العدد 1846 - الثلثاء 25 سبتمبر 2007م الموافق 13 رمضان 1428هـ

الفساد واستعادة الأموال المنهوبة

صلاح الدين حافظ comments [at] alwasatnews.com

عندي حساسية شديدة من البنك الدولي، كلما ذكر أسمه أتحسس مسدسي، وتتدفق الدماء في شراييني ثائرة غاضبة...

والحساسية ليست مصطنعة، لكنها ناجمة عن تجارب البنك السوداء، خصوصا مع الشعوب الفقيرة والدول الصغيرة النامية، فعبر أكثر من ثلاثين عاما على الأقل، مارس البنك الدولي، وهو الذراع الطويلة الحيل الرأسمالية الكبرى، وصايته وقدم توصياته لناء ولأمثالنا، انطلاقا من فكرة أساسية هي تطويع اقتصاد الدول الصغيرة والفقيرة لصالح اقتصاد الدول الصناعية الرأسمالية الكبرى بقيادة الولايات المتحدة الأميركية.

وهذا التطويع استدعى فرض روشتة شبه ثابتة علينا قوامها الخصخصة واقتصاد السوق وإعادة الهيكلة وبيع أصول الدولة، بما في ذلك البنوك الوطنية والصناعات الإستراتيجية والموانئ والمطارات والطرق، وفي النهاية رفع يد الدولة تماما عن النشاط الاقتصادي، بحجة الاندماج في الاقتصاد الدولي...

وهذه روشتة سياسية أكثر منها اقتصادية، لم تثمر حتى الآن تحقيق الوعد الخيالي بارتقاء معيشة وازدهار الحياة الاقتصادية وتخفيف الاحتقانات الاجتماعية، بل ما حدث هو العكس مرة أخرى حتى الآن على الأقل، على رغم مضي السنوات وانقضاء العقود.

ما أصابنا من وصايا البنك الدولي ورفيقه صندوق النقد الدولي، ومن توصيات الدول الرأسمالية الكبرى، هو المزيد من الفقر، بل هو الافقار المتزايد، وهو البطالة والجوع والاحتقان الاقتصادي الاجتماعي، المولد للغضب والتمرد والطرف... بل الضامن الرسمي لتحالف الاستبداد والفساد!

لكن البنك الدولي، محتميا بمظلة الأمم المتحدة، حاول الأسبوع الماضي، تحسين سمعته وتلميع صورته السيئة لدى أمثالنا، حين أطلق مبادرة جديدة وجريئة، لاستعادة الأموال المنهوبة من الدول الفقيرة، والتي سرقها الحكام الفاسدون والمهربون، وأودعوها في بنوك الدول الصناعية الغربية، لتكون خصما من ثروة الفقراء، ورصيدا متزايدا للأغنياء، وتكون للنهابين سندا آمنا في ملاذ آمن، عند إخراجهم من السلطة، أو هروبهم أيهما أسرع!

تجاه هذه المبادرة لم أستطع إلا أن أغمد مسدسي وأبتسم في وجه خطوة البنك الدولي، وأوافق على قول رئيسه الأميركي «روبرت زوليك»، لا يجب أن يكون هناك أي ملاذ آمن لمن يسرقون الفقراء، ولا يجب أن يفلت الحكام الفاسدون من حكم القانون.

حسنا هذه بداية جيدة لمبادرة دولية نادرة، نرجو ألا توظف سياسيا لصالح السياسات الكونية، وألا تتراجع غدا أو بعد غد، وفق بوصلة هذه السياسات وخصوصا الأميركية، كما تراجعت وتغيرت المبادرات الأميركية للإصلاح الديمقراطي إياها!

بداية نذكر أن الأمم المتحدة اعتمدت المعاهدة الدولية لمكافحة الفساد، ودخلت حيز التطبيق منذ ديسمبر/كانون الاول 2005، وقد سبق أن كتبنا عنها وعن المسئولية الدولية لمكافحة الفساد المستشري خصوصا في دولنا الفقيرة، المتحالف بالضرورة مع الاستبداد، وبهما معا تقهر إرادة الشعوب وتكبت حرياتها وتسرق أموالها وتهرب لتودع في بنوك الملاذات الآمنة في الغرب السعيد ليزداد اقتصاده أزدهارا وسعادة!

ولذلك فإن لنا مصلحة مباشرة وحيوية في مساندة معاهدة مكافحة الفساد، ومبادرة استعادة الأموال المنهوبة من ثرواتنا، مثلما لنا مصلحة في تقويض السند المالي الذي يستغله الاستبداد لمزيد من التوحش.

يقول تقرير البنك الدولي على لسان رئيسه، إن الفساد في الدول الإفريقية مثلا، يلتهم سنويا نحو 25 في المئة أي ربع الناتج المحلي الإجمالي، بما يساوي 148 مليار دولار، بينها 20 إلى 40 مليارا رشاوى للحكام والمسئولين، ويضيف التقرير إن ما بين تريليون دولار إلى 1.6 تريليون دولار يتم تهريبها عبر خارج الحدود سنويا من نشاطات مالية وتجارية غير مشروعة.

ولنا أن نتصور لو بقيت هذه الأموال لتستثمر في صالح أصحابها من الشعوب الفقيرة المنهوبة، لما عانت من الفقر والمجاعات والأوبئة والصراعات والحروب والهجرات غير الشرعية طلبا لحياة أفضل. مثلما لنا أن نتفهم لماذا لا يحدث النهب المنظم والسرقة غير المنظمة للثروات، إلا في الدول التي على شاكلتنا بينما لا يحدث هذا بالحجم الهائل في الدول الغربية... والإجابة أن في الغرب وخصوصا في الدول الديمقراطية، هناك حرية رأي وصحافة، وهناك آليات للمحاسبة والمساءلة والمراقبة لتصرفات الحكام والمسئولين، وهي أمور نفتقر إليها وفق القواعد السليمة!

ولعل ذلك يعود أساسا إلى غياب مبدأ الشفافية والمصارحة والمكاشفة، خصوصا فيما يتعلق بمصادر الثروة الوطنية، سواء كانت طبيعية مثل النفط، أو إنتاجية مثل الصناعة والزراعة، وكذلك غموض الأرقام الحقيقية للموازنات والانفاق وبنوده، وخصوصا في التعاملات الخارجية والنفقات الأمنية والصفقات الكبرى، التي تتم أحيانا بين رؤوس كبيرة، لكي توقعها الأيدي الصغيرة، وفيما بين هذه وذلك تجرى العمولات التي تودع في بنوك الملاذات الآمنة.

وفي غياب الشفافية والمصارحة، والمساءلة والمحاسبة، بمعنى غيار نظم ديمقراطية حقيقية، تبرزنتيجتان، الأولى تتمثل في توحش تحالف الفساد والاستبداد مسنودا بقوة المال وسلطة الحكم، ومدعوما بجماعات المصالح ومراكز الضغط مثل رجال الأعمال الراغبين في الكسب السريع وتهريب أرباحهم إلى بنوك الملاذات الآمنة أسوة بكبرائهم.

أما النتيجة الثانية، فتتمثل في تراجع الاقتصاد الوطني والشرعي، لصالح ازدهار «الاقتصاد الأسود»، الذي يعرفه الخبراء بأنه اقتصاد العمولات والصفقات السرية، وتجارة الأسلحة والمخدرات وغسيل الأموال والدعارة والتهريب وتجارة البشر ونهب الديون من البنوك، وهو اقتصاد هائل لا يستطيع أحد ولا حتى البنك الدولي، تقدير حجم أمواله ولا رصد حركتها وسرعة انتقالها، لكن المؤكد أنها في معظمها تبيت آخر المطاف، بعد الغسيل والتنظيف، في بنوك الملاذات الآمنة بالغرب!

ومن الغرب الذي ينعم بقوائض ثرواتنا وأرصدة أموالنا المنهوبة على أيدي تحالف الفساد والاستبداد، صدر في يوليو/ تموز 2007، التقرير السنوي للشفافية، عن مؤسسة الشفافية الدولية، ليفضح حجم الفساد والثروات المنهوبة من أفواه شعوبنا الفقيرة، ويكفي أن نعرف موقع بعض بلادنا العربية من ترتيب جدول الفساد ومقياس الشفافية في دول العالم كله!

يقول التقرير الدولي، إن دولة الإمارات العربية تظهر في الترتيب كأول دول عربية برقم 31، ثم قطر 32 والبحرين 36 والأردن 40، وتونس 51، ومصر 70، والسعودية 70 وسورية 93، والمغرب 79، والجزائر 84، وليبيا 105، واليمن 111 والسودان 156 والعراق 160، علما بأن أخر دولة في هذا المقياس الدولي هي هيايتي بترتيب 163، بينما احتلت فنلندا المركز الأول مع أيسلندا ونيوزيلندا، في الشفافية ومحاربة الفساد.

ماذا يعني هذا كله؟!

يعنى أن غياب الديمقراطية وآلياتها في المحاسبة والشفافية والمصارحة والمساءلة. قد تركت شعوبنا أسيرة لتحالف الفقر والقهر، تحالف الفساد والاستبداد، بينما تسربت الثروات الوطنية عينيا وماليا إلى بنوك الغرب تستثمر فيها آمنة، ولا تستثمر في أرضها أزدراء لشعوبها الفقيرة المقهورة.

ويعنى أن مبادرة البنك الدولي الجديدة، الهادفة لاستعادة الأموال المنهوبة، وإعادتها إلى أصحابها الشرعيين من ملاذاتها الآمنة بالغرب، مبادرة مشجعة مبشرة بالأمل، لو استمرت جادة مستقيمة متحررة من ضغوط الحكومات الغربية، ومن ضغوط الحكام المستبدين مهربي ثروات شعوبهم.

ويعنى أن تاريخ الكفاح الوطني للشعوب المقهورة المسلوبة المنهوبة، لن تنسى مبادراتها الأولى في استعادة ثرواتها وأموالها المنهوبة، وخصوصا مبادرة محمد مصدق بتأميم بترول إيران في بداية خمسينات القرن الماضي، ومبادرة جمال عبدالناصر في تأميم قناة السويس العام 1956، وأخيرا مبادرة روبرت موجابي في تأميم المزارع الهائلة في زامبيا واستعادتها من أيدي المستعمرين الأوروبيين وتمليكها للفقراء.

لقد هاجمت الدوائر الاستعمارية الغربية وعملاؤها المحليون، هذه المبادرات الوطنية الهادفة لإيقاف نهب الثروات الوطنية، لكنها عادت اليوم تتحدث عن أساليب أخرى لاستعادة الأموال المسروقة والمنهوبة من الشعوب، فهل أفاق ضميرها من غفوته الاستغلالية الطويلة، أم أنها تستخدم الحكاية كلها، كما نعتقد لإرهاب وإفزاع الحكام الجدد، المتهمين بالفساد والاستبداد، حتى ينضووا تحت جناحها ووفق شروطها إلى الأبد... ومن دون حتى تململ في أية لحظة!

إنها كذلك

خير الكلام: قال تعالى:

«إن الله لا يصلح عمل المفسدين»(يونس:81)

إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"

العدد 1846 - الثلثاء 25 سبتمبر 2007م الموافق 13 رمضان 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً