غيرها بل وأكثر من أي طرف آخر بأن العقوبات على نظام من مثل نظام طهران الحالي لن يثنيه أولا عن المضي في مشروعاته، وثانيا وهو الأهم بأن نظام طهران الحالي إنما آل إلى ما آل إليه اليوم، ما كان ذلك ليحصل إلا في ظل الحصار الأميركي المتواصل منذ ثلاثة عقود وهو الذي حفز كل الطاقات المحلية من جهة وأجج من جهة أخرى روح الوطنية الإيرانية المتحدة ضد كل ما هو تهديد خارجي وأجنبي، وأفسح المجال لقيام قومية إيرانية قل نظيرها في التاريخ الإيراني الحديث!

ولما كان بالإمكان أنها اكتشفت خطأها متأخرة تجاه طهران وأنه بات من الصعب بمكان أن تعيد عقارب الساعة إلى الوراء ولما كان الحل الوحيد المتاح أمامها كما قلنا هو أن تتعايش مع هذا «الصداع المزمن» فإنه يصبح من الطبيعي لإدارة مدججة بالغرور مثل إدارة المحافظين الجدد ليس فقط أن تنقل هذا «الصداع» إلى الطرف الآخر الذي غدا بمثابة خصمها اللدود الذي يلاحقها كالظل بل وتعممه على كل فضاءات المجتمع الدولي وذلك من باب «عليّ وعلى أعدائي يا رب» وكذلك كمن «أخذته العزة بالإثم»! وهو ما يعني الإصرار على إبقاء هذا الملف مفتوحا وأن لا يتجرأ أحد على بلورة حل نهائي له أو إسدال الستارعليه لأن إسدال الستار على ملف كهذا لا يمكن أن يكون لمصلحة إدارة متورطة في كذبة لاتزال تعيش تداعياتها الخطيرة وهي كذبة أسلحة الدمار الشامل العراقية من جهة وخسران أكيد لقضية مزاعمها المتواصلة ضد طهران والتي ليس فقط لم تؤكدها حتى الآن أية جهة دولية معتبرة لاسيما المعنية بهذا الملف أي الوكالة الدولية للطاقة الذرية ما سيكشف عمليا فساد هذه الإدارة سياسيا ومعنويا وأخلاقيا وانكشاف تورطها في لعبة الأمم الاستخباراتية الشهيرة التي لا تعتمد إلا على حثالات الأقوام والشعوب من بؤساء ما يسمون بمعارضات الخارج الذين يتسكعون على أبواب أجهزة المخابرات الدولية لتوفير فرص عمل لطلاب الحروب كما حصل للعراق الجريح والمستباح!

وعليه يبدو أن العالم يتجه من جديد إلى فصل آخر من فصول المواجهة الإعلامية والدعائية والاستخبارية والدبلوماسية والحرب النفسية الباردة والساخنة بين واشنطن وطهران بدل إسدال الستار على ملفها النووي كما تريد وتفضل إرادة ما يسمى بالمجتمع الدولي المغلوب على أمره والمصادر قراره على مايبدو حتى إشعار آخر أو حتى إنتهاء ولاية المحافظين الجدد الثانية، اللهم إلا إذا ما تجرأت بعض أطراف هذا المجتمع الدولي وتمردت على الإدارة والإرادة الأميركية وقررت فرض أجندة الوكالة الدولية للطاقة الذرية وتغليبها على أجندة بوش الاستفزازية والابتزازية!

ونقول استفزازية وابتزازية لأن المعلومات المتوافرة والمتاحة من زاوية أخرى من زوايا الصراع بين واشنطن وطهران تفيد بأن إدارة بوش التي تتفاوض مع طهران بشأن مستقبل الأمن والاستقرار في العراق بشكل مباشر ومع دمشق وطهران بشكل غير مباشر عن لبنان وفلسطين، إنما تصعد في الملف النووي فإن إحدى عينيها على بغداد التي تريد الخروج من ورطتها بأقل الخسائر وببعض ما تبقى من ماء الوجه في إطار ما بات يعرف باستراتيجية «الخروج المشرف» التي يوصي بها يوميا كبار ما تبقى من عقلاء أميركا، فيما عينها الآخرى على بلاد الشام حيث يتآكل مشروعها «الشرق أوسطي الجديد» ويتحلل حلفاؤها في بوتقة الانصهار التوافقي الإسلامي - المسيحي والسني - الشيعي على حساب مشروعات الفتن الطائفية والمذهبية المتنقلة التي كانت تحلم بها قبل أن تغرق في أعماق المستنقع العراقي الغميق والرمال الأفغانية المتحركة!

تبقى المهمة الكبرى الملقاة على ما يسمى بالمجتمع الدولي وفيما إذا كان راضيا على هذا السلوك الأميركي المتعنت وبالتالي القابل بأن يتعايش مع «صداع مزمن» أقل ما يقال عنه أن أميركا لا تريد أن تجد الدواء اللازم له إن لم نقل أنها العامل الأساسي وراء ظهوره في منطقتنا، سواء من خلال إصرارها على فرض صيغ للحل بعينها من دون غيرها أو تجاهلها لمطالبات أهل المنطقة وسائر شعوب العالم بالتخلي عن مطامعها الحربية والاستعمارية على حساب التنمية الإنسانية والشاملة أو من خلال تغافلها عن الخطر الجدي والكبير الذي تشكله دويلة الكيان الصهيوني الغاصبة لحقوق فلسطين والفلسطينيين والقلق الدائم والداهم الذي تشكله لأمن المنطقة والعالم من خلال ترسانتها النووية القاتلة والتي تشكل بالنسبة لنا نحن سكان هذه المنطقة الأصليين الصداع الحقيقي الدائم الذي لانريد التعايش معه ولا تعميمه بالمناسبة على الآخرين كما فعل ويفعل غيرنا عندما نقله إلينا أواسط القرن الماضي على خلفية المسألة اليهودية في أوروبا ويريد اليوم إجبارنا على التعايش معه على خلفية مزاعم باطلة ثبت بطلان الجزء الأول منها في العراق، وإذا ما تركت المبادرة لعقلاء العالم وسكان المنطقة الأصليين فإن الجزء الخاص بطهران سيبطل أيضا لا محالة!

إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"

العدد 1815 - السبت 25 أغسطس 2007م الموافق 11 شعبان 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً