العدد 2165 - السبت 09 أغسطس 2008م الموافق 06 شعبان 1429هـ

«كادر التمريض» والشارات السوداء

منى عباس فضل comments [at] alwasatnews.com

كاتبة بحرينية

ثمة ما يستحق التشخيص والقياس لسمات ظاهرة تشي بها أزمة «كادر التمريض» التي لايزال يتداول في فصولها على مسرح الحدث المحلي، ولاسيما وهي تتفاعل بوتيرة دراماتيكية تدعو إلى التأمل بمسئولية، وخصوصا أنها جاءت في سياق إفرازات الخضات التي يمر بها المجتمع وما يتخلله من تفشٍ للفساد وتزايد لحالات البطالة وارتفاع لمعدلات التضخم والأسعار وتراجع القوة الشرائية للمداخيل وزيادة الفقر وتقلص شرائح الطبقة الوسطى وارتدادها إلى موقع الشرائح الدنيا وتعاظم حدة الوضع الطبقي بين فئات الشعب.

اليوم «كادر التمريض» وغدا... العالم الله!

الملاحظة والمتابعة والدراسة لسمات هذه الأزمة تستوجب من السياسيين والنقابيين والقانونيين فضلا عن باحثي علم النفس والتربية والاجتماع ألا يستهينوا أو يتهاونوا أو يقللوا من نوع وحجم هذا الحدث وإفرازاته. لماذا؟ ببداهة، لأنه لو استمر تكراره وحدوثه في سياق أطواره الطبيعية، فسيكون الوطن بألف خير وعافية! نعم، سيكون بألف خير، ولأسباب عديدة، منها:

حيوية البحريني وتفرده

1 - أنها أزمة، تكشف عن حيوية الإنسان البحريني ومرونته وقابليته واستعداده النسبي للتفاعل مع متطلبات الحياة بل واستيعابه لأحداث التغيير التي فرضت نفسها على المجتمعات الإنسانية فيما يتعلق بنشأة الحركات الاحتجاجية والنظم والتشريعات التي أقرت بوجود مؤسسات أهلية ومهنية تتطلب الفاعلية والاندماج في حركة المجتمع والشراكة والمطالبة بالحقوق والمدافعة عن الحريات والمكتسبات.

بمعنى أن البحريني بخير ولايزال يتمتع بقدرته على تأدية أدواره المجتمعية وممارسة الأنشطة والخروج من مواقع العزلة والخوف والتقوقع اللذين يبلدان «من البلادة» المجتمعات ويحرمانها من فرص التطور والتقدم، كما بينت الأزمة أنه يتحرك في بيئة نماء دينامكية صحية ترفده بالوعي والخبرة والمعرفة، ولاسيما أن الخروج إلى الفضاء العام وكسر حواجز الخوف والعزلة يعزز من الإمكانيات البشرية وتدعم القدرات في بناء أي مجتمع. وهذا بحق مكسب نوعي لابد من احتسابه في صندوق التراكم المجتمعي البحريني دون سواه، وخصوصا أن البحرين دون سواها من دول المنطقة التي تفردت باشتغال أهلها في كل المهن من أعلى المستويات إلى أدناها، ففي مهنة التمريض يمثل البحرينيون والبحرينيات ما مجموعه (3197 ممرضا وممرضة) بعضهم متخصص ويحمل شهادة البكالوريوس والماجستير، وهم من ذوي الكفاءات المهنية العالية وبشهادة الجانب الرسمي. إذا، هذا الأمر، يستوجب أن نفخر به تماما كما نفخر بتعيين وزيرة هنا وسفيرة هناك!

احتجاج سلمي منظم ومسئول

2 - حركة التمريض المطلبية التي تتصدرها «جمعية التمريض البحرينية» برئاسة رولا الصفار، هي بالمناسبة حركة تطالب بتحسين الأوضاع المهنية والوظيفية والمعيشية لأصحاب المهنة، وذلك بإقرار «كادر التمريض» أسوة ببقية المهن التخصصية الأخرى، وقد بدأت تتشكل أطوارها النوعية بنشاطها في سياق التطور الحقيقي والنوعي للمطالبات التي تقوم بها المؤسسات النقابية الأخرى.

ولا ريب أن هذه الحركة كشفت عن مستوى من مستويات الحكمة والوعي والنضج التي تتطلبها أي حركة احتجاجية، بل إنها أضافت قيمة نوعية إلى التجربة البحرينية المطلبية من حيث الأسلوب النضالي السلمي بما يتلاءم مع الظروف الحالية، بل بينت أنها حركة منظمة ومدروسة وراقية في شكلها ولديها إصرار وجدية حتى هذه اللحظة في السعي إلى تحقيق المطالب. والأهم من هذا وذاك أنها مسئولة أمام نفسها وأمام المجتمع والمواطنين، وخصوصا أن مظاهر هذه المسئولية والنضج اتضحت عبر بدء حركة الاحتجاج بوضع الشارات البرتقالية على صدور الممرضين والممرضات وباتجاه تحويلها - أي الشارات - إلى اللون الأحمر ومن ثم الأسود في حالة تصعيد الاحتجاج والاستمرار في الوقت نفسه بتقديم الخدمات التمريضية والإنسانية بكل تفانٍ وإخلاص ومحبة. كذلك أكدت عزمها للدعوة إلى اعتصام جماهيري وتضامن من قبل الجمعيات الحقوقية والمهنية الأخرى للوقوف إلى جانبهم إيمانا منهم بوحدة الكلمة والتكامل مع الآخرين، ولكن بعد ضبط الترتيبات والحصول على الترخيص بحسب الإجراءات المعمول بها، تقودها امرأة، وانطلقت بتحديد شعارها الاحتجاجي تحت يافطة «أطلقوا سراح كادر التمريض»، على اعتبار أن المطالبة بإقرار كادر التمريض ليس وليد لحظة فزعة، إنما يهدف إلى تحسين أوضاع الممرضات والممرضين الذي طال أمده وما عادت الظروف المعيشية تتحمل المزيد من الصمت والمماطلة، كما تثبت أن الحقوق لابد لها من مطالبين ولابد من انتزاعها، فانتظار المكرمات وحقن العطايا لا يجدي ولا يسمن عن ضرورة ترسيم الحقوق المكتسبة وتثبيتها بقوة القانون والحق والعدالة، لا الوعود والشعارات!

اختراق سببه السطوة والهيمنة

3 - ثمة خلل فاقع أماطت اللثام عنه حركة التمريض الاحتجاجية، ألا وهو ازدواجية الإدعاءات الرسمية وتناقضها فيما يتعلق بعلاقة الدولة بمؤسسات المجتمع الأهلي، فهناك إدعاء بوجود خطط واستراتيجيات للتنمية، ومعلوم أن الأخيرة تتطلب شراكة حقيقية من الأفراد والمؤسسات الأهلية. فالخطاب الرسمي لا يتوانى آناء الليل وأطراف النهار بالتأكيد على ما تحقق من إنجازات على كل المستويات وبأهمية الشراكة، بينما تبين أزمة الكادر لجهة الممارسات الفعلية زئبقية تلك الادعاءات التي عبرت عنها ردود الفعل المتشنجة لوزارة الصحة وقلة حكمة وزارة التنمية الاجتماعية وتباطؤ استجابة ديوان الخدمة المدنية الذين تعاطوا مع الجمعية من منطلق الخصومة لا الاعتراف التبادلي بالآخر والاجتماع معه على طاولة حوار ومن ثم التفاوض، إذ رفضت الوزارة الاحتجاج جملة وتفصيلا وحاولت إسكات الأصوات وتعرض بعض الممرضين ممن علقوا الشارة البرتقالية للتوبيخ أمام مرأى ومسمع من المرضى ولضغوط حيث سجلت بيانات عنهم تمهيدا لمعاقبتهم وغالبيتهم يعملون في وحدات مجمع السلمانية الطبي، فضلا عن منع خمسة ممرضين وممرضات من استكمال برنامج البكالوريوس.

أما بالنسبة لرئيسة الجمعية رولا الصفار، فتم استدعاؤها للتحقيق معها من قبل إدارة الوزارة، وحسنا أن رفضت الحضور إلى لجنة التحقيق. والأنكى من هذا وذاك، هو التدبير الكيدي لإسقاط «جمعية التمريض البحرينية» كخط مواجه في هذه الأزمة، والذي أفصح عنه نية (30) مسئول تمريض بالوزارة عن عزمهم رفع خطاب إلى وزارة التنمية الاجتماعية ومطالبتها باتخاذ الإجراءات اللازمة لحل مجلس إدارة الجمعية، وبالتالي غلق ملف الأزمة بصورة غير مباشرة وإخماد أصل الاحتجاج المطالب بكادر التمريض. مالذي يمكن تفسيره هنا؟

بالطبع، الحكاية ليست غامضة ولا مبهمة، وصدقا ما يحيلنا إليه الباحث باقر النجار في كتابه الجديد «الديمقراطية العصية في الخليج العربي، ص 18 - 19، دار الساقي بيروت 2008»، حينما يشير إلى طبيعة الإشكالية المزمنة الموجودة في مجتمعاتنا والمتعلقة بمفهوم المجتمع المدني ومؤسساته وطبيعة علاقته بالدولة، يفيد: «أنه لا يمكن للمجتمع المدني ومؤسساته الأهلية أن ينشأ إلا في فضاء من العلاقة المتبادلة مع الدولة، وهذا ما يخلق الحرية السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية وهي حرية ليست مطلقة، كما أن العلاقة بين الدولة والمؤسسات الأهلية تأخذ في بعض الحالات مظهر العلاقة النفعية، بل إن بعضها يُخترق (تماما كما تحاول أن تفعله وزارة التنمية مع مجلس إدارة جمعية التمريض)، ويتم الإطاحة به - أي المجتمع المدني - وتقدم الدولة نفسها بدئلا عنه، مما لا يجعل من المنظمات الأهلية والمدنية رديفا للدولة وبوقا لها فحسب، إنما يطيح بأي إمكانية لنموها المستقل، فالعلاقة هنا علاقة هيمنة وسطوة»!

إلى هنا، نخلص من مظاهر أزمة «كادر التمريض» إلى أن الوطن بخير، فلايزال أهله يتمتعون بالحيوية وحب العمل والسعي إلى تحسين ظروفهم المعيشية والارتقاء بواقعهم المهني وتحقيق مطالبهم بالنضال السلمي وشجاعتهم وتصدرهم لحركات احتجاج عصرية سلمية منظمة وناضجة تتسم بالوعي والمسئولية التي تقدر طبيعة المتغيرات المجتمعية وتضع كرامة الإنسان فوق كل اعتبار، بل وتقبل عن قناعة ووعي قيادة امرأة لهذا الفعل الاحتجاجي ذي الذهنية السياسية.

نعم، مجتمعنا بخير وعلينا الفخر بذلك!

إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"

العدد 2165 - السبت 09 أغسطس 2008م الموافق 06 شعبان 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً