العدد 1859 - الإثنين 08 أكتوبر 2007م الموافق 26 رمضان 1428هـ

صور كبيرة وأمان مفقود

على هامش الحديث عن تقسيم العراق:

محمد غانم الرميحي comments [at] alwasatnews.com

في الجو السياسي العام ومنذ فترة ليست بالقصيرة يتصاعد الحديث عن تقسيم ما بشكل ما للعراق كما عرف بعد الحرب العالمية الثانية ثم يفتر الحديث لاحقا، إلا أن فكرة تقسيم العراق كانت هناك دائما بسبب عدم قدرة العراقيين على حكم أنفسهم بطريقة سوية، فهم إما تحت مظلة الدكتاتورية أو الدستورية الشكلية.

كان الحديث بعد طغيان عصابة صدام حسين، والتسمية ليست مني، فقد كتب الكاتب السياسي العراقي حسن العلوي كتابا خاصا سماه «دولة العصابة»، أقول بعد طغيان تلك العصابة تصاعد الحديث بشأن الحل الحقيقي لمشكلات العراق السياسية المزمنة هو (التقسيم) تحت مسميات مختلفة، منها الفيدرالية أو الكونفيدرالية، أو وما شابهها من تسميات تعني في نهاية المطاف تفكيك الحكم المركزي الذي يتيح التسلط.

بعد سقوط نظام «العصابة» تحول الأمر من حديث إلى واقع، فقد قرر الدستور العراقي الذي توافقت عليه القوى السياسية المختلفة بعد أن وصلت إلى سدة الحكم، أن يكون هناك تقسيم شبه كونفيدرالي خصوصا في توزيع السلطة والثروة بين المناطق الثلاث الرئيسية في العراق، ويرتبط هذا التشكيل بالعاصمة ارتباطا وثيقا فيما يتعلق بالإشراف على الجيش والشئون الخارجية. إلا أن ذاك الدستور، حتى في صورته الشكلية، لم يجد من يطبقه على الأرض، فلا الأكراد يناسبهم التخلي عن امتيازات كانوا يحلمون بها فحققوها، ولا الشيعة على استعداد أن يتنازلوا عن سلطة انتظروها كثيرا لسنين طويلة، وكان حرمانهم منها سببا في اضطهادهم في وطنهم، ولا السنة بقابلين على أن «تسلب منهم» امتيازات تمتعوا بها سنين طوال.

الصراع على السلطة بين تلك القوى المتنافرة، وحتى فيما بينها وهو أمر طبيعي بل وقائم بين القوى الثلاث المكونة للنسيج البشري الأكبر في العراق. السنة يختلفون فيما بينهم إلى حد الاقتتال، وكذلك الشيعة. أما الأكراد فقد صفوا اقتتالهم في تسعينات القرن الماضي، وهم يحاولون جاهدين على أن لا ترجع الساعة العراقية إلى الوراء.

إلا أن الأطراف الثلاثة في مأزق حقيقي يغطيه اليوم الوجود الأميركي في العراق، وبغير ما يشاع ويروج له فإن الصراع القاتل والمدمر في العراق لم يبدأ بعد، ويمكن أن يبدأ في حال انسحاب مفاجئ وغير مبرمج للقوات الدولية.

القوات الدولية في العراق هي ستار يستخدم سياسيا من الأطراف المختلفة حتى يؤجلوا الصراع القادم، ولا يوجد في الأفق أي تصور لتوافق عراقي، فنقاط الاختلاف أكبر وأقسى من أن تذلل بين الفاعلين السياسيين ذوي المصالح، بصرف النظر عن هاجس ونبض الشارع العراقي النابذ للطائفية.

تروى قصة من عهد عبدالكريم قاسم، أصبحت من تراث العراقيين النستلجوي، وهي أن الزعيم كان يطوف بأحياء بغداد الفقيرة فوجد دكان خباز يضع صورة ضخمة للزعيم على واجهة مخبزه، ولما اقترب الزعيم وعاين الخبز، قال لصاحب المخبز (صغر الصورة وكبر الرغيف)!

منذ ذاك الزعيم إلى يومنا هذا ظل حكام العراق مهووسين بالصور الكبيرة الضخمة مقبلين على تكبيرها لزعمائهم، ومدبرين عن توفير الرغيف لعموم أهلهم، لا فرق كثير بين فريق وآخر. إلا إن الزمن قد زاد صغر الرغيف فظاظة، فلم يعد الرغيف نادرا، بل وأصبح الحفاظ على الحياة الإنسانية في صورتها المبسطة من الأماني الكبيرة بل والنادرة في عراق اليوم.

حقيقة الأمر إن قوى سياسية عراقية تقودها نخبة أو شبه نخبة غير قادرة على الحكم والتوافق، الأمر الذي يطرح التقسيم كحل أولي لوقف تدفق نهر الدم في العراق. إلا أن هذا الحل (التقسيم) لن يفيد العراق في المدى المتوسط، فأي تقسيم سيثير من جديد شهوة القوى المتنافرة في الإقليم الأصغر للدخول في صراع بين مكوناته، حول من تكون له الغلبة فيه، في الجنوب حزب الدعوة وجيش المهدي المرتكز على زعامة مقتدى الصدر، والمجلس الإسلامي الأعلى (الحكيم)، إذا استثنينا القوى الصغيرة والأكثر شراسة. في الوسط سيندلع صراع بين قوى سنية مختلفة تقليدية وعلمانية وقبلية وفي الشمال ستعاد ربما على نطاق أضيق صراع الأجنحة الكردية إما بسبب داخلي أو خارجي، عدى الجماعات الكردية الصغيرة. أذا حل تقسيم العراق كما هو مطروح سيسبب مصاعب أكبر وأفدح لأهل العراق كما سيسبب مصاعب ضخمة لدول الجوار. فهو حل يؤسس لمشكلات أفدح بعده.

الحل العراقي هو الديمقراطية، غير أنه ليس في متناول اليد اليوم بل ومتعسر توليده بين القوى القائمة والمتقاسمة النفوذ، بصرف النظر عما يقوله زعماؤها علنا للجمهور، وهو صراع والحق يقال لا ينبع فقط من مكونات العراق بل ويشارك فيه على الصعيد الفكري والعملي تاريخ من الحشد والتجنيد منذ أكثر من نصف قرن في منطقتنا العربية، عن طريق تسخيف العمل الديمقراطي بامتهانه والحط من نتائجه واستخدامه مطية لإغراض شخصية حتى عافته الجماهير وركنت إلى دكتاتورية بغيضة.

لعل الدرس المهم فيما يحدث في العراق اليوم هو أن الانتماء المذهبي والطائفي والعرقي هو قشرة يتمسك بها ويختفي خلفها السياسيون أصحاب المصالح الشخصية، ومستغلين بذلك سذاجة الغالبية من الناس، وإلا كيف نفسر اقتتال الأكراد فيما بينهم وهم من عرق واحد، واقتتال الشيعة فيما بينهم وهو من طائفة واحدة واقتتال السنة كذلك فيما بينهم. هذه القشرة تدر فوائد سياسية للمتزعمين والمستفيدين، ولكنها قشرة وإن أتت أؤكلها لفترة فإن ديمومتها في شك كبير.

إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"

العدد 1859 - الإثنين 08 أكتوبر 2007م الموافق 26 رمضان 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً