العدد 1972 - الثلثاء 29 يناير 2008م الموافق 20 محرم 1429هـ

العودة لآدم سميث وحرب العراق

الليبرالية الاقتصادية الجديدة ... (2)

عباس هاشم Abbas.Hashim [at] alwasatnews.com

في فترة الأربعينات، تأكد تخلي الدول الرأسمالية المتقدمة عن الرأس مالية بصورتها المطلقة بتبنيها فكر جون كينز الذي دعا لمجتمع الرفاه عن طريق تدخل الدولة في الشأن الاقتصادي بدرجة ما، خصوصا في نطاق الخدمات وتوفير الضمان الاجتماعي، واستخدام الموازنة والانفاق لتوجيه الحياة الاقتصادية للمحافظة. لقد اعتبر البعض «جون كينز هو المهندس الذي صمم كيفية إصلاح الرأسمالية». إلا أن آخرين اعتبروه خطيرا على الرأسمالية ومدمرا لها، مثله مثل كارل ماركس تماما. وعدم ثقة الرأسماليين في كينز ترجع لكونه «أبو فكر الاقتصاد المختلط الذي تلعب فيه الحكومة (الدولة) دورا رئيسيا».

وبعد عدّة عقود من النجاح الذي أحرزه فكر كينز، تفجرت أزمة الكساد بداية سبعينات القرن الماضي في العالم الرأسمالي. ونتيجة لأسباب كثيرة، عجزت الكينزية عن الاستمرار في القدرة على حل أزمات الدول الرأسمالية، فساد الكساد مرة أخرى. وفي سنة 1973 كانت بداية تصحيح أسعار النفط الذي ارتفع أعقاب حرب أكتوبر لينتهي بذلك عصر الطاقة الرخيصة ليزيد من مشكلة أزمة الكساد، وفي تلك الفترة أيضا انتشرت فوضى النقد الدولي الذي سببه، تخلي الولايات المتحدة عن ربط الدولار بالذهب على يد الرئيس الأميركي نيكسون، «الأمر الذي فتح المجال للمضاربة الحرة في العملات وأدى للفوضى المالية...».

لقد عاد التفاوت الفاحش واستفحل في الولايات المتحدة أكثر من ذي قبل، ولم تعد الضريبة التصاعدية قادرة على تصحيح التوازن الاجتماعي كما كانت، وحدثت تغيرات عديدة كما في وصف بعض الباحثين وهو يقول: «الهدر الاقتصادي والبشري ما يزال كبيرا فيها: فالإجرام فيها أرفع بعشر مرات من أوروبا. ويكسب من الأكثر فقرا فيها، معدلا أدنى من ربع متوسط الدخل. وستتفاقم اللامساواة الاجتماعية، فأكثر من 47 مليون شخص يقبعون من دون حماية اجتماعية. اعتبارا من 1970، بدأ يتناقص عدد الذين يتابعون تعليمهم العالي، في صفوف فئات الأعمار الجديدة» (الهاشمي، السيد كامل: «صحيفة الوسط»، 21 سبتمبر/ أيلول 2007، نقلا عن جاك أتالي: معجم القرن الـ 21، ص 210). في نفس الوقت، اشتد التفاوت أيضا على مستوى المجتمع الدولي لدرجة الفحش، بين الدول الرأسمالية المتقدمة والدول النامية السائرة في فلكها، لدرجة أن 75 في المئة من سكان الأرض ينالون ما يقارب من الـ 20 في المئة من إجمالي الدخل العالمي فقط، بينما أقل من 18 في المئة من السكان (الدول المتقدمة الرأسمالية) يستحوذون على ما يقارب من الـ 80 في المئة. (الارقام تقريبية مستمدة من بعض تقارير التنمية البشرية الصادرة عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي).

لقد اقتنص أعداء فكر جون كينز من الداعمين للرأس مالية بصورتها المطلقة القديمة فرصة التراجع الاقتصادي الذي بدأ منذ السبعينات، ليصبوا جام غضبهم على تدخل الدولة كعنصر محوري تشكله النظرية الكينيزية، مرجعين أسباب الأزمات الاقتصادية لهذا التدخل. في تلك الفترة بدأ التضعضع وعلامات الانهيار تظهر في جسد التجربة الشيوعية، حتى سقطت هذه التجربة بتفكك الاتحاد السوفييتي في بداية تسعينات القرن الماضي (سنة 1991). هذا السقوط المدوّي ساهم من دون وجه حق، بإظهار الرأسمالية كنظام اقتصادي وكأنها المنتصرة، فتصدى أعداء الكينزية ليرّوجوا مرة أخرى للرأسمالية بصورتها القديمة التي هُجرت منذ القرن العشرين وخاصة في الأربعينات، وارتفعت الدعوات للعودة إليها تحت مسمى «الليبرالية الاقتصادية الجديدة» التي ترى أن أي تدخل للدولة في الشأن الاقتصادي شرّ لا خير من وراءه.ويصف المفكر السوري منير حمش جزءا من المشهد الذي قاد للتراجع الاقتصادي منذ السبعينات فيما يتعلق بالولايات المتحدة قائلا: «والملفت في التحولات الاقتصادية في حياة السكان أنه وبعد أن كان التعامل في البورصة والأسواق المالية حكرا لكبار أصحاب رؤوس الأموال، فقد اتسعت شرائح المتعاملين في الأسواق المالية من أسهم وسندات لتشمل قطاعا واسعا من أفراد الطبقة الوسطى، وأصبح التعامل بالأسهم جنونا كاسحا يمارسه أكثر من 50 في المئة من السكان. وكان لهذا نتائجه على الاقتصاد والمجتمع، فقدْ فقدَ المجتمع ثقافة الإنتاج، واتجه إلى ثقافة الاستهلاك والركض خلف سراب الربح من المتاجرة بالأسهم والأوراق المالية إلى المضاربة والمقامرة في ملاعب سباق الخيل وحلبات المصارعة...».

ويرى حمش أن من أهداف الحرب على العراق بعد تخريب اقتصاده، تحريك عجلة الاقتصاد الأميركي، حينها ستنتعش الشركات الأميركية العابرة للقارات عن طريق عقود تعميره. ذلك كله يعني البحث عن حلّ للأزمات الاقتصادية المتوالية من خارج الولايات المتحدة، ولهذا انتعشت دعوات عولمة الرأسمالية وتفعيل فكرة السوق العالمي الواحد الحر على مقاس مصلحة الدول الكبرى، أي بناء علاقات اقتصادية مع الدول النامية غير متوازنة، ففي الوقت الذي يطالبون بحرية انتقال السلع العينية والخدمية التي يتفوقون فيها، يرفضون حرية انتقال الأيدي العاملة التي تتفوق فيها الدول النامية عليهم، مما يقود لتحقيق نفس الأهداف التي تجنيها الآن الشركات الأميركية من خلال عقود إعادة تعمير العراق.في هذه الحالة، فان السوق العالمي المبشر به، حتما سيخرج من حلبته الصغار بالضربات القاضية، ليصبح مسرحا للكبار الأقوياء، الذين سيضطرون لعقد هدنة بل تحالف بواسطة مزيد من الاندماجات كالتي حدثت في ثمانينات القرن الماضي.

أخيرا... نحن والليبرالية الاقتصادية الجديدة (النيوليبرالية)

إن لجوء بعض الدول الرأسمالية كالولايات المتحدة الأميركية لفكرة الليبرالية الاقتصادية الجديدة (النيوليبرالية)، والتي تقصر دور الدولة على الأمن الداخلي والخارجي وتطبق القانون فقط، ناتج عن مشكلات عجزت الكينزية عن حلها، فهل الدول النامية كمملكة البحرين مضطرة لتبني نفس النهج تماما؟ وإذا كانت الديمقراطية ضمانة للتطبيق النزيه والشفاف والبعد عن الفساد والإضرار بالشعب، وإذا كان الشعب من خلال الديمقراطية قادر على دفع السياسيين بين فينة وأخرى لتغيير مناهجهم الاقتصادية لتتلائم مع مصلحته وتطلعاته، فهل أنظمة الحكم القائمة في بلداننا، قادرة على التصليح التلقائي دون الحاجة لصدام مع الشعب نتيجة حرية السوق التي تسمح - على سبيل المثال - بالارتفاع الغير منضبط لأسعار السلع الاستهلاكية؟ الخشية ان يكون هذا التوجه بابا لتخلي الحكومات عن واجباتها تجاه الشعب، دون ان تتخلى عن استبدادها بالقرار دون الشعب

إقرأ أيضا لـ "عباس هاشم"

العدد 1972 - الثلثاء 29 يناير 2008م الموافق 20 محرم 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً