العدد 1838 - الإثنين 17 سبتمبر 2007م الموافق 05 رمضان 1428هـ

استعمال الذاكرة في المجتمعات التعددية

نادر كاظم comments [at] alwasatnews.com

.

تمثل سلسلة المقالات السابقة، ولاعتبارات عديدة، استمرارا لكتابي الأخير «طبائع الاستملاك». وعلى رغم أنّ إشكالية الاستملاك ليست حاضرة بقوة هنا، إلا أنّ المقالات تندرج في جهد تحليلي يصب في النهاية في تقديم قراءة في الأمراض والعيوب الجماعية السياسية والثقافية التي تهيمن على الحالة البحرينية.

لقد مثل الصراع الجماعي على مجال الدولة العام عائقا أمام بناء التوافق داخل الدولة. إلاّ أنّ الصراع الجماعي لا ينحصر داخل مجال الدولة العام، كما أنّ الأمراض ليست مقصورة على نوازع الاستملاك الجماعي وطبائعه، بل ثمة أمراض أخرى مختلفة إلاّ أنها تقع في دائرة قريبة من هذه الأخيرة، وتمثل، مثلها مثل سابقتها، عائقا أمام إنجاز التوافق داخل الدولة، والتعايش السمح بين الجماعات. وهذه الأمراض هي «أمراض التذكُّر» التي تتكشف أعراضها من خلال «استعمال الذاكرة» واستغلالها وتوظيفها أيديولوجيا وسياسيا، الأمر الذي يعرّض فعل التواصل الجماعي لمزيد من الشقاق والتنازع. وإذا كان استملاك المجال العام يجري بضغط من دوافع شبه غريزية من قبيل طبائع الأنانية والجشع والطمع، فإنّ استعمال الذاكرة يجري في دائرة الوعي وبملء الإرادة. فنحن على وعي حين نقرر استحضار التاريخ واستخدام وقائع الماضي من أجل خدمة مصالح سياسية أو مآرب أيديولوجية. وإنْ كان هناك حالات تذكر مدفوعة بحنين عارم يصعب تفسيره عقلانيا؛ لأنه يفلت من دائرة الوعي.

يمكن للذاكرة أنْ تكون موضوعا للاستملاك، وذلك حينما تكون هذه الذاكرة مشتركة بين الجميع، مما يسمح بتنشيط «طبائع الاستملاك» بحيث تعمد جماعة ما إلى احتكار هذه الذاكرة ووضعها تحت نفوذ ملكيتها الخاصة. يحدث هذا حين تتألف أمّة ما، من مجموعة من الجماعات، وحين ترجع هذه الأمّة إلى تاريخ مشترك. إلاّ أنّ المجتمعات ذات التعددية الثقافية ليست مبتلاة بهذا النوع من المعضلات بالدرجة الأولى، بحكم أنّ لكل جماعة من هذه الجماعات تاريخها الخاص وذاكرتها الجماعية التي لا تتطابق مع ذاكرة الآخرين بالضرورة. مما يعني أنّ هناك أكثر من ذاكرة، وأكثر من تحبيك للتاريخ، ونسخا وروايات وسرديات متعددة لماضٍ ربما كان مشتركا ومتواشجا، وربما كان ذات مسارات مستقلة. وفي هذه الحالة لا يوجد ذاكرة مشتركة ليجري احتكارها دون الآخرين، بل لكل جماعة ذاكرتها الخاصة التي تمتلكها هي من دون تنازع مع الآخرين، وإنْ كان التنازع على حدود الذاكرة ونطاقها أمرا واردا، وعادة ما يجري التعبير عن هذا التنازع في صورة السطو والسرقة حيث تقوم جماعة ما، بالتطاول على محتويات ذاكرة الآخرين وسرقة ما ليس لها منها.

وعلى رغم أنّ التنازع حول الذاكرة، وحدودها وما ينتمي إليها وما لا ينتمي، أمر وارد، إلا أنه محدود؛ لأنّ التنازع عادة ما يستثار، كما أوضحنا في كتاب «طبائع الاستملاك»، حول استملاك ما هو عام ومشترك بين الجميع. وبما أنّ الذاكرة، في المجتمعات ذات التعددية الثقافية، شأن خاص بكلّ جماعة، فمن المتوقع ألا يكون استملاك الذاكرة هو مدار التنازع بين الجماعات، بل يرجع أصل التنازع بين هذه الجماعات إلى استعمالات الذاكرة وسياسات التذكّر وسياقاته وفضائه العام الذي يجري احتكاره ليجري بعد ذلك تحديد ما يسمح بتذكره، وما لا يسمح لفعل التذكر أنْ يمتد إليه. وترتبط بهذه المعضلة معضلة أخرى كثيرا ما تواجه الدول ذات التعددية الثقافية، وهي ذاكرة الدولة الموحّدة وانتخاب «ذاكرة وطنية رسمية».

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، هو: هل يمكن لدولة ذات تعددية ثقافية أنْ تنتخب لنفسها «ذاكرة رسمية»، وأنْ تفرض على الجميع «تاريخا رسميا للوطن» بقوة الترهيب المكشوف أو بقوة القانون وما ينطوي عليه من عنف خفيّ وناعم؟ بالطبع، هذا ممكن، إلا أننا ينبغي أنْ نميّز بين ما هو ممكن، وبين ما هو خيّر أو جيّد أو جائز أو مشروع أخلاقيا. ثم ماذا يعني «التاريخ الرسمي» في دولة ذات تعددية ثقافية وتنطوي على جملة من الذاكرات والتحبيكات التاريخية الجماعية؟ المعنى الوحيد لهذا التاريخ هو التذكير بدوام فعل الهيمنة وممارسة القوة والإخضاع بحيث يجري انتخاب ذاكرة جماعة بعينها ودفعها إلى الواجهة لتكون هي «الذاكرة الوطنية» والتاريخ الرسمي للوطن. والحصيلة من وراء ذلك أن ذاكرات بقية الجماعات يتم إقصاؤها وتهميشها وحتى تصفيتها ومحوها لصالح هذا «التاريخ الرسمي» المفروض على الجميع. ولأن هؤلاء الأخيرين لا يتنازلون، في الغالب، عن ذاكرتهم الخاصة بهذه السهولة، فإنّ سيرورة الإخضاع وفرض الذاكرة الرسمية بالقوة عادة ما تنتهي إلى الصراع المحتدم والتنازع الذي يستمد قوته من شعور الجماعات المهمّشة بأن تاريخها مهمّش، وأنّ ماضيها يتعرّض للإبادة والتصفية.

ولكن، ما المخرج من دورة التنازع هذه؟ هناك بديل يستمد مشروعيته من خيار العلمنة، على أنْ يجري سحب مستلزمات هذا الخيار من مجال الانتماء الديني والعرقي والثقافي إلى مجال الذاكرة. فإذا كانت العلمنة تعني أنْ تبقى الدولة حيادية تجاه انتماءات مواطنيها الدينية والثقافية، فإنّ هذا يستلزم بالضرورة أنْ تبقى الدولة حيادية تجاه تواريخ هؤلاء المواطنين وذاكرتهم الجماعية. وإذا تمت المصادقة على هذه الحجة فسوف يكون البديل العلماني المقترح لهذه الدولة هو أن تكون «دولة بلا ذاكرة»، دولة مصابة بفقدان كلي للذاكرة، دولة مؤسسة على النسيان؛ لأن النسيان أهون من التذكر الانتقائي والإقصائي والإخضاعي.

ويكتسب هذا النموذج جاذبيته في المجتمعات التعددية من كونه يمثل حماية للسلم العام، كما أنه يمنح الجماعات الضعيفة والمهمشة مكاسب ثمينة تضمن عدم طغيان الجماعات القوية والمهيمنة التي عادة ما تقوم بفرض ذاكرتها الخاصة على أنها تاريخ الدولة العام والرسمي.

وعلى هذا، سيكون أمام هذه المجتمعات خياران هما: 1- دولة بلا ذاكرة، و2- دولة بذاكرة مؤسسة على الإخضاع والإقصاء لتواريخ الآخرين. وإذا كان لا بد من الترجيح بين هذين النموذجين فإن المرء المنصف يميل إلى ترجيح النموذج الأول؛ لأنه أهون شرّا من الثاني. إلا أن هناك نموذجا ثالثا متاحا أمام هذا النوع من الدول، وهو 3- أن تكون للدولة ذاكرة، إلا أنها ذاكرة التنوع الذي يَسِم هذه المجتمعات التعددية. فإذا كان لا بد من ذاكرة للدولة فلتكن هذه الذاكرة هي ذاكرة التنوع الذي بنى الدولة، ومنحها تميّزها. وعندئذٍ سيكون «التاريخ الوطني» عبارة عن مجموعة من ذاكرات الجماعات التي أسست الوطن، ومنحته وحدته المتنوعة طوال تاريخ تكوّنه. وللحديث صلة في الأسبوع المقبل.

إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"

العدد 1838 - الإثنين 17 سبتمبر 2007م الموافق 05 رمضان 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً