العدد 1920 - السبت 08 ديسمبر 2007م الموافق 28 ذي القعدة 1428هـ

مناقشة الكاتب في الاعتراف بالهزيمة الحضارية (2)

عباس هاشم Abbas.Hashim [at] alwasatnews.com

استمرارا لمقال الأحد الماضي، طالب الكاتب في رده على خطبة الشيخ عيسى قاسم المسلمين بالاعتراف بالهزيمة الحضارية - ويا لها من كلمة كبيرة - اقتداء باليابان ومن ثم الانطلاق إلى معارج التقدم والنجاح حين قال نصا: «لماذا لا نعترف بالهزيمة الحضارية مثل اليابان ثم ننطلق لتغيير أنفسنا ونكتشف أخطاءنا ثم نطور أنفسنا»، وفي سبيل الاستدلال على قناعاته قال إن «اليابان بلا تاريخ». ولست أدري ماذا يعني أن اليابان بلا تاريخ، بينما تاريخها لأكثر من ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد.

النقطة الأخرى، ذكر الكاتب أن اليابان تقدمت بعد اعترافها بالهزيمة الحضارية، وسواء كان هذا الادعاء على أساس مفهوم الحضارة بمعنى الفكر والقيم والدين والنظام الاجتماعي أو يقصد بذلك الجانب المتعلق بالتقدم المادي والصناعي والعمران الذي ركّز عليه الكاتب، ففي كلتا الحالتين، توجد عدة إشكالات على هذه الدعوة، فمنذ متى تخلت اليابان عن الأصول الفكرية المكونة لحضارتها حتى يسوغ الزعم أنها اعترفت بهزيمتها الحضارية؟ أما إذا كان الكاتب يشير إلى هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، فهذه هزيمة عسكرية عوضتها اليابان تقدما ورُقِيا من خلال الانطلاق من مركب حضاري وليس من الشعور بالهزيمة الحضارية. ولو كانت الهزيمة العسكرية هزيمة حضارة، فماذا نسمي هزيمة دول أوروبية في مقدمتها ألمانيا وإيطاليا اللتان اشتركتا مع اليابان وشكلتا دول المحور ضد دول الحلفاء، وهاتان دولتان متقدمتان، وتنتميان إلى الحضارة الغربية الحديثة نفسها؟

وإذا كان الكاتب - وهو يضرب المثل باليابان - يشير إلى التطور العلمي والتقدم الصناعي الذي أوصل أوروبا إلى الازدهار الاقتصادي والعمراني، فهذا أيضا ادعاء يقع في نطاق محاولة تسويق الفكرة والاستدلال على صحتها، غير أنه يحتاج إلى دليل؛ لأن اليابان لم تكن طارئة على التقدم العلمي والصناعي بعد هزيمتها في الحرب الثانية، فقد كانت دولة صناعية حتى ما قبل الحرب العالمية الأولى، إذ بدأت التفكير في التصنيع منذ القرن التاسعَ عشرَ، وبدأ التحول تحديدا منذ سنة 1853 عندما اقتحم «الأسطول الأميركي عنوة خليج (إيدو) أو طوكيو حاليا»، وفرض عددا من الاتفاقات بالقوة مع الحاكم العسكري الياباني، فشعر المفكرون والساسة اليابانيون بخطر استعماري قادم، وارتأوا أن الحل يكمن في تصنيع اليابان.

«وبدأت النهضة اليابانية الحديثة بدءا بالعام 1868 حيث شهدت اليابان تبدلا كبيرا، ومن ذلك التاريخ تدرجت اليابان في الارتقاء حتى وصلت إلى مصاف الدول الرأسمالية الصناعية المتقدمة». وبعكس ادعاء الكاتب، إن اليابان لم تكن لترتقي لو هُزِمت حضاريا، ولكنها انطلقت من مركب من عمق حضارتها، إلى درجة أنها دفعت الطبقة الأرستقراطية من رجال الإقطاع، فضلا عن الآخرين، إلى بذل خدماتها عن ولاء ورضا وتنازل عن مكاسبهم، بل هذه الطبقة - بخلاف مصالحها - هي التي قامت بعزل الحاكم العسكري وإرجاع الامبراطور إلى سدة الحكم، فقاد البلاد حتى تحولت بسرعة إلى بلاد صناعية. (نقلا عن اقتصادنا للإمام محمدباقر الصدر وآخرين، بتصرف)، فمن أين للكاتب أن اليابان أعلنت هزيمتها الحضارية حتى انطلقت إلى معارج النجاح والتقدم؟

تذكير الكاتب المتكرر بأن الغرب أكثر تطورا منّا على المستوى العلمي والاقتصادي حتى راح يعدّد بعض المخترعات العلمية ليثبت ذلك، أو يعيب على المسلمين أنهم يأكلون مما يزرع الغرب ويلبسون مما ينسج ويركبون مما يصنع، أو يعنون مقاله: «مناقشة الشيخ عيسى في أن الغرب أكثر تطورا منّا»، فهذا ليس محل خلاف، وكان موضوع خطبة الشيخ التي ردّ عليها الكاتب، في سياق الأصول المكونة للحضارة على المستوى الروحي، ولهذا فإن مطالبة الكاتب المسلمين بالاعتراف بالهزيمة الحضارية، كلامٌ ينطوي على مغالطات كبيرة، فلو كانت حربا عسكرية، لطالبنا أن يستسلم طرف للطرف الآخر ويعترف بالهزيمة، فماذا يعني الكاتب وهو يستحث المسلمين على الاعتراف بهزيمتهم الحضارية أمام حضارة الغرب؟

اعتراف المسلمين بهزيمة حضارتهم التي تنظر إلى السماء قبل أن تنظر إلى الأرض تعني - بكل بساطة - اتخاذ الأصول المكونة لحضارة الغرب الحديثة المادية إطارا من أجل اللحاق بها، بدلا من الأصول الفكرية للحضارة الإسلامية السماوية، وذلك لعجزها - كما يرى هؤلاء - عن الارتقاء بالمسلمين واللحاق بالتطور الذي وصل إليه الآخرون، بمعنى أوضح، خواؤها من مركب يشحذ الهمم ويصعد بالإنسان الشرقي إلى معارج الازدهار والترقي، بمعنى عجز الإسلام عن مجاراة العصر وحاجاته. وهذا الطرح على شاكلة من يذم الشرقي والثقافة الشرقية، وهو يرمي إلى اتهام الإسلام الذي لم يستطع - في تصور أولئك - صناعة الإنسان الشرقي؛ لأن الإسلام هو المكوِّن الأساسي للثقافة الشرقية الإسلامية.

وبهذا الفهم، فإن الاعتراف بالهزيمة الحضارية لا يمهّد السبيل للارتقاء، بل تكريس الهزيمة في مختلف الأصعدة. الغرب نفسه لم يعترف بهزيمة حضارته المادية عندما كان غارقا في ظلمات القرون الوسطى، وبدأ يقتبس ويستفيد من تقدم المسلمين؛ بل تشبث بحضارته، واستفاد من علوم المسلمين علوما محايدة لكل الإنسانية، ثم اتخذ مركبا من عمق حضارته المادية إطارا للانطلاق، وهذا الإطار يتمثل بالذات في منح الحرية المطلقة للأفراد في إشباع غريزة الكسب والتملك، فاستطاع تحريك الأمة وتعبئة كل قواها وطاقاتها من أجل النجاح.

ويرى كبار المفكرين الإسلاميين - كالشهيد الصدر - أن نجاح المسلمين في مواجهة التخلف، تحتاج إلى مركب من حضارتها؛ حتى يمكن حشد الأمة وراء الدولة، وهذا يتطلب من الدولة - عند اختيار الإطار السليم للتنمية - أن تدخل في الحساب مشاعر الأمة ونفسيتها وتركيبها العقائدي والتأريخي. ولا يمكن لعملية البناء أن تحقق هدفها في تطوير الأمة واستنفار كلِّ قواها ضد التخلف إلاّ إذا اكتسبت إطارا يستطيع أن يدمج الأمة ضمنه. ولهذا لابد من مراعاة عقيدة التوحيد لدى المسلمين، والابتعاد عما يصطدم بهذه العقيدة من مشروعات تنموية، وبذلك يتحرك الأفراد للالتزام التلقائي بالقوانين التي تتطلب دافعا داخليا من الفرد، وكذلك لابد من تجربة من تاريخ الأمة المضيء الذي تعتز به كفترة رسول الله (ص). أما إذا اعترف المسلمون بهزيمة حضارتهم الإسلامية، فمن أين نقطة الانطلاق في المعركة ضد التخلف؟

إن ما يدعو إليه الكاتب، لا يمهّد لنصر، بل يكرّس للهزيمة الحضارية ويسحق النفوس سحقا، فالشعور بالهزيمة الحضارية حتما تسبقه هزيمة نفسية، والهزيمة النفسية تعني الانهيار والاستسلام والعجز عن النهوض، الذي يتبعه هزائمُ على كل المستويات.

إقرأ أيضا لـ "عباس هاشم"

العدد 1920 - السبت 08 ديسمبر 2007م الموافق 28 ذي القعدة 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً