العدد 2258 - الإثنين 10 نوفمبر 2008م الموافق 11 ذي القعدة 1429هـ

التعددية الثقافية أم المحافظة الثقافية

نادر كاظم comments [at] alwasatnews.com

.

يقوم خطاب الاستشراق الذي تعرّضنا له في مقالة الأسبوع الماضي على اختزال التنوع، وتنميط البشر في «طبائعهم» الثابتة، والتعامل معهم ككتل صماء موحدة. ووفق هذا المنطق، وبالعودة إلى تفجيرات لندن مرة أخرى، فإن التعددية الثقافية ليست مذنبة بحد ذاتها، بل هي مذنبة لأنها سمحت لأصحاب هذه «الطبائع» العنيفة أن ينتعشوا بحرية، وأن يحظوا باعتراف رسمي سمح لهم بالتكاثر، وغذّى تطرفهم بالمزيد من خطابات التحريض المستقاة من الإنترنت والخطب والكاسيتات. وغاب عن هذه التفسيرات وأصحابها أن ثمة سبعة مسلمين من بين ضحايا تفجيرات لندن الـ52، فماذا عسانا نسمي هؤلاء السَّبعة؟ هل هم إرهابيون وعنيفو الطباع بما أنهم مسلمون؟ أم إنهم ضحايا أبرياء مثلهم كمثل بقية الضحايا الآخرين؟

لا تجوز المساواة بين الضحايا المسلمين السَّبعة وبين أولئك الإرهابيين الذين نفّذوا التفجيرات، لا لشيء سوى أنهم ينتمون إلى دين واحد. فهذا اختزال ظالم يساوي بين الجاني والضحية، بين المذنب والبريء. ومع هذا فإن كثيرا من تلك التحليلات تصر على هذا النوع من الاختزال المجحف.

والحقيقة أن هذا النوع من التَّحليلات هو الذي سمح بانخراط مستشرقين قدامى وجددا في الجدل الذي دار حول تفجيرات لندن وتورط التعددية الثقافية فيها؛ لأن كل واحد من هؤلاء أصبح خبيرا في اختزال المسلمين وتشخيص «طبائعهم» وسماتهم الرَّازحة منذ القِدم. وبسبب هذه التحليلات صار الرَّبط بين التعددية الثقافية والإسلام متواترا، وصار الحديث عن التعددية الثقافية يثير حفيظة كثير من الباحثين والمراقبين لا لشيء إلا لأنها ستسمح بانفجار عنف المسلمين وهيجانهم في المجال الأوروبي العام.

لم تكن التعددية الثقافية مذنبة، وربما لم تكن ضحية في تفجيرات لندن، إلا أن الثابت هو أن كل التشويه الذي طال التعددية الثقافية في الغرب في السنوات الأخيرة إنما يعود إلى ظروف متصلة بالإسلام والمسلمين.

تشارلز تايلور نفسه، وهو أبرز منظري التعددية الثقافية، لاحظ أن مصطلح «التعددية الثقافية» أصبح مثيرا للريبة وسيئ السمعة في أوروبا والعالم، وأن الأسباب الكامنة وراء ذلك «تكاد تكون متعلقة جميعها بالإسلام». هذه حقيقة، إلا أنها لا تكتسب مكانتها في عالم الحقائق إلا من خلال ضرب من التفكير أطلق عليه تايلور، في إحدى مقالاته التي تحمل العنوان ذاته، مصطلح «تفكير القطيع» Block Thinking، وهو نوع من التفكير الجماعي المنمط الذي يختزل صاحب الفكرة وموضوع التفكير في الوقت ذاته، فالأول عليه أن يتبنى وجهة نظر موحدة ومنمطة تجاه الإسلام والمسلمين، والثاني عليه أن يتسم بطبائع موحدة وثابتة ومنمطة. إنه تفكير يحوّل الطرفين: الغرب والإسلام، إلى ضرب من القطيع الذي تتشابه ألوانه وأشكاله وطبائعه وطرائق تفكيره. إنه باختصار، تفكير يختزل الإنسان.

أمارتيا صن، عالم الاقتصاد الهندي والحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد في العام 1998، كان من بين الذين انخرطوا في النقاش الدائر حول التعددية الثقافية بعد تفجيرات لندن، وأصدر في العام 2006 كتابا بعنوان: «الهوية والعنف»، وخصّص الفصل الثامن منه لمناقشة «التعددية الثقافية والحرية». ويلاحظ أمارتيا صن أن النظرة إلى بريطانيا كدولة متعددة الأعراق أو كاتحاد فيدرالي للأديان والثقافات، قد حازت الكثير من التأييد في بريطانيا، إلا أنها، من منظوره، ليست إلا محاولة «لوضع الناس داخل صناديق صارمة لجماعات محددة» (الهوية والعنف، ص160)، كما أنه لا ينبغي أن تمرّ علاقة شخص ما بدولته من خلال وساطة «ثقافة» العائلة أو الجماعة التي ولد فيها؛ لأن حرية الاختيار ينبغي أن تكون متاحة لكل شخص ليقرر هو ماذا كان يريد أن ينتمي إلى هذه الثقافة أو تلك، أو أن يقرر «التقارب مع أكثر من واحدة من تلك الثقافات»، أو حتى «ألا ينتمي إلى شيء منها»، أو يقرر أن هويته العرقية أو الثقافية أقل أهمية بالنسبة إليه من قناعته السياسية أو التزاماته المهنية أو أي شيء آخر.

هذه ملاحظة صائبة، لأن تقدير التعددية الثقافية للجماعة وثقافتها قد يبلغ حدّا تكون فيه قرينة «المحافظة الثقافية» حيث تكون قيم الجماعة وعاداتها ومعتقداتها ثابتة ضد محاولات التغيير والتعديل، ومصانة ضد النقد الذي قد يطولها. وعندئذٍ لا نكون أمام «تنوع ثقافي» بقدر ما نكون أمام «تعدد للثقافات الأحادية» حيث كل ثقافة تعيش في مدارها الخاص وضمن حدودها - الرمزية والجغرافية - التي تؤمّن لها العزلة عن الآخرين وعدم التَّفاعل معهم.

وحين تتحوّل التعددية الثقافية إلى ضرب من ضروب المحافظة الثقافية، فإنها قد تقوم باختزال الأفراد في كونهم أعضاء، وأعضاء فقط، في جماعة من الجماعات. فكما أنه لا يجوز اختزال البشر في كونهم مجرد أرقام أو ذوي «طبائع ثابتة»، فكذلك لا يجوز اختزال وجود الفرد في كونه مجرد عضو في جماعة من الجماعات، كما لو كانت هذه العضوية هي «مصيره الحتمي»، وهي مبتدأه ومنتهاه.

هذا النوع من التفكير الذي يختزل الوجود الإنساني هو ما ينبغي الشروع في مقاومته ومواجهته سواء جاء من التعددية الثقافية أم من توجهات مناوئة للتعددية الثقافية. فالاختزال اختزال من أي جهة صدر. فإذا كان علينا أن نفضح ذلك الاختزال الذي انطوت عليه كتابات خصوم التعددية الثقافية من أمثال برنارد لويس وصمويل هنتنغتون وجيل كيبل وآخرين، فإن علينا ألاّ نتجاهل حقيقة أن ثمة أطروحات في التعددية الثقافية لا تسلم من هذا النوع من الاختزال، وهو ما سنعود إلى مناقشته في مقالات مقبلة.

وإذا عدنا إلى مقالة بيخو باريخ حول «المسلمين في بريطانيا»، والتي تعرّضنا لها في مقالة الأسبوع الماضي، فسنكتشف أنه يتحدث عن المسلمين كما لو كانوا جماعة واحدة متماسكة ومتراصة ولديها مواقف ثابتة تجاه كل شيء بما في ذلك موقفهم من التعددية الثقافية، وقد أوضحنا أن هذا النوع من التعميم غير صحيح، وأن استطلاع مؤسسة موري في أغسطس/ آب 2005 أثبت أن 82 في المئة من مسلمي بريطانيا يؤيدون التعددية الثقافية.

والأهم من هذا، فقد أظهر هذا الاستطلاع أن مسلمي بريطانيا ليسوا كتلة صماء محكومة بأحادية الموقف والتوجه فيما يتعلق بقضايا مهمة وحسَّاسة مثل قضية الحجاب، حيث أظهرت نتائج الاستطلاع أن 16 في المئة من المسلمين البريطانيين يؤيدون خلع الحجاب، بل قالوا إنه يتعيّن إجبار الطالبات المسلمات اللائي يرتدين الحجاب على خلعه!

من المؤكد أن هذا الموقف الأخير لا يمتُّ إلى الدِّيمقراطية والحرية الدينية بأية صلة، إلا أنه يثبت أن الحديث عن المسلمين كجماعة موحدة وأحادية لا يخلو من اختزال للمجال التعددي في الإسلام أو في غيره من الأديان والثقافات.

وإذا كنا قد افتتحنا هذه السلسلة من المقالات بالدِّفاع عن التعددية الثقافية، فإن هذا لا يعني القبول بعيوبها الخطيرة على علاتها. ولهذا سنسعى إلى تطوير مقاربة نقدية للتعددية الثقافية بهدف التمييز بين ما تنطوي عليه التعددية الثقافية من قيم إيجابية ترفض الظلم أو التمييز الذي يقع على أناس لا لسبب سوى أنهم أبناء هذه الجماعة أو تلك، وبين ما تنطوي عليه، في الوقت ذاته، من مظاهر القسر والإكراه التي تمارسها الجماعة على أفرادها باسم المحافظة الثقافية واحترام قيم الجماعة وتقاليدها ومعتقداتها.

والخلاصة أننا بحاجة إلى تطوير صيغة أكثر عدالة وإنسانية من التعددية الثقافية، صيغة تنهض على الحرية، وتحفظ للفرد حقه في أن ينتمي إلى الجماعة التي يختارها، كما تحفظ حقه في عدم الانتماء إلى أية جماعة إذا ما هو أراد ذلك، سواء كانت هذه الجماعة دينية أو ثقافية أو عرقية أو جنسية أو طبقية أو مناطقية أو مدنية

إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"

العدد 2258 - الإثنين 10 نوفمبر 2008م الموافق 11 ذي القعدة 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً