العدد 1866 - الإثنين 15 أكتوبر 2007م الموافق 03 شوال 1428هـ

انتعاش الذاكرة وعودة المكبوت

نادر كاظم comments [at] alwasatnews.com

.

بدأت الذاكرة تنتعش من جديد في السبعينات، وبدأ استعمال الذاكرة ينشط بقوة لأسباب سياسية وأيديولوجية، وهو الأمر الذي تعمّق في الثمانينات والتسعينات. وفي الوقت الذي بلغ التأزم السياسي في البلاد أوجه في الثمانينات والتسعينات، كان استغلال الذاكرة واستعمالها المغرض والموظف سياسيا وأيديولوجيا ينتعش بقوة. فكأنّ هاتين العمليتينِ (التأزم السياسي واستعمال الذاكرة) تسيران في خطين متداخلين ومتدافعين، ويغذّي أحدهما الآخر بأسباب القوة. وإلى هذه الحقبة بالتحديد ترجع أهم تجليات فعل التذكّر وفوران الذاكرة في البحرين، إذ افتتح رسميا في العام 1970 نواة أوّل متحف في البحرين في مبنى الحكومة بالمنامة تحت إشراف قسم الآثار بمديرية التربية والتعليم، إلى أن انتقل هذا المتحف في العام 1973 إلى شمال مدينة المحرق. كما تأسس مركز الوثائق التاريخية في العام 1977. وظهرت في هذه الحقبة معظم المؤلّفات التاريخية وكتب التاريخ السياسي الحديث والمتعارض في الصميم، ويكفي أن نذكّر بمؤلّفات كلّ من: الشيخ عبدالله بن خالد آل خليفة، وأمل الزياني، وعلي أبا حسين، وعلي أكبر بوشهري، ومبارك الخاطر، والشيخة مي بنت محمد آل خليفة، وخالد البسّام، وسالم النويدري، ومحمد الرميحي، وفؤاد خوري، وإبراهيم العبيدي، ومهدي عبدالله التاجر، وسعيد الشهابي، وعبدالهادي خلف وآخرين.

لقد جرى كلّ هذا في الوقت الذي كان فيه «التاريخ محرّما» كما يلاحظ إميل نخلة، والحق أنّ هذا التحريم لم يرفع إلاّ مع الانفراج السياسي في العام 2001. فصرنا، منذ هذا التاريخ، أمام وفرة كبيرة في الذاكرة وأفعال التذكّر. وقد عبّرت هذه الوفرة عن نفسها بتجليات متنوعة، وأخذت تسير في مسارات مختلفة، فهناك أقليات دينية (اليهود والبهائيون على سبيل المثال) بدأت تؤرِّخ أو يُؤرَّخ لوجودها، وأسر تجارية وعلمية نشطت من أجل كتابة ذاكرتها، وشخصيات أطلقت العنان لذاكراته من أجل تثبيت ما هو معرّض للضياع والنسيان من السيرة المتصلة لهذا الشخض أو لذاك التنظيم أو اللجنة الوطنية أو التيار السياسي. وهناك تيارات سياسية راحت تمارس طقوس الاعتراف بمديونيتها إلى جيل الهيئة الخمسيني، فكذّبت بهذا الصنيع نبوءةَ المرحوم إبراهيم فخرو (ت 2005)، فبعد الجيل الذي نساهم عاد جيل التذكّر المبتلى بالتاريخ؛ ليبسط ذاكرتهم أمام الجميع ويجدد الاحتفال بجهودهم التي لا تنسى.

لقد انخرط الجميع في طقوس التذكّر، وبدأت أسئلة جديدة تطرح نفسها على الجميع بصورة ملحة، ولعلّ أهم هذه الأسئلة هي تلك المتعلقة بالمسئولية الجنائية والأخلاقية عن الماضي، وعن كيفية التعامل مع التركة الثقيلة لمآسيه وضحاياه الذين امتحنوا بالموت أو التعذيب أو التشريد. وصارت المطالبة بالعدالة الانتقالية وإنصاف ضحايا التعذيب تتجدّد سنويا. وفي يونيو 2007 عقدت جمعيات سياسية وحقوقية ولجان أهلية ورشة «الحقيقة والإنصاف والمصالحة الوطنية»، وأوصى المشاركون في الورشة بتشكيل «الهيئة الأهلية للحقيقة والإنصاف والمصالحة». واللافت في هذه الورشة أنّ الطرفين، الحكومة والجمعيات السياسية والحقوقية، متفقان على ضرورة «طي صفحة الماضي»، إلا أنّ الجمعيات واللجان الأهلية لا ترى إمكان ذلك إلاّ من خلال كشف الحقيقة، واعتبر عبدالنبي العكري، رئيس اللجنة التنسيقية للورشة، أنّ «الكشف عن الحقيقة ضروري حتى يستقيم التاريخ، وهو المقدّمة الضرورية لإنصاف الضحايا معنويا وإدانة مَنْ أساءوا فعلا إلى الوطن والشعب». أمّا وجهة النظر الرسمية فتؤكّد على أنّ «طي صفحة الماضي» قد تحقق وانتهى بصدور المرسوم بقانون رقم 10 لسنة 2001 والخاص بالعفو العام عن الجرائم المتعلقة بالأمن الوطني، وبالاستفتاء الشعبي على ميثاق العمل الوطني في فبراير/ شباط 2001م (جريدة الوسط، ع: 1752، الأحد 24 يونيو/ حزيران 2007، صص8-10).

وعلى رغم مما بين هذه الأطراف من تباين كبير، إلاّ أنها تشترك فيما بينها في ممارسة ما يسميه جورج لاكوف بـ «التفكير الاستعاري»؛ أي التفكير بواسطة الاستعارة. والاستعارة المركزية في خطابات هؤلاء هي أنّ الماضي كتاب، وهو كتاب ظلّ مبسوطا طوال هذه الفترة السابقة، وآن الآوانَ ؛لأن يغلق وتطوى صفحاته. هذه استعارة تحكم تصوّر هذه الأطراف، ولهذا ستجد مَنْ يطالب بـ «تصحيح الماضي» وتقويم اعوجاجه، وتبييض صفحاته السوداء، ومحو آثامه. وتبقى هذه المطالبة مستقيمة ما دمنا نفكّر في الماضي بطريقة استعارية. في حين أنّ الماضي ليس كتابا، وأنّ «العودة إلى الوراء مستحيلة» كما تقول حنا أرندت (المصالحة والتسامح وسياسات الذاكرة، ص54). واستحالة العودة تعني أن ما جرى لا يمكن منع حدوثه أو إعادة توجيه مساره من جديد، ما جرى في الماضي من جرائم كبرى قد جرى ولا سبيل أمام البشر اليوم لإعادة الأمور إلى ما كانت عليه ومحو ما اقترفته أيديهم، بل لا سبيل أمامهم للتعامل مع هذا الماضي إلا من خلال التذكر أو نقيضه الباهر: النسيان. وإذا تعلّق الأمر بتذكر الجرائم الكبرى فإن النسيان يصبح حاجة ملحة للبشر. لأن هذا النوع من التذكر هو الذي يولّد رغبات الانتقام، كما أنه لا يسلم من الهوس الذي قد يشلّ المتذكّر ويأخذه إلى حافة الجنون، وفي هذه الحالة تحديدا يصبح «النسيان واجب، وإلا أصبحنا مجانين» كما يقول إدغار موران (المصالحة والتسامح وسياسات الذاكرة، ص49)، وبحسب إرنست رينان فإنه «من المفيد أنْ يتعلّم الجميع كيف ينسون» (ما هي الأمّة؟، مجلة نزوى العمانية، ع: 34، 2003، ص71).

لقد بقي النقاش حول ضحايا الماضي ومآسيه منحصرا في دائرة السياسة المثيرة للشقاق والتنازع أصلا، ودائرة المطالبة الحقوقية والقانونية التي تتأسس على سؤال المسئولية وما يترتب عليها من جزاء، في حين أنّ الخلاص الممكن من ضغط الماضي ومآسيه لا يكمن في دائرة السياسة ولا في القانون وخطاب الحقوق، إنه يقع فيما وراء هذا كله. إنه يقع في دائرة النسيان والصفح إذا كان ممكنا. يمكن للعدالة الجزائية وهيئات الحقيقة والمصالحة والإنصاف أن تمهّد للصفح الممكن وللنسيان السعيد، إلا أنه من المؤكد أن النسيان والصفح لا يتطابقان مع كل هذا؛ لأن «العفو العام لا يعني بتاتا النسيان»، وهيئات الحقيقة والإنصاف والمصالحة والأحكام القضائية المتعلقة بتعويض الضحايا ماديا ومعنويا لا تعني بتاتا الصفح. ومن المؤكّد أنّ العدالة الانتقالية تقتضي العفو العام وإجراءات العدالة الجزائية، بل إن ذلك واجب أخلاقي وقانوني، إلاّ أنّ «طي صفحة الماضي» لا تمت إلى كلّ هذا بصلة. أو هي على الأقل تقع في دائرة أخرى، وتسلك مسارا آخر؛ لأنه من قال إنّ الصفح يعني «طي صفحة الماضي»؟ ومن يضمن أنّ الأجيال المقبلة ستتعامل مع الأحكام القضائية «العادلة» على أنها صفح؟ لو كانت الأحكام القضائية تعني الصفح ونسيان الماضي لما بقي اليهود يتذكرون إلى اليوم فظائع الهولوكوست بعد محاكمات نورمبرغ منذ العام 1945م، ولما بقي الجدل الحاد مستمرا بينهم وبين النازيين الجدد في أوروبا وفي الولايات المتحدة الأميركية.

يتحدد الصفح، عند جاك دريدا، بما لا يقبل الصفح، بالجرائم الكبرى التي لا يمكن الصفح عنها. ويميز دريدا بين الصفح وبين السيرورة القضائية التي قد تنتهي بالإدانة أو التعويض وجبر الضرر، وهو يرى أن الحكم أو القضاء لا يمتّ بصلة إلى الصفح؛ لأن هذا الأخير يقع فيما وراء القانون، ولأن الضحية هو الشخص الوحيد الذي من حقه أنْ يصفح، فكيف يصفح من قُتل في مذبحة جماعية مثلا؟ وفي ظل غياب الضحايا فمن له الحق في أنْ يمنح الصفح؟ الجواب بحسب دريدا هو: لا أحد، ومن هنا يصبح الصفح مستحيلا، يقول: «ليس في مقدور الدولة ككيان غُفل أو لأية مؤسسة عمومية أنْ تمنح الصفح. ليس لها الحق، ولا القدرة، ولن يكون لخطوتها هذه أي معنى. يمكن لممثل الدولة أن يصدر حكما، بيد أن الصفح، حقيقة، لا يمت بصلة للحكم، وليست له علاقة بالفضاء العمومي والسياسي. وحتى لو كان «عادلا» فإنّ عدالة الصفح تختلف كليا عن العدالة القضائية، وعن القانون» (المصالحة والتسامح وسياسات الذاكرة، ص22). وبهذا المعنى يكون الصفح خارج طاقتنا كبشر، أو قل «ليس علينا أن نصفح، بل ليس هناك صفح - هذا إذا كان أصلا موجودا - إلاّ حيث نقف أمام ما لا يقبل الصفح. معنى هذا أنّ الصفح يجب أنْ يعلن عن نفسه كما لو كان المستحيل نفسه» (صص-12 13). بالطبع يمكن الصفح عن الجرائم الصغرى بشرط أنْ يبقى ضحاياها على قيد الحياة؛ إذ من الممكن أنْ يتمتع الضحية بأخلاق عالية تجعله يتنازل طوعيا عن حقه في المطالبة بالعقاب والانتقام، ومن الممكن أنْ يوجد ضحية يستمع بإنصات لقوله تعالى: «وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أنْ يغفر الله لكم والله غفور رحيم» (النور: 22)، «وإنْ تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإنّ الله غفور رحيم» (التغابن: 14). وبحسب كارل ماركس فإنّ ضحايا الاستغلال والظلم هم الأقدر على اعتناق «أخلاق كونية، والقضاء على استغلال الإنسان لأخيه الإنسان» (المصالحة والتسامح وسياسات الذاكرة، ص50). وفي هذه الحالة فقط يكون الصفح ممكنا، أمّا في حالة الجرائم الكبرى المقترنة بغياب الضحايا فإنّ الصفح مستحيل. أمّا العقاب فإنّه نقيض الصفح وبديله، إلاّ أنه يستلزم، مثله مثل الصفح، أنْ يكون أحد طرفي الجريمة باقيا على قيد الحياة. وبهذا المعنى يصبح العقاب مستحيلا في ظل غياب الجاني الذي ارتكب الجريمة؛ لأن العقاب قرين المسئولية المباشرة، والمسئولية تستلزم وجود الشخص صاحب الإرادة. أمّا في ظل غياب الطرفين معا - الجاني والضحية - فإنّ الصفح والعقاب يصبحان ضربا من المستحيل.

كان من المقرر أنْ يكون لهذه المقالة تكملة في الأسبوع المقبل، إلاّ أني أجّلت التكملة إلى الأسبوع الأخير من هذا الشهر ليكون خاتمة هذه السلسلة الطويلة من المقالات. والسبب وراء التأجيل هو مرور ثلاثة أشهر على مناسبة خاصة/ عامّة ما أردتُ أنْ تمضي من دون الكتابة عنها. وستنطوي هذه الكتابة على تحيّة مهداة إلى إدارة المطبوعات بوزارة الإعلام التي آمل أنْ تتقبّلها بصدر أرحب من ضيق الأفق الذي يحكم قراراتها أو عدم قراراتها على وجه الدقة!

إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"

العدد 1866 - الإثنين 15 أكتوبر 2007م الموافق 03 شوال 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً