العدد 2244 - الإثنين 27 أكتوبر 2008م الموافق 26 شوال 1429هـ

هل التعددية الثقافية مذنبة؟

نادر كاظم comments [at] alwasatnews.com

.

هل التعددية الثقافية مذنبة؟ تقترح مقالة جيل كيبل ونقد صحيفة «لوموند» (اللذان تعرضنا لمناقشتهما في الأسبوعين الماضيين) الجواب بـ «نعم» على هذا السؤال. وكان قد سبق لجيل كيبل نفسه، قبل تفجيرات لندن بعام واحد، أن اعترف بأن «الأراضي البريطانية كانت لا تزال تتمتع بمناعة حيال الهجمات الإرهابية»، إلا أنه عاد بعد بضعة أسطر ليوجّه اتهاما استباقيا لـ «عقيدة الثقافات المتعددة التي لطالما دعا إليها الإنكليز والتي تمتدح النمو الثقافي المنفصل للجماعات العرقية أو الدينية ذات الأصول الأجنبية» (الفتنة: حروب في ديار المسلمين، ص289). وحين وقعت التفجيرات عاد كيبل يتحدث بثقة منقطعة النظير عن صدق اتهامه أو نبوءته السابقة. وعلى الرغم من أن نقد التعددية الثقافية البريطانية كان كثير الرواج بين المثقفين العلمانيين الفرنسيين، إلا أنه لم يقتصر عليهم، فالبريطانيون أنفسهم كانت لهم مآخذ جمة على هذا النموذج، وقبل تفجيرات لندن بعام كذلك خرج تريفور فيليبس، رئيس «لجنة المساواة العرقية» CRE في المملكة المتحدة والذي رأس «أمانة رينميد» (1993 - 1998) التي أصدرت «تقرير باريخ»، بنقد لاذع للتعددية الثقافية، وطالب بوضع حد لهذه الظاهرة التي «لم تعد ذات نفع في بريطانيا الحديثة»، بل تقود إلى الانفصال بدل الاندماج والقيم المشتركة الممثلة في تمجيد الهوية البريطانية والديمقراطية وحرية التعبير وحكم القانون.

أما بعد التفجيرات فقد تعرضت التعددية الثقافية لسيل عارم من الانتقادات، فقد كتب ميشيل بورتيللو في «الصن دي تايمز» في 17 يوليو/ تموز 2005 بأن «التعددية الثقافية فشلت»، وأنه صار «لبلدنا الحق في التشديد على قيمها، وفي مطالبة كل من يعيش هنا أن يمتثل لقانوننا ويحترم معاييرنا». كما استنتج وليم بفاف في «الأوبزيرفر» في 21 أغسطس/ آب 2005 بأن تفجيرات لندن هي «نتيجة للتعددية الثقافية»، وأن نصف قرن من حسن النية انتهت «بأخطاء كارثية لسياسة التعددية الثقافية.

فعدم الميل، أو حتى العداء لفكرة الاندماج الثقافي والاجتماعي، أنتج في بريطانيا وفي كثير من مناطق أوروبا متعلمين جيدا للتكنولوجيا، إلا أنهم أنصاف مثقفين من المهاجرين غير المندمجين أخلاقيا وثقافيا. وخلص مارتن وولف في «الفايننشال تايمز» في 31 أغسطس 2005 إلى أن التعددية الثقافية أصبحت خطرة «لأنها تدمّر المجتمع السياسي، وتقلل من قيمة المواطنة، ولهذا ينبغي التخلص منها لأنها مجرد هراء». ويواصل تريفور فيليبس، مرة أخرى، هجومه على التعددية الثقافية التي تقود البريطانيين وهم نيام إلى الانفصال والانقسام والغربة. جاء ذلك في خطاب ألقاه فيليبس في «مجلس مانشستر لعلاقات الجماعة» بجامعة مانشستر في 22 سبتمبر/ أيلول 2005، وفي هذا الخطاب تحدث فيليبس عن التعددية الثقافية بما هي سبب من أسباب تفجيرات لندن، كما أنه لا يرى في التعددية الثقافية سوى أنها صيغة لتقسيم المجتمع وانفصاله، يقول: «إننا، في السنوات الأخيرة، ركّزنا كثيرا على «التعدد» ولم نركّز بصورة كافية على الثقافة المشتركة، وشدّدنا على ما يفرّقنا أكثر مما يوحّدنا، وسمحنا للتسامح مع التنوع لأن يهوي بنا إلى العزل الفعلي للجماعات».

ربما انطوت التعددية الثقافية في بعض صيغها وتحليلاتها على الهراء، وربما تسبّبت هذه الصيغ في عزل الجماعات وتقسيمها، إلا أن التعامل معها باستخفاف هو جزء من هذا الهراء. ولهذا السبب فإن الإجابات السابقة في معظمها ليست أكثر من استجابات عاطفية مستفَزَّة ولا تخلو من المغالطات. هناك بالطبع إجابات أخرى تقف على النقيض مما ذهبت إليه الأولى، من بينها إجابة جيمس غولدستون، مدير «مبادرة عدالة المجتمع المفتوح» في أميركا (OSJI). فقد نشر غولدستون مقالة في 30 أغسطس 2005 في «انترناشونال هيرالد تربيون» تحت عنوان «التعددية الثقافية ليست مذنبة». بدت المقالة وكأنها ردّ مباشر على تلك الإجابات التي ألقت باللائمة على التعددية الثقافية. وبحسب غولدستون فإن «التعددية الثقافية ذهبت بعيدا، وإن بعض المراقبين قالوا إنها ستقود إلى نظام فصل عنصري طوعي voluntary apartheid وتنمية منفصلة للجماعات العرقية المتعددة في بريطانيا»، إلا أن هذا لا يعني أن على بريطانيا أن تتخلص من «انفتاحها التاريخي على الآخرين»؛ لأن هذا سيكون خطأ كبيرا. كما أنه لا يجوز استخدام التهديد الحقيقي الذي يمثله الإرهاب من أجل «تبرير استبعاد أكثر من ربع قرن من الإنجازات البريطانية في مجال العلاقات العرقية». وإذا كانت مكافحة الإرهاب أولوية في بريطانيا وفي أوروبا فإن المدخل الصحيح لذلك ليس إبادة التنوع والتضييق على الأقليات والجماعات العرقية في المجتمع، بل ينبغي أن يكون من خلال تعزيز حكم القانون ورعاية الفرص المتساوية للجميع. وإذا كانت جذور الإرهاب كامنة في نقص الولاء بين المسلمين البريطانيين وشباب آخرين فإن ما هو مطلوب ليس التخلص من التعددية الثقافية أو التعامل معها كما لو كانت «هراء»، بل المطلوب «مزيد من عمل الدولة في رعاية تكافؤ الفرص».

تفترض إجابة كيبل وآخرين أن التعددية الثقافية تنطوي على شرّ خطير، وأن ظواهر العنف والإرهاب والتطرف هي من نتائج هذا النموذج. إلا أن غولدستون يشير إلى حقيقة مهمة في هذا السياق، وهي أن «الإرهاب ليس محصورا في البلدان التي تشجع التنوع الإثني. وفي المقابل فإن الإرهاب يزدهر في المجتمعات التي تقمع المعارضة المشروعة، وتفتقر إلى المؤسسات الأساسية للحكم الصالح»، والأمثلة على ذلك كثيرة حيث ضرب الإرهاب دولا في العالم الثالث، وبقي شبحه مخيما على بقية الدول التي سلمت من ضرباته في هذه المنطقة، وهي دول لا دخل لها بالتعددية الثقافية ولا بما تنطوي عليه من «هراء». فكيف يمكن الربط بين هذه الحقيقة وبين استنتاجات كيبل والآخرين حول أخطار التعددية الثقافية المزعومة؟ لا يمكن لهذا الربط أن يستقيم لأن التعددية الثقافية أساسا ظاهرة ثقافية ترتبط بالسياسات المحلية، في حين أن الإرهاب الراهن ظاهرة عسكرية تتسم بطابع دولي معولم؛ لأنه يضرب في الدار البيضاء كما في نيويورك، في اليمن كما في لندن، في عمّان كما في مدريد، في شرم الشيخ كما في بالي، وهكذا دون تمييز بين دولة تتبنى التعددية الثقافية وأخرى تقمع التعددية الثقافية أو لا تعرفها ولا تعترف بها.

كل هذا لم يمنع ديفيد هايس، المحرر في موقع OpenDemocracy في بريطانيا، من الاستنتاج بأن تفجيرات لندن وضعت بريطانيا بين خيارين لا ثالث لهما: العلمانية أو التعددية الثقافية، هكذا وكأن التفجيرات الإرهابية معنية بأن تكون بريطانيا علمانية أو متعددة الثقافات. لقد انخرط ديفيد هايس في الجدل الدائر حول تفجيرات لندن، واستنتج أن «تفجيرات لندن فتحت حقبة جديدة في تاريخ بريطانيا، وأثارت بين البريطانيين سؤالا مقلقا حول نوع البلد الذي يريدون العيش فيه». وبحسب هايس فإن الدرس المستفاد من تفجيرات لندن هو أن على بريطانيا أن تختار بين: 1 - أن تكون علمانية راديكالية على الطريقة الفرنسية، أو 2 - أن تكون تعددية ثقافية راديكالية، وعندئذٍ سيكون عليها الاعتراف بمؤسسات خاصة بالمسلمين كأن يكون هناك برلمان خاص بالمسلمين. أما طارق مودوود، وهو أستاذ علم الاجتماع بجامعة بريستول وعضو اللجنة التي كلفت بإعداد «تقرير باريخ» حول «مستقبل بريطانيا كدولة متعددة الأعراق»، فيرى أن خيارات بريطانيا ليس بهذه الصرامة التي يقترحها هايس، وأنه بالرغم من كل الجدل الذي دار حول التعددية الثقافية إلا أنها مازالت مشروعا سياسيا جذّابا ويستحق الاهتمام والتطوير. وبحسب مودوود فإن الدرس المستفاد من تفجيرات لندن ليس أن نضع أنفسنا بين خيارين صارمين كما يقترح هايس، وليس بأن نلقي باللوم على التعددية الثقافية كما يقترح كيبل وآخرون، بل أن نعي «أننا بحاجة إلى المضي قدما بالتعددية الثقافية، ولكن بشرط أن تكون تعددية ثقافية متحالفة، وهذا بالفعل هو الوجه الآخر من العملة، مع الهوية البريطانية النشطة والمتجددة». وفي السياق ذاته أصدر منتدى المسلمين البريطانيين، وبموافقة أكثر من 500 رجل دين، بيانا في 18 يوليو 2005 استنكر فيه تفجيرات لندن بلهجة حادة، ووصفها بأنها عمل إجرامي لا دخل له بالاستشهاد ولا بالإسلام بوصفه دينا يدعو للتسامح والسلام ويرفض العنف وقتل الأبرياء. وفي الخاتمة يدعو البيان إلى «السلام والأمن والتآلف من أجل انتصار بريطانيا العظمى المتعددة الثقافات». وهذا يعني، من منظور البيان، أن الدولة متعددة الثقافات مازالت صيغة قابلة للحياة، وأن هذه التفجيرات الإرهابية لا ينبغي أن تمحوها. واللافت حقا أن مؤسسة موري للأبحاث الاجتماعية أجرت استطلاعا لحساب هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) في أغسطس 2005، وأشار الاستطلاع إلى أن غالبية البريطانيين يؤيدون التعددية الثقافية، وأن 62 في المئة من البريطانيين يعتقدون أن «التعددية الثقافية تجعل بريطانيا مكانا أفضل للحياة»، فيما رأى 87 في المئة من المسلمين البريطانيين «أن التعددية الثقافية حسّنت من المجتمع البريطاني». وقد شمل الاستطلاع آراء 1004 أشخاص في المملكة المتحدة، كما أُجرِي مسح شمل 204 مسلمين بريطانيين بغرض المقارنة.

ولكن، إذا لم تكن التعددية الثقافية مذنبة، فهل يمكن أن تكون الضحية المراد تصفيتها؟ نترك النقاش حول هذا السؤال إلى إلأسبوع المقبل

إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"

العدد 2244 - الإثنين 27 أكتوبر 2008م الموافق 26 شوال 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً