العدد 1852 - الإثنين 01 أكتوبر 2007م الموافق 19 رمضان 1428هـ

أخلاقيات التذكّر

نادر كاظم comments [at] alwasatnews.com

.

لا يمكن تأسيس ما سنطلق عليه هنا «أخلاقيات التذكر» إلاّ حين يكون فعل التذكّر حرّا ومتحرّرا من ضغوط الدولة، ومن إكراهات القانون؛ لأنه يقع في المنطقة التي يتعذر على القانون بلوغها، إنه يقع، كما قلنا في المقالة السابقة، فيما وراء القانون والإجراءات القضائية.

والحق أنّ أخلاقيات التذكّر تكتسب مشروعيتها الأساسية من هذا العجز الأصلي للقانون؛ أي من وجود مناطق في الوجود يتعذّر على القانون بلوغها، أو الحسم بشأنها. ومع هذا فإنّ الإيمان المفرط بالقانون والتقنين قد قاد بعض الدول إلى سنّ تشريعات تنظّم فعل التذكر، وترسم الحدود المسموح بها لاستحضار التاريخ ووقائع الماضي. وأكبر دليل على إخضاع فعل التذكّر للقانون وإكراهاته هو التشريعات التي تسنّها الدول لتجريم إنكار هذه الواقعة أو تلك، كما هو الشأن في تلك القوانين التي سنّتها بعض الدول الأوروبية بشأن تجريم إنكار «الهولوكوست» أو «المحرقة اليهودية»، وصار ينظر لهذا الإنكار على أنه جناية يعاقب عليها القانون في كلّ من فرنسا وبلجيكا وسويسرا وألمانيا والنمسا ورومانيا وسلوفاكيا ولتوانيا وبولندا والتشيك. وإضافة إلى هذا التجريم هناك مشروع القانون الذي أقرّته الجمعية الوطنية الفرنسية والذي ينصّ على تجريم إنكار «مذبحة الأرمن» على يد الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى.

يتناول جون جراي الهوس بالتقنين بوصفه واحدا من أمراض الدولة الحديثة، فيما يرجع بول ريكور هذا الهوس و»المغالاة في إضفاء الصفة القضائية» إلى «ضعف الخطاب السياسي وعُريه»، وإلى «الإسراف في إضفاء صفة الضحية» (مسارات فلسفية، ص190)، حيث الكل يقدّم نفسه في صورة الضحية المستحق لجبر الضرر الذي لحق به أو بأسلافه في الماضي البعيد أو القريب. لكن، هل يرتبط هذا الهوس بالتقنين بـ «أخلاقيات التذكر»؟ ربما توهّم أحدنا أنّ اقتران هذا الهوس بقيم إنسانية خيّرة من قبيل إنصاف الضحايا وجبر الضرر، يكفي لإضفاء مشروعية أخلاقية على هذه القوانين، إلا أنّ الذي يفرّغ هذه القوانين من هذه المشروعية هو ما تتستّر عليه هذه القوانين من مصالح نفعية ومآرب سياسية وأيديولوجية. وحين تتكشف هذه المصالح المحتجبة خلف القانون ستنكشف حقيقة الزيف الأخلاقي الذي تتظاهر به هذه القوانين وأصحابها، وعندئذٍ سيتبين لنا أن سنّ هذه القوانين بحدّ ذاته هو استعمال مغرض للذاكرة ولتاريخ الجرائم الكبرى (المحارق والمذابح والإبادات) من أجل التحصل على حقوق سياسية ومنافع اقتصادية في الحاضر، أو من أجل التظاهر بأننا خيّرون وملتزمون بالمبادئ الأخلاقية والقيم الإنسانية. ومن المؤكّد أنّ هذا النوع من المصالح والمآرب أبعد ما يكون عن قيم الوفاء الأخلاقي للماضي وضحاياه. فإذا كان الماضي يمتلئ بالمجازر والمآسي والآلام الجماعية الفظيعة، فلماذا تنتخب هذه الدولةُ أو تلك هذه الواقعةَ أو غيرها من أجل تقنين طرائق استذكارها؟ ولماذا لم تشعر هذه الدول بتأنيب الضمير الأخلاقي تجاه ضحاياها أو ضحايا الآخرين إبان العهد الاستعماري البغيض والذي كان من أخطر عواقبه ظهور دول مشلولة ومصابة بالإعاقة الدائمة في ضميرها الأخلاقي وجهازها القانوني والمؤسساتي؟ لماذا لم تبادر هذه الدول إلى سنّ التشريعات التي تجرّم كلّ مَنْ ينكر تلك المجازر والتعذيب والتشريد والاقتلاع الذي تعرّض له هنود أمريكا الأصليون والسود من ضحايا العبودية والفلسطينيون والأفغان والعراقيون... إلخ؟ ليس في هذا الكلام تهوينا مما لحق باليهود والأرمن من جرائم كبرى، بل هو من أجل التنبيه على مخاطر «استعمال الذاكرة» سياسيا، وكذلك من أجل التذكير بأن ثمة جرائم ومذابح أخرى منسية ويجري تجاهلها عن قصد. وإذا كانت هذه الدول تتحرّك بدوافع أخلاقية فلماذا تتعامل بازدواجية مع الماضي، ولماذا تتعامل بانتقائية مع مآسيه وجرائمه وضحاياه؟ نعم، الماضي مزدحم بالجرائم الكبرى والمآسي والآلام الجماعية الفظيعة، إلاّ أنّ الطريق إلى إنصاف الضحايا لا يتم من خلال تسييس هذه الآلام، أو إخضاع فعل التذكر لحكم قانوني يتعامل بازدواجية وانتقائية، بل من خلال العمل على منع تكرار حدوث هذه المجازر والمآسي. ومن المؤكّد أنّ التسييس لا يكبح هذه المآسي ولا يمنع تكرارها، كما أنّ إخضاع التذكّر الخاص بهذه المآسي وضحاياها لحكم القانون لا يعني أنّ هذه المآسي لن تتكرر.

تتأسس أخلاقيات التذكّر على فكرة مزعجة، إلاّ أنها ضرورية، وهي أنّ هناك أكثر من ذاكرة، وأكثر من طريقة للتذكّر، مما يعني أن فعل التذكّر يتأسس في الفضاء العام على المناقشة وتبادل الحجج والآراء. وهو ما يسميه كارل بوبر بـ «الجدل الحر» الذي يعتبره «قيمة ليبرالية جوهرية». ولا يتطلب هذا النوع من الجدل والمناقشة والحجاج وجود لغة مشتركة وافتراضات أساسية موحدة، بل «إن كل المطلوب هو استعداد؛ لأنْ يتعلم المرء من زميله في المناقشة، استعدادا يتضمن رغبة حقيقية في فهم ما يرمي إليه زميله. فإذا ما توفّر هذا الاستعداد، فإن ثمار الجدل تكون كأفضل ما تكون إذا اختلفت خلفية المتجادلين أقصى الاختلاف. وعلى هذا فإنّ قيمة أيّ جدل تعتمد كثيرا على نوع الرؤى المتنافسة. لو لم يكن هناك برج بابل لكان علينا أن نبتكره» (بحثا عن عالم أفضل، ص193). وما يشخّصه بوبر هنا يتناوله يورغن هابرماس تحت مفهوم «وضعية الكلام النموذجي»؛ أيّ الوضعية المثالية لفعل التواصل المؤسسة على المبادئ الأخلاقية التي ينبغي أن تكون متبعة في المناقشة داخل الفضاء العام. وتتلخص هذه المبادئ في قاعدتين: «التماثل، والتبادل. ويشير التماثل إلى أفعال الكلام حيث يكون لكل مشارك فرصة متساوية ليبدأ التواصل وليستمر فيه، وليصوغ تأكيداته، وليعطي تفسيراته، وليتحدى التبريرات الأخرى. فيما يحيل التبادل على سياقات الفعل بحيث يكون لكل مشارك فرصة متساوية في التعبير عن أمنياته، ومشاعره ومقاصده. وينبغي على المتكلمين المشاركين في المناقشة أنْ يتصرفوا كما لو أن لكل واحد منهم القدرة نفسها على إعطاء الأوامر والوعود، وعلى أن يكونوا مسؤولين. ويتعامل المشاركون في وضعية الكلام النموذجي بعيدا عن اختلافات القوة والسلطة، والسلطة الوحيدة المسموح بها هي سلطة المناقشة. ويسلم هابرماس بأنّ وضعية الكلام النموذجي تعبّر، إلى حد ما، عن افتراضات الفاعلين الأخلاقيين حينما يريدون المشاركة بجدية في النقاش. وتفترض المشاركة الجدية أن يكون الهدف النهائي للتواصل هو الوصول إلى فهم مشترك. والفاعل الذي ينكر هذا يتناقض مع نفسه، ويسمي هابرماس هذا بالتناقض الإجرائي» (Negotiating Ethics as a Two Level Debate).

إنّ تأسيس أخلاقيات التذكّر على ما يسميه هابرماس بأخلاقيات المناقشة يتطلب أوّلا وجود فضاء عام نموذجي للتذكر، فضاء متحرر من القوة وعلاقات الهيمنة ومستلزماتها، ويتطلب ثانيا وجود فاعلين سياسيين واجتماعيين ليسوا مثاليين بالضرورة إلا أنّ لديهم استعدادا؛ لأن ينخرطوا في سياقات التذكّر بقصد التواصل والتعايش والتوصل إلى «فهم مشترك». ومن المؤكد أن هذا نموذج مثالي لأفعال التذكر وسياقاتها، إلاّ أنّ الذي يعطي لهذا النموذج المثالي مشروعيته هو صلاحيته في تعزيز فعل التواصل من جهة، وقدرته على دفع الضرر العام والعواقب السلبية المترتبة على استعمال الذاكرة بعيدا عن أخلاقيات تنبذ ممارسة التذكر في سياقات المناورة والتلاعب والهيمنة والإقصاء والتهميش والإخضاع، والتي يجري تجسيدها في صورة العنف السياسي المتبادل الذي يهدد السلم العام داخل الدولة. ثم إنّ على الدولة أنْ تنسحب وتتخلى عن الانخراط في أفعال التذكر داخل الفضاء العام، لأن انخراط الدولة يعني اختلال التكافوء بين المشاركين، ولأن حضور الدولة يفترض حضور علاقات القوة والتراتبية، الأمر الذي يقوّض ما يطالب به هابرماس من مبادئ أخلاقية ينبغي أنْ تكون متبعة بين المنخرطين المشاركين في أفعال المناقشة أو التذكّر.

إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"

العدد 1852 - الإثنين 01 أكتوبر 2007م الموافق 19 رمضان 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً